سياسة

اتفاق العقبة واستحالة التهدئة مع الزحف الاستيطاني: القوى الفلسطينية مطالبة بوحدة نضالها وبرنامج الحد الأدنى

زاهي البقاعي

لا اتفاق العقبة، ولا أي اتفاق مشابه من شأنه “تهدئة الاوضاع” في الاراضي الفلسطينية المحتلة، ما دام الاحتلال الاسرائيلي ينطلق من استثمار اختلال توازن القوى في ممارسة اندفاعته نحو المزيد من الاستيطان والقمع والقتل والاعتقالات، قبل الوصول إلى الهدف الأبعد بما هو التهجير الجماعي والتهويد الكامل، مما يعتبره أرض اسرائيل التوراتية التاريخية. ولعل ما ذكره عدد من أركان الحكومة الصهيونية من عُتاة اليمين المتطرف والعنصري مباشرة بعيد توقيع الاتفاق بقليل، وقبل أن يجف حبره، من أن مدة الاربعة أشهر التي نص عليها لن تمنع من مواصلة الاستيطان في الضفة الغربية ولو ليوم واحد، وأن مشروع بناء حوالي عشرة الآف وحدة سكنية في بؤر “شرعية ” وغير شرعية سيتابع طريقه نحو التنفيذ دون أي تأخير، ومواصلة العمل على وضع اليد على المسجد الاقصى وغيرها مما تشهده مختلف الاراضي المحتلة، أبرز دليل. هذا إضافة إلى متابعة الحملات “الأمنية” بذريعة ما يُسمّى وجود خطر على كيان الدولة من مجموعات “ارهابية”.

والواقع أنه عشية الاجتماع الذي عُقد بمساع اردنية وموافقة اميركية ومصرية مع كل من اسرائيل والسلطة الفلسطينية، كانت القوات الاسرائيلية تطلق موجة عدوان عاتية تستهدف مدينة نابلس سقط خلالها احدى عشر شهيداً وأكثر من 100 جريح، مسبوقة بموجات مماثلة شملت كلاُ من جنين والحوارة والخليل وعشرات القرى والمخيمات الفلسطينية، ناهيك بما تتعرض له القدس الشرقية وغيرها من عمليات هدم المنازل بحجة مخالفتها القوانين، أو أنها تعود لأسر المشاركين في تنفيذ العمليات الفدائية.

وبالعودة إلى ما صدر عن اجتماع العقبة بموجب بيانه الختامي يتبين أن الجانبين أعلنا التزامهما الاتفاقات السابقة، والعمل على تحقيق السلام العادل والدائم، وضرورة الالتزام بخفض التصعيد على الارض، ومنع المزيد من العنف والحفاظ  على الوضع التاريخي القائم في الأماكن المقدسة في القدس قولاً وعملاً دون تغيير. وشدد البيان في هذا الصدد على استمرار الوصاية الهاشمية/ والدور الأردني الخاص في الاماكن المقدسة”.. وورد في البيان كذلك “أكدت الحكومة الإسرائيلية والسلطة الوطنية الفلسطينية استعدادهما المشترك والتزامهما بالعمل الفوري لوقف الإجراءات أحادية الجانب لمدة 3-6 أشهر، ويشمل ذلك التزاماً إسرائيلياً بوقف مناقشة إقامة أي وحدات استيطانية جديدة لمدة 4 أشهر، ووقف إقرار أي بؤر استيطانية جديدة لمدة 6 أشهر”.

كذلك اتفقت الأطراف الخمسة على الاجتماع مجدداً في مدينة شرم الشيخ في مصر شهر مارس/ آذار المقبل لتحقيق الأهداف المذكورة أعلاه. ووفق البيان ذاته، أشار إلى أن المشاركين اتفقوا أيضاً على دعم خطوات بناء الثقة، وتعزيز الثقة المتبادلة بين الطرفين من أجل معالجة القضايا العالقة من خلال الحوار المباشر.

هذا المناخ الذي عبر عنه البيان ، بل الاجتماع بحد ذاته، أقل ما يقال فيه أنه لا يقارب معالجة القضية الأساس بما هي إزالة الاحتلال الاسرائيلي والاستيطان الزاحف على كل أجزاء الضفة الغربية بما فيها مناطق القدس الشرقية والأغوار والنقب كمدخل لتحقيق السلام. والاتفاق الذي تم التوصل إليه هو طبعاً من صياغة وبنات أفكارالإدارة الاميركية التي أوفدت خلال الاسابيع المنصرمة عدداً من مسؤوليها الامنيين والسياسيين، تتويجاً بزيارة وزير الخارجية انتوني بلينكن ولقائه كلاً من نتنياهو ومحمود عباس. والواقع أن الحكومة اليمينية الصهيونية في اسرائيل تستفيد من مواقف الإدارة الاميركية في متابعة منحاها الهجومي. فخلال سنوات حكم بايدن اكتفت وتكتفي إدارته باصدار بيانات مكررة عن إدانة ورفض العنف دون تحديد مصدره، في عملية تزوير فاضحة تساوي فيها الضحية الفلسطينية بالجلاد الاسرائيلي، والدعوة إلى التهدئة ووقف التصعيد من الجانبين، وما شابه من عبارات لا تقدم ولا تؤخر. أما التذكير بحل الدولتين فمجرد لازمة بائسة و”وعود عرقوبية” في ظل وقائع تتجاوزه بأميال بعيدة، على ضوء الإنجازات التي حققها المشروع الصهيوني في الداخل الفلسطيني، وفي المدى العربي والاقليمي الأوسع.

وعليه، يمكن الجزم أن حكومة اليمين المتطرف ستتابع هجومها المسعور انطلاقاً من خطين متوازيين هما على التوالي:

  • تحقيق المزيد من الخطوات القانونية لتكريس سيطرتها على الحياة السياسية والمدنية مستندة في ذلك إلى الأكثرية التي تتمتع بها في الكنيست الإسرائيلي. الامر الذي مكنها من تمرير قانون التعديلات القضائية بالقراءة الأولى بأغلبية 63 صوتاً مؤيداً و47 صوتاً معارضاً، خلال جلسة عاصفة وسط مشادات كلامية. كما صادق الكنيست كذلك بالقراءة الأولى وبعدد الأصوات نفسه على قانون تعديل تركيبة لجنة تعيين القضاة بما يمنح أغلبية لممثلي الحكومة المتطرفة. وهذه خطوات أثارت جزءاً لا يستهان به من الرأي العام الداخلي، إذ من شأن اجراءات من هذا النوع أن تطيح بما تبقى من سلطة القضاء و”علمانية وديمقراطية” للناخبين الاسرائيليين، الذين يرفضون تحول الدولة إلى دولة دينية يحكمها الأكثر تطرفاً في البلاد.
  • الخط الثاني يتمثل بزيادة الضغط على الجانب الفلسطيني من خلال القرارات السياسية والآلة الحربية والأمنية الاسرائيلية التي باتت تأتمر وتحت اشراف مباشر من قبل وزير الأمن الداخلي بن غفير الأكثر تطرفاً من بين أعضاء حكومة المتطرفين والكابينيت المصغر. وفي ما كانت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية تحذر من عواقب مثل هذه السياسية الهجومية، والتي ستؤدي إلى انتفاضة ثانية، لم تعبأ القيادة السياسية بكل هذه التحذيرات، وواصلت هجومها ووسعت من اطاره. والجديد في هذا الاطار أن اسرائيل لم تعد تكتفي بما تملكه من قوى نظامية عسكرية وأمنية، بل أشركت المستوطنين في المواجهة مع الشعب الفلسطيني المدافع عن أرضه وبقائه عليها، عندما منحتهم حق اقتناء السلاح واستعماله أيضاً. ولعل ما تشهده القرى والبلدات والمدن من هجمات المستوطنين واحراق البيوت ومصادرة الاراضي وتدميرالممتلكات يدخل في هذا الاطار. أكثر من ذلك تتسارع خطوات حكومة الاحتلال نحو اقرار عقوبة الاعدام على المناضلين الفلسطينيين، علما ان تلك العقوبة لم تنفذ سوى مرة واحدة بحق النازي ايخمان في مطلع الستينيات.

اذا كانت حظوظ اتفاق العقبة في أحسن الاحوال هي تهدئة مؤقتة وهشة، وهو أمر مشكوك في حدوثه في ضوء عشرات الاتفاقات السابقة التي جرى التوصل إليها دون أن تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، بدليل ثلاثة عقود من المفاوضات المتلاحقة دون أن تكبح من جماح المشروع الصهيوني، خصوصاً في نسخته الليكودية الأخيرة معطوفة على القوى اليمينة العنصرية الصهيونية، فذلك يستوجب أن يدفع كلاً من السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير وقوى التحالف ومختلف الفصائل إلى معاودة الوقوف أمام ما تتعرض له الساحة الفلسطينية من قتل يومي واستباحة منفلتة من كل عقال، وهو ما يجد الرد عليه باندفاع نضالي شعبي يعبر عن نفسه يومياً بأشكال متنوعة ومتصاعدة رغم النزيف والأثمان الفادحة. الامر الذي يستدعي العمل على التوصل إلى برنامج الحد الأدنى الذي يدمج بين الفعل السياسي والنضالي بمختلف أشكاله، وتتحدد من خلاله أدوار كل من هذه القوى في المواجهة بعيداً عن الحسابات الفئوية والعنتريات الفارغة وانتظار الحلول عبر الاتصالات الدبلوماسية التي لا وجود لها في حسابات اليمين العنصري الصهيوني. والمقصود هنا الخروج من المراهنة على السياسة الاميركية التي لا تمارس أي ضغوط جدية على الكيان الاسرائيلي، وكذلك على معظم الدول العربية والاقليمية التي تدير علاقات مع الكيان الاسرائيلي من فوق أو تحت الطاولة، وتضغط على الجانب الفلسطيني أكثر مما تضغط على الجانب الاسرائيلي. وبكلمة أخيرة على الفلسطينيين الاتكال على أنفسهم وتغليب مواجهة هذا المستوى من الخطر ووحدة الهدف على ما عداها، لأنه ليس لديهم من يراهنون على دعمه واحتضانه لقضيتهم، التي قدموا الكثير من الدماء والأسرى والجرحى والعذابات من أجل بقائها حية، توصلاً إلى انتزاع إنجازات حقيقية على الارض في مواجهة أعتى احتلال عرفته البشرية منذ أن كان هناك استعمار ومقاومة شعوب.

Leave a Comment