بول طبر*
المكان لا ينفصل عن الزمان، والعكس صحيح أيضاً. إلا أن العلاقة بينهما لا يمكن حصرها في ذلك لا غير، بل تتعداها إلى ما هو أبعد من هذا القول. فنلاحظ مثلاً أنه في ظل ظاهرة الهجرة وتصاعد وتيرة التنقل في العصر الراهن وسهولته، يمسي استحضار زمان ما ومكان ما لا ينحصران في أي موطن تسكن فيه. فها أنا استحضر أمكنة وأزمنة معينة في لبنان في الوقت الذي أنوجد فيه على أرض مدينة سيدني.
ويمكن لهذا الإستحضار أن يكون رمزياً ومتخيلاً، أو أن يكون مادياً ومصحوباً بالرموز والمعاني (مراكز عبادة، صور، أيقونات، مزروعات منزلية مشابهة لما هو موجود في الوطن الأم، فروع حزبية، وسائل إعلام ورقية وبصرية، ملابس تقليدية، إلخ. أي كل ما يشار إليه بتعبير “جماليات الدياسبورة”). أضف أن تكنولوجيا التواصل بمختلف أشكالها، وخصوصاً تلك المتعلقة بنقل المعلومة (الخبر) والصورة مباشرة، تنقل إليك المكان والزمان (الزمكان) اللذين تختارهما دون أن تغادر الموطن الذي تنوجد فيه.
إذن نحن في زمن لم يعد فيه الوجود الفيزيائي في مكان ما وفي زمن ما شرطاً حصرياً لاختبارهما. وهو بالمناسبة إختبار يختلف عن إختبار المكان والزمان المؤسْطرين كما في المجتمعات التقليدية. إنه إختبار لأمكنة وأزمنة فعلية، دون أن يعني ذلك أن هذا الإختبار يتطابق بالضرورة مع الواقع.
هذه الوقائع تجعل من الأزمنة والأمكنة تتداخل
(Chronotope)
وتصبح مسيَّلة، غير صلبة (هذا جانب مما يشير إليه بومِنْ باستخدامه لمفهوم “الحداثة السائلة”).
في الواقع يشير مفهوم “الحداثة السائلة” إلى ما هو أعم مما نشير إليه، إنها الحالة حيث لم تعد الإنتماءات والشعور بالتضامن الجماعاتي متوفراً أو قابلاً للإستمرار، وتواجه الفرد سلسلة من الأزمات الإجتماعية والنفسية المتواصلة.
إنها أزمة التحلُّل من الإنتماءات الجماعاتية التقليدية-عشائرية/عائلية، مناطقية، إلخ. والحديثة-هوية وطنية، نقابية، مهنية، طبقية، إلخ.، وفي الوقت نفسه، إنها أزمة فقدان الشعور بالرضى بمجرد، أو بالرغم من، الإستناد إلى الذات “الحرة” والنزعة الفردانية التي تلازمها. الأزمات بنيوية والصراعات متعددة، أما الضحايا، فلا يملكون لا الأدوات المؤهلة للدفاع عنهم وعن كرامتهم، ولا القدرة على استيلادها.
على مستوى عام، يجوز السؤال عمّا يحدث في المجتمعات التي ارتبطت بصعود وتطور الرأسمالية بمختلف أوجهها، والتحقت (أو أُلْحِقت) بها، ولم تفلح في صناعة الثقافة والمؤسسات المشابهة، ولا البنية الإقتصادية الندية، لما هو موجود في البلدان الرأسمالية الموصوفة بأنظمتها الديموقراطية والليبرالية؟
عموماً إنها مجتمعات لا تملك أولاً البنية الإقتصادية بفروعها المتنوعة والرائدة في تطوير قوى الإنتاج (وسائل وقوى بشرية كفوءة) وانتاج السلع المادية وغيرها. وهي تفتقر أيضاً إلى مؤسسات الدولة الحديثة – دولة المواطنة وحكم القانون، نظام ديموقراطي، فصل السلطات وتداولها الحر، إلخ.-والثقافة الحديثة المنفصلة جذرياً عن الثقافة التقليدية التي كانت سائدة قبل نشوء الرأسمالية. ورغم ذلك تجد هذه المجتمعات نفسها في وسط التحديات والمصاعب الناتجة عن إلتحاقها بالمجتمعات الرأسمالية المتطورة وما تفرزه من أزمات إقتصادية واجتماعية وغيرها.
إذاً نحن أمام مفارقة تستدعي التحليل كمدخل لتقديم الحلول لها: ظاهرة الإلتحاق بنظام رأسمالي معوْلم دون تطوير المؤسسات والثقافة الضرورية لمعالجة الأزمات التي يفرزها، لجهة إعادة إنتاج هذا النظام أو لجهة تعديله أو تجاوزه.
بلا شك، لم تكن دائماً إستجابة المجتمعات الحديثة للمشاكل التي تواجهها إستجابة تتماشى والمعايير التي تدَّعيها ولا المبادئ التي نشأت عليها المؤسسات السياسية والثقافية ونمت مع نمو أنظمتها الرأسمالية. وما شاهدناه في الماضي من بروز للأنظمة الفاشية والنازية ومن إستعمار متوحش للبلدان الأقل تطوراً، وما نشهده اليوم من انتشار للحركات اليمينية المتطرفة وتفشي للحركات الشعبوية،ما هو إلّا دليل على صحة ما نقول.
لكن الأعطاب العميقة والخيارات المدمِّرة التي تتعارض مع الأسس التي تقوم عليها هذه الأنظمة، لا تلغي الإنجازات العديدة التي حققتها، كدولة الرعاية الإجتماعية وحرية المعتقد والإجتماع وحكم القانون والمساواة أمام القانون وغيرها. وفي مقابل القصور البنيوي لتلك الأنظمة والإنتكاسات المدمِّرة التي تفرزها، تبقى الإنجازات المشار إليها رغم محدوديتها تشكِّل المرتكز الذي يمكن الإستناد إليه لمقارعة تلك الأنظمة واجتراح الحلول لأزماتها، ومشاكلها وصولاً إلى فرضها على الطبقة الحاكمة، شريطة أن يتوحد المتضررون من هذه الأنظمة ويقدمون الحلول الناجعة والبديل المطلوب.
غير أن هذه المكتسبات بدأت كما أشرنا سابقاً تفقد فاعليتها جرَّاء ما أصاب هذه المجتمعات من أعطاب منذ ثمانينيات القرن الماضي كان بومنْ قد لخصها باجتراحه لمفهوم “الزمن السائل” و”الحداثة السائلة”.
نحن الآن أمام هذا المشهد: رأسمالية مأزومة بسبب تفكيكها المتدرج لدولة الرعاية الإجتماعية، ولجم حق الدولة في التدخل في آلية عمل السوق للتخفيف من مضاعفاته المدمِّرة على الإنسان والبيئة. في المقابل، نشاهد تفكك الوحدات التضامنية الطوعية (نقابات عمالية وأحزاب يسارية – شيوعية واشتراكية وحتى ليبرالية)، وذلك بسبب الطور الجديد الذي دخلت فيه الرأسمالية المعاصرة، بحيث انكفأت القطاعات الصناعية التقليدية ليحل مكانها قطاع انتاج المعرفة والسلع غير الملموسة بمختلف فروعه. ويشكل هذا القطاع المتنامي البيئة الحاضنة لتفكك تلك الوحدات التضامنية المشار إليها.
والملفت في هذا الأمر، هو ترحيل الفروع الصناعية إلى بلدان معروفة بعدم ديموقراطيتها وقمعها للحريات العامة (إلى جانب الهند والفليبين وغيرهما، تنتج الصين الشعبية أكبر نسبة من السلع المصنعة في العالم وتتحلى بنظام سياسي غير ديموقراطي).
على مستوى البنية الإقتصادية، نجد أن قطاعات الإنتاج المستحدثة (غالباً يشار إليها باقتصاد المعرفة) تشكِّل القاعدة “المادية” لتسْييل الشعور بالتضامن ومحو معالمه المؤَطِّرة. يجري كل ذلك وسط الأزمات التي لا تتوقف عن التوالد بسبب الطبيعة المتناقضة للنظام الرأسمالي (التبدل المناخي، البطالة، إتساع الهوة بين المداخيل، المديونية العامة، إلخ.). وبدلاً من أن تتحول الحرية الفردية إلى رافعة لمواجهة هذه الأزمات عبر توافقها مع المصالح العامة لمختلف الفئات الإجتماعية والطبقية التي تتماهى معها، فإننا نجدها تتحول إلى حالة مأزومة ومؤزِّمَة تضاف إلى لائحة الأزمات المتناسلة من النظام القائم.
*الدكتور بول طبر.. استاذ متقاعد في علم الاجتماع والانثروبولوجيا. عمل في الجامعة الامريكية اللبنانية في لبنان، وكان مديراً لمعهد دراسات الهجرة فيها. حالياً باحث ملحق في جامعة غرب سيدني.
Leave a Comment