زهير هواري
لم يكن ما ذكره نائب رئيس الحكومة والخبير النقدي، والمنخرط في النقاش مع المؤسسات المالية الدولية، وخصوصاً صندوق النقد سعادة الشامي، زلة لسان استدرجته إليها الزميلة التي حاورته. وما أعلنه ترك ارتدادات واسعة بمجرد قوله إن الدولة مفلسة والمصرف المركزي مثلها، وكذلك المصارف. ما يعني أن جميع المعنيين مفلسون، باستثناء المودعين مقيمين ومغتربين. وعليه، المطلوب ليس سوى الاتفاق على إدارة هذه التفليسة. وهو أمر اضطر معه الرئيس نجيب ميقاتي على طريقته في التشاطر و”تدوير الزوايا”، للقول إن الشامي أراد بإعلانه دعوة الجميع إلى تحمّل المسؤولية عن هذا الوضع الصعب. وما ذكره الشامي يستتبع الاستنتاج أن على المودعين أن يتحملوا أعباء هذا الوضع. وفي تكرار عملية الترويج للإفلاس من جانب أصحاب القرار السياسي – المالي، دعماً لتمرير مشروع قانون “الكابيتال كونترول”، بوصفه أداة سريعة لتسهيل الخروج من الأزمة، وتسهيل التفاوض مع صندوق النقد الدولي. خصوصاً أن النسخة المنقحة والمزيَّدة من المشروع المطروح ليست أقل من وضع اليد على البقية الباقية من أموال المودعين. ومن المعلوم أن السلطة السياسية كحكومة ومجلس نواب قد تأخرت في إقرار هذا القانون سنوات، حتى بات دون جدوى، أو مضمون فعلي كمدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فضلاً عن العمل على تبرئة السلطة والمصارف من جريمة اهدار أموال المودعين. وما أشار إليه الشامي يثير الكثير من الأسئلة لجهة المقصود منه في هذا الوقت بالذات، بما يحمله من دعوة مضمرة إلى بيع موجودات المصرف المركزي ( الذهب خصوصاً )، والدولة بما تملكه من أصول وممتلكات للتعويض على المتضررين. والأهم من ذلك كله كيف تتم عملية توزيع الخسائر بين الفئات المعنية، بما هي الدولة والمصرف المركزي والمصارف والمودعين؟
يعتمد ما قاله الشامي الحل الذي يعبر عنه قانون “الكابيتال كونترول”، على تبرئة منظومة السلطة عن مسؤولية الوصول بالأوضاع إلى ما وصلت إليه، وسط الاعتراف بأن امكانات الدولة باتت أكثر من شحيحة، وبما أن “قيمة الودائع الأجنبية في القطاع المصرفي ومصرف لبنان، بالإضافة إلى الذهب، ليست أكثر من 35 مليار دولار”، أي أن المصارف والمركزي لا يستطيعان تأمين السيولة الكافية، فعلى المودعين تكبّد الجزء الأكبر من هذا العبء لتسيير الأمور. ولذلك، يقول الشامي “لا نستطيع فتح السحوبات لكل الناس”. ويريد الشامي إقناع المودعين بأن هذه النتيجة هي “حقيقة لا يمكن تجاهلها ولا يمكن أن نعيش في حالة إنكار”.، أي أن ما نشهده الآن هو حلقة إضافية من التلاعب بودائع اللبنانيين وغيرهم، وهو غيض من فيض ما يُدبر لأموالهم.
اذن يطابق ما أعلنه الشامي دعاوى الإفلاس الاحتيالي المعروفة، لأن المتضررين سيدفعون كلفة الانهيار من جيوبهم، وكأنهم أصحاب القرار الذي قاد إلى الكارثة. دون حد أدنى من المساءلة للمسؤولين الفعليين عن الأسباب والسياسات التي قادت إلى مثل هذا الوضع الكارثي، ومطالبتهم بإعادة الأموال المنهوبة، أو مصادرتها، سواء أكانت في الداخل أو الخارج. وبذلك يصبح المودعون هم الضحية السهلة المنال، بالنظر إلى تعذر محاسبة الدولة والمصرف المركزي والمصارف عن هذا الانهيار. ولعله لهذا السبب يدور التحقيق الجنائي في حلقة مفرغة دون الوصول إلى نتيجة ملموسة، باستثناء ما تقوم به الرئيسة غادة عون من عنتريات قضائية استنسابية تدخل في باب تصفية الحساب مع الخصوم في معركة رئاسة الجمهورية.
بين مجلسي النواب والوزراء
يجب ربط ذلك كله مع رفض اللجان النيابية مواصلة نقاش مشروع “الكابيتال كونترول” كما كان معروضاً على مجلس النواب، وإعادته إلى الحكومة. وهو ما لا يحدث للمرة الأولى حول مشاريع سابقة. على أي حال، كل هذا قاد إلى مواصلة السياسات إياها لأكثر من ثلاثة أعوام، والتي انتهت إلى إشهار الافلاس. وهنا علينا أن نتذكر كيف جرى استنزاف الأموال من المصرف المركزي وأموال المودعين، وذهب قسم كبير منهما على الدعم الذي كان يجد طريقه إلى جيوب كبار المسؤولين من خلال التجار المحتكرين والمهربين، وصولاً إلى العجز الراهن عن تأمين أثمان شراء القمح وألأدوية لمرضى السرطان، وإحالة أسعار المحروقات على سعر منصة “صيرفة”، ما أدى إلى رفع أسعار المشتقات النفطية على النحو السائد في السوق حالياً. إذن نفض مجلس النواب يده من المشروع المطروح عليه، وأعاده إلى مجلس الوزراء، الذي سارع إلى وضعه على جدول أعماله، طالما أن وفد صندوق النقد الدولي في بيروت للتفاوض. على أن ما فعله مجلس النواب لم يكن بريئاً البتة، باعتبار أن أركانه وقوى المحاصصة فيه تستعد للدخول قريباً في معمعة الانتخابات. ولا تريد أن تتحمل مسؤولية إضافية، بالنظر إلى ما يتضمنه المشروع من بنود وقرارات تنعكس سلباً بالضرورة على اقبال المقترعين على تأييد “الجهابذة” المشرِّعين المرشحين. بالطبع جرى ذلك كله تحت ذريعة الحرص على أموال المودعين. وقبل إقرار مجلس الوزراء للمشروع معدَّلاً عُقدت خلوة بين الرئيسين ميشال عون ونجيب ميقاتي، ثم انعقد مجلس الوزراء وناقش بندين متفجّرين على جدول أعماله. الأول يتعلق بمشروع عقد استقراض الحكومة من مصرف لبنان، والذي أعدّه وزير المال يوسف الخليل، بعد رفض حاكم المصرف المركزي رياض سلامة تمويل التزامات لبنان الخارجية بالعملة الأجنبية، ومعها المستحقات المتعلقة بديون متوجبة الدفع للبنك الدولي ولمقرضين آخرين. فضلاً عن دفعات اضطرارية متعلقة باستيراد القمح والأدوية وسواها. والثاني، هو مشروع “الكابيتال كونترول “الذي سبق وردّته اللجان المشتركة إلى الحكومة لعدم وروده ضمن الأصول وعدم موافقة غالبية الكتل النيابية عليه”.
بعيداً عما أدلى به وزراء الثنائي الشيعي في مجلس الوزراء من مواقف شعبوية عن التهرب من المسؤولية والاستكراد – وصفاً للاستقراض – وسحب أموال الاحتياط وغيرها دون علم من أين تأتي وإلى أين تذهب كونها من أموال المودعين، وبالتالي هل يجوز أن يقرض مصرف لبنان الحكومة من هذه الأموال؟ بصرف النظر عن ذلك كله، أقر مجلس الوزراء مشروع القانون بأقل التعديلات الممكنة، تاركاً مهمة إسقاطه لمجلس النواب لعلمه المسبق بأنه “لن يمرّ في الهيئة العامة”.
تعديلات تطيح بالدستور والقوانين
وقد اتخذت التعديلات شكلاً أكثر خطورة عما ورد قبلاً. فالنسخة المعدّلة تجرّد المواطنين كافة، وليس المودعين وحسب، من حقهم باللجوء إلى القضاء. ولا تعدهم بالطبع باستعادة أموالهم، ولا تضع أي أطر للإفراج عن ودائعهم مستقبلاً. وحدها جملة “يتيمة” وردت في النسخة المعدّلة حول “حماية المودعين من خلال الحفاظ بقدر الإمكان على الأصول بالعملات الأجنبية في القطاع المصرفي”. وعبارة “بقدر الإمكان” الواردة حمّالة أوجه واجتهادات وتفسيرات واسعة، أما باقي المواد التي طرأ عليها تعديل، فتخفي “تشكيلة دسمة ” من الجرائم بحق المودعين وعموم اللبنانيين.
في المقابل تضمنت الصيغة، عشرات المخالفات والتجاوزات، أبرزها الصلاحيات المطلقة الممنوحة للجنة الخاصة، ومنع فتح حسابات مصرفية جديدة، وغيرها من الشوائب. اذ يتجاوز هذا القانون ما عداه من قوانين عامة وخاصة أينما وجدت. إذ أورد صراحة تجريّد المودعين وعموم المواطنين من كل حقوقهم باللجوء إلى القضاء في ملف المصارف وممارساتها، ما يطرح أسئلة عن البديل عن القضاء لتحصيل الحقوق؟ وما ورد في الاقتراح يجعل مشروع دولة اللاقانون الذي يدار وفق عقلية “المزرعة” هو السائد. كونه يلغي الدعاوى القضائية بمفعول رجعي، أي الدعاوى القديمة والجديدة، ومعها كل القوانين التي تحمي حقوق المودعين، ويحرمهم حق الإدعاء الشخصي. ثم أن اللجنة المناط بها الإشراف على تنفيذه تملك من صلاحيات القانون والسلطات ما يجعلها سلطة أقوى وأعلى مما يتضمنه الدستور نفسه، فقراراتها نهائية ومبرمة، وغير قابلة لأي طريق من طرق الطعن، بما فيها العقوبات التي تقررها. كما أن المجلس المركزي لمصرف لبنان، يقرر ما إذا كان ضرورياً تحريك الدعوى العامة في حال المخالفة. بمعنى آخر، القانون المذكور يجرّد الإنسان في لبنان من الحمايات التي يتمتع بها بموجب الدستور من صيانة الملكية الخاصة وحماية القوانين بما فيها حق اللجوء إلى القضاء.
كل ما في الأمر أنّ الحكومة أرادت أن “تبرئ ذمتها” أمام وفد صندوق النقد الدولي باعتبارها قامت بالمطلوب لناحية إقرار “الكابيتال الكونترول”، وأشاعت أنها توصلت إليه وجرى تحضير مسودّته بالتشاور مع المعنيين بالملف اللبناني في الصندوق، الذي نفى أن يكون قد اطلع “على المسوَّدة ولم يتدخل في صياغتها”.
ولم تقتصر التعديلات على اقتراح قانون الكابيتال كونترول والمواد المرتبطة بمنع الناس من ممارسة حقهم باللجوء إلى القضاء، بل تضمن تعديلات شكلية، كاستبعاد وزير الاقتصاد من اللجنة التي تتولى الإشراف على تطبيق القانون، والإشارة إلى تعيين اقتصادييّن وقاض ليكونوا من ضمن أعضاء اللجنة. كذلك قلصت مدة القانون من 5 سنوات إلى سنتين قابلة للتجديد. وبعيداً عن التجاوزات الواردة في صلب اقتراح الكابيتال كونترول والتي طالت المودعين القدامى والجدد على حد سواء، فإنه يبقى خارج سياقه الطبيعي، باعتبار أن إقراره يأتي في ظل غياب توحيد سعر الصرف وغياب الموازنة العامة وأي وجه من أوجه الإصلاح. من هنا، لا يمكن اعتبار إقراره سوى عملية إنكار إضافية وقفز فوق الأزمة والتعامي عنها.
كذلك شملت التعديلات تركيبة اللجنة، فأصبحت “برئاسة وزير المال وعضوية حاكم مصرف لبنان وخبيرين اقتصاديين معيّنين، وقاض من الدرجة 18 وما فوق”. ما يعني أنّ “القرار في اختيار اعضاء اللجنة سيبقى في يد السلطة السياسية”، كاستمرارية للسير في نهج “التذاكي واستغباء العقول” الذي مارسته الحكومات السابقة أيضاَ ، بينما الأزمة تزداد شمولاً واتساعاً.
Leave a Comment