سياسة مجتمع

أزمة النازحين السوريين إلى لبنان بين الاستخدام الفئوي والمعالجة الجدية  

زكي طه 

لا تختلف انقسامات اللبنانيين بشأن قضاياهم الوطنية ومشكلاتهم وأزماتهم المتنوعة عنها، حول العلاقة مع سوريا، ثم الأزمة السورية وقضية النازحين والعاملين السوريين في لبنان. هكذا كان الأمر في ظل تدخل النظام السوري في الحرب الأهلية التي عصفت ببلدهم، وأثناء وصايته عليه  لتنفيذ اتفاق الطائف، وصولاً إلى خروج الجيش السوري من لبنان. وهي لا تختلف ايضاً عن تعامل سائر اطراف السلطة مع انفجار الأزمة السورية، على رافعة قمع النظام لانتفاضة أكثرية الشعب السوري ضده ومطالبتهم بالحرية والديمقراطية. ما أدى إلى تحوّل سوريا، منذ مطلع عام 2011 وحتى يومنا هذا، ساحة حرب أهلية مشرعة على غاربها لشتى منوعات التدخل الخارجي الاقليمي والدولي، ومشاركة التنظيمات والميليشيات الاصولية المتعددة الجنسيات.

وهي الحرب التي اختلفت بشأنها، قوى السلطة اللبنانية تبعاً لمصالحها الفئوية، ومن مواقعها الطائفية، في اطار صراعاتها المفتوحة حول مختلف قضايا الكيان اللبناني وهويته وعلاقته وطبيعة النظام ومواقع الحكم، وكل ما يقع في امتداد ذلك من سياسات وممارسات ميليشياوية. وهي القوى التي رأت في الحرب السورية فرصاً للاستثمار فيها من أجل تحصين وتعزيز مواقعها، أو تعديل موازين القوى المحلية لمصلحتها.

وعليه، فقد توزعت مواقع الحكم في لبنان واحزاب السلطة وتياراتها، بين من راهن على السقوط السريع للنظام، فقرر الانحياز للانتفاضة وتوفير الدعم لتياراتها والقتال مع مجموعات منها. وبين من انبرى للقتال إلى جانب النظام، متذرعاً بحجج لا حصر لها. ما جعل اللبنانيين اطرافاً متنازعة ومتدخلة في الأزمة السورية ومساراتها، التي لم تزل تتوالى فصولا من القتل والتهجير والدمار. ومنذ اللحظة الأولى، تحول ملف النزوح السوري إلى لبنان قضية خلافية، تضاف إلى سائر ملفات الأزمة اللبنانية.

ومع تزايد عجز تكتلات أحزاب الطوائف عن فرض خياراتها المتناقضة بشأن انتخاب رئيس للجمهورية. لم يكن بالأمر المفاجىء، أن يحتل ملف النزوح السوري موقعاً اساسياً في المشهد السياسي. وأن يستخدم لتحصين مواقعها المختلفة، وحماية مكتاسباتها وامتيازاتها المتحققة على امتداد السنوات السابقة، وسط المخاوف من احتمالات تبدل موازين القوى القائم على الصعيدين الاقليمي والدولي. وأن تستغل القضية لتغطية رهانات وأداء الاطراف اللبنانية والتعمية على المأزق الذي يعصف بأوضاعها، جراء انسداد الافق امام خياراتها السياسية. بانتظار ما ستسفر عنه المشاورات بين الجهات الخارجية حول أوضاع البلد وأزماته المتعددة، التي لم تعد محصورة بالاستحقاق الرئاسي الذي اصبح قضية خارجية، بل تتعداه لتشمل سائر ملفات الحكم والحكومة وسياساتها، والأزمة الاقتصادية والمالية وسبل معالجتها، إلى جانب علاقات لبنان العربية والاقليمية. وهي المشاورات التي لا يبدو أنها في طريقها لإنتاج تسوية ما في المدى المنظور، نظراً لتباين واختلاف الرؤى والمصالح والأولويات لدى الجهات المعنية التي لا يبدو أن لبنان يشغل موقعاً متقدماً في اهتماماتها.

وما يعزز هذا الواقع هو الأداء غير المسؤول لأطراف السلطة وطنياً واجتماعياً وانسانياً. والسياسات العبثية التي تمارس على الصعيد المالي والاجتماعي والاداري، ومفاعيلها التدميرية لمؤسسات الدولة وأجهزتها وقطاعاتها الاقتصادية والادارية والخدماتية، في موازاة رفض سائر اطراف السلطة إقرار الاصلاحات المطلوبة مدخلاً لوقف الانهيار والانقاذ. والتي لا يختلف عنها التعامل مع ملف النازحين والعمال السوريين. مما كان ولا يزال موضع إدانة من الجهات الدولية والاممية، التي لم تكل عن اطلاق التحذيرات من النتائج الكارثية على جميع المستويات.

وعدم المفاجأة في استحضار ملف النزوح مصدره أيضاً، إدمان اللبنانيين الهروب من مشكلاتهم وأزماتهم، وإحالة المسؤولية عنها على الآخرين، سواء في الداخل أو الخارج. ولذلك تجدهم يحملون النازحين والعمال السوريين المسؤولية عن تحول وجودهم في لبنان قضية مرشحة للانفجار في أي وقت وعلى أكثر من صعيد. وهم في ذلك يتجاهلون أسباب النزوح إلى لبنان وغيره، ومسؤولية النظام السوري والقوى المتدخلة في الحرب السورية عن هذا المآل.  والتغاضي عن مسؤولية قوى السلطة التي تهربت ولا تزال من معالجة هذه المشكلة، وفق صيغة تراعي المصلحة الوطنية اللبنانية أولاً، وحقوق النازحين والعمال السوريين الانسانية ثانياً.

ليس سرأ أن الحكومات المتعاقبة تهربت من وضع خطة للتعامل مع النزوح السوري، وتنظيمه على نحو يحول دون انتشاره بشكل عشوائي. ما حال دون ضبطه والاشراف عليه، وسهّل تحوله قضية مستعصية، تفوق قدرة المجتمع الاهلي على تحمل أعبائها، فيما الدولة اللبنانية وأجهزتها الادارية وقطاعاتها الاقتصادية والخدماتية، غير مؤهلة في الاساس لتلبية حاجات اللبنانيين. وبذلك بات الوجود السوري قضية للتوظيف في اطار المصالح والمواقع الطائفية والفئوية.

لسنا بصدد العودة للتذكير بأداء سائر الاطراف اللبنانية حيال الحرب السورية وقضية النزوح إلى لبنان والعمل فيه. لكن الملفت هو هذا الكم من التحريض الرخيص، والاصرار على تزخيم النزاع مع النازحين السوريين، وتحميلهم مسؤولية عدم تنظيم اوضاعهم والازمات التي فاقمت معاناة اللبنانيين التي يتشاركونها معهم. ولذلك يغيب النقاش الجاد لمعالجة هذا الملف واخراجه من دائرة التوظيف السياسي الداخلي في ظل الانقسام الاهلي اللبناني. الأمر الذي يهدد بانفجار الوضع برمته. والسبب استسهال الاشتباك مع النازحين السوريين وتصنيفهم مصدر الخطر على الوجود والمصير اللبناني. وهو ما يخدم سياسات النظام السوري الذي يرفض عودتهم إلى وطنهم، بقدر ما يتعمّد استغلال وجودهم لتجديد تدخله في لبنان. كما هو الامر راهنا في معركة الرئاسة عبر دعم المرشح الذي يواليه، تحت راية معالجة ملف النازحين، الذي هو في الأصل مشكلة سوريّه أولاً قبل أن يكون قضية لبنانية، تكاد تستعصي على الحل. خاصة وأن الجهات الدولية المانحة لا تنظر لها أو تتعامل معها إلا بالاستناد إلى مصالحها أولاً وآخراً.

بناءً لما ورد وعلى قاعدة المسؤولية الوطنية، ومن موقع الاستشعار بخطورة هذا الملف، واستناداً إلى دروس التجربة اللبنانية ونتائج الحرب الاهلية اللبنانية والتدخلات الخارجية فيها، وما كان في امتدادها من تهجير ونزوح ومن دمار وخراب، لم يكن له أن يتوقف وإن يأخذ طريقه نحو المعالجة، إلا على رافعة وقف القتال والتوافق على تسوية سياسية، بصرف النظر عن السلبيات والاخطاء والخطايا التي شارك فيها اللبنانيون جميعاً.

لذلك فإن المدخل الوحيد لمعالجة ملف النزوح السوري هو المطالبة بوقف الحرب المدمرة الدائرة في سوريا لتسهيل عودة النازحين إليها. وإلى ذلك الحين فإن النهج المجدي والذي ينقذ لبنان ويقيه مخاطر الاشتباك مع الوجود السوري في لبنان، هو النهج الذي يؤدي إلى انقاذ البلد ويقطع الطريق على اشراك السوريين في الصراعات الطائفية والمذهبية وادخالهم طرفاً فيها. ما يتطلب تلاقي أكثرية اللبنانيين والفئات المتضررة منهم حول أولوية قضاياهم وحقوقهم وفي طليعتها استعادة دور الدولة ومؤسساتها، بما فيها التعامل المسؤول مع ملف النزوح والعمالة السورية، وضبطه بعيداً عن استسهال التحريض واستغلال اخطاء وخطايا بعضهم التي تساهم في تسعير الفوضى الاهلية والامنية، التي لا يستفيد منها سوى الجهات المتحكمة بالبلد والنظام السوري والمافيات التابعة لهما.

بيروت 28 نيسان 2023

Leave a Comment