زهير هواري
بدءاً من اليوم الاثنين الموافق 6 شباط 2023 تبدأ محال السوبرماركت تسعير السلع بالدولار الاميركي تبعاً لسعره في السوق الموازية. أي على قاعدة السعر المتحرك صعوداً في محلات الصيرفة. وبات على المواطن أن يدفع ما يشتريه بالدولار نقداً، أو ما يوازيه بالعملة اللبنانية. وزارة الاقتصاد والمحال التجارية حاولت تبرير الخطوة بأنها لمصلحة المستهلك الذي يملك الدولار، أو الليرة اللبنانية، لأنه سيعرف سعر السلعة بالعملتين، ويقرر أيهما يستعمل. ويتمكن من المقارنة بين مختلف المحال. ولكن هذه النقلة لا بد من التوقف عندها، بالنظر إلى أنها تعني في ما تعنيه أن المضاربين باتوا يتحكمون بأسعار السلع اليومية للمواطنين من مأكل ومشرب. أكثر من ذلك، فالأسعار عندها ستتحرك في كل ساعة كما هو حاصل في سعر الصرف. كما أنه يعني أن الليرة اللبنانية لم تعد صالحة للتسعير، الا كونها سيولة متوافرة في ايدي الناس. وهو أمر بات معتمداً إلى هذا الحد أو ذاك في الكثير من الخدمات والقطاعات، بما فيها محطات المحروقات ومولدات الكهرباء والمدارس والجامعات والمستشفيات وأجور أصحاب المهن الحرة من أطباء ومهندسين ومحامين، وكذلك بدلات أجور الاعمال الحرفية. وعليه، يصبح ذوو الأجور غير المدولرة من عمال مياومين وموظفين ومعلمين ومتقاعدين ومن شابههم في أسفل السلم الاجتماعي والمعيشي، باعتبارهم يتقاضون أجورهم بالليرة اللبنانية التي تفقد قيمتها يومياً.
والملفت أن الدولة أو ما تبقى من خدماتها تضاعف الضغط على الفئات الهشة المتضررة هذه، من خلال تقليص الدعم الذي كانت تقدمه، فمثلاً تستعد وزارة الصحة إلى وقف الدعم عن أدوية مرضى السرطان والامراض المزمنة. إلى الحد الذي دفع رئيس لجنة الصحة النيابية النائب السابق الدكتور عاصم عراجي للقول إن هذا الإجراء هو تمهيد لمجزرة تطال ألآف المرضى، الذين سيصبحون عاجزين عن دفع كلفة علاجهم. بينما يقول الوزير فراس الآبيض أنه سيدرس مع الحكومة إمكانية تغطية الفارق بين سعري الصرف الرسمي السابق والحالي للدولار كدعم لهذه الفئات. وهنا نحن نتحدث عن مرضى بعشرات الألوف منهم 30 ألفاً هم مرضى السرطان. وأصلاً خلال الاعوام المنصرمة كان الكثيرون من هؤلاء المرضى يفتقدون هذا الدعم الذي يتأخر عن موعده بالنظر إلى الإشكالات التي ترافق كل عملية تمويل للدعم بين الوزارة والمستوردين والمصرف المركزي، ما يضطر المحتاجين لتلقي العلاجات والجرعات الدوائية في أوقاتها، إلى شرائها على نفقتهم الخاصة من مصادرها الداخلية أو الخارجية، لإنقاذ حياتهم . ولما كان بعض هؤلاء يمتلكون أموالاً في المصارف ولا يستطيعون الحصول عليها، فقد اقتحموا المصارف مسلحين، وحصلوا على بعض ما يحتاجونه للعلاج. والوقائع هنا معروفة وشائعة. كل هذا من شأنه أن يضع معيشة المواطنين اليومية وبقائهم على قيد الحياة تحت رحمة الصيارفة الذين يتلاعبون بسعر العملة الاميركية تبعاً لمصلحة مضارباتهم وجشعهم.
على إيقاع شبكات المافيا
المواطنون الذين لا يملكون أرصدة مجمدة في المصارف، لجأوا عند كل منعطف كارثي إلى “دب الصوت” على أقاربهم ، وعلى الجمعيات و”فاعلي الخير”، وإلى بيع مقتنياتهم وموجوداتهم المنزلية، أو عقارات ورثوها عن آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم لتأمين غذائهم، أو دفع ثمن أدويتهم وأكلاف استشفائهم. ولا يقتصر الأمر على الاستشفاء والطبابة للامراض المستعصية والمزمنة، بل بات يشمل كل المستلزمات بعدما تهاوت المؤسسات الضامنة بشتى أسمائها ومسمياتها. حتى أن نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة أعلن أن على المرضى شراء أدويتهم وإحضارها معهم إلى المستشفيات، بدل أن يحصلوا عليها من المستشفى التي كانت تضعها على فاتورة المريض. يمكن أيضاً الإشارة إلى أن الصيدليات باتت منذ أشهر تبيع ما لديها من أدوية محسوبة على سعر صرف الدولار اليومي. أيضاً رفعت الوزارات المعنية من بدلات الماء والكهرباء والاتصالات والرسوم وضاعفتها دون أن توفرها للمستهلكين، وعليه، بات على المواطن أن يدفع فاتورتين مدولرتين لصاحب المولد أو “ستيرن” المياه، وللوزارات المعنية التي بدل أن تراقب الاسعار وتضبط الجباية من المستهلكين والمستفيدين، عمدت إلى عقاب من يدفعون ما عليهم، بمضاعفة البدلات لكهرباء لا تصل لأكثر من ساعة يومياً، ومياه تطل عليهم بالمناسبات، وعندما تتوافر الكهرباء والمازوت لمولداتها.
ولعل الأنكى من هذا وذاك أن شعار الدولرة بات بمثابة العبارة الرائجة في كل القطاعات. فأسوة بما يحدث في قطاع المحروقات من وضع تسعيرة صباحية وأخرى مسائية يومياً لأسعار البنزين والمازوت والغاز تبعاً لسعر الصرف، تطالب باقي القطاعات أن تحذو حذوها، وتعمد الدولة إلى إصدار التسعيرات اليومية اللازمة بالدولار أو الليرة اللبنانية تبعاً لسعر الأول. وهكذا بدل أن تصبح مهمة الوزارات ضبط الأسعار وتقديم الخدمات صار في عُرف المحتكرين، أن واجبها هو إعداد جداول الأسعار على إيقاع حركة الدولار في السوق الموازية أو السوداء. وبذلك بات هؤلاء المحظيين بالحمايات اللازمة مقررين: هل بإمكانك الحصول على دوائك وخبزك ومكونات طعامك ومحروقات سيارتك ومازوت مدفأتك في موسم الصقيع أم لا؟!.
أي أن مهام تصريف الاعمال هو تصريف اعمال المضاربين والمحتكرين وأصحاب المتاجر في مواقعهم المتنوعة، وتسويغ ما يعمدون إليه من سياسات تضيِّق الخناق على الحياة اليومية للمواطنين. وبذلك انتهى الحديث عن اجراءات وورشة اصلاح النظام الاقتصادي والمالي والنقدي، تمهيداً للحصول من المؤسسات الدولية على قروض ومساعدات. وباتت الحكومة بالكامل في خدمة المضاربين و”جهابذة” السوق السوداء والمهربين، ناهيك برموز السلطة السياسية الذين يتربعون على عرش البلاد ويديرون التفليسة، دون أن يتقدموا بأي خطوة أو مشروع من شأنه أن يساعد ذوي الدخول المتواضعة على تدبير أمور معيشتهم بحدودها الدنيا الآدمية.
فتش عن الدولار
ومن شأن ذلك أن يزيد الطلب على الدولار، وبالتالي يساهم في مزيد من تدهور قيمة الليرة. والدولار بات يتدخل في الكبيرة والصغيرة ويقود إلى تسارع الانهيار. فخلال الأسابيع الماضية تضاعف انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية في مقابل الدولار على نحو دراماتيكي، ما دفع بالكثير من الخبراء وغير الخبراء إلى توقع أن تكون هذه المحطة مجرد مقدمة لما هو أدهى وأمرّ. بالطبع ينطلق هذا التوقع من مسلمة أساسية قوامها استمرار التالي: الأزمة السياسية المحتدمة ممثلة بشغور موقع الرئاسة، ووضع حكومة تصريف الاعمال المهزوز من داخلها ودورها كسلطة تنفيذية. يترافق ذلك مع استمرار الدوران في غياهب الأزمة المالية والنقدية التي تدفع بالعملة الوطنية إلى مواصلة رحلة التهاوي إلى جهنم، كنتيجة حتمية لغياب أي بريق أمل في الوصول إلى مقدمات حلول حقيقية، تعبر عن إرادة وطنية، بينما المسؤولون ما يزالون يتقاتلون على “جنس الملائكة” في السماء، بينما “مملكتهم” على الارض تتهاوى من خلال التدهور السريع لكل مقومات الدولة والكيان والاقتصاد والنقد الوطني واساسات بقاء وتماسك المجتمع.
ففي غضون الاسبوع الماضي قفز سعر صرف الدولار إلى حوالي الـ 64 ألف ليرة، ثم عاد ليهدأ قليلاً، ليعاود سيرة ارتفاعه ثانية عند حدودً الرقم الأول، وبذلك تكون الليرة اللبنانية قد خسرت منذ اندلاع الأزمة وحتى اليوم أكثر من 95% من قيمتها، وبالتالي خسر ذوو الدخول بالليرة هذه النسبة من قدراتهم الشرائية. علما أنه خلال تلك الايام لم يطرأ جديد، في الوضعين السياسي والاقتصادي يقود إلى مثل هذه الزيادة أو الانخفاض الدراماتيكي في سعر صرف الليرة، فأزمة انتخاب رئيس للجمهورية متواصلة منذ أشهر، والوضع الاقتصادي يستمر على طريقة “سائرة والرب راعيها”، دون حد أدنى من التأثير على خطوطه البيانية العامة، لا من الحكومة، ولا من المصرف المركزي، الذي تتآكل موجوداته من أموال المودعين. والواضح أن البلاد لم تتقدم خطوة واحدة لتوحيد سعر الصرف، صحيح أن السعر الرسمي للصرف بات 15000 ليرة منذ مطلع شباط الجاري، بعد أن استقر طوال عقود على سعر 1500 ليرة، بينما كانت المصارف تحاسب المودعين على سعر3900 ليرة ثم على سعر 8000 ليرة ، ولكن ما زال أيضاً هناك سعران رائجان على الأقل هما سعر منصة صيرفة الذي ارتفع من 31000 ليرة إلى 38 ألفاً واصبح الآن 42000 ليرة، فيما سعر السوق السوداء بدأ “يناطح ” حائط الـ 70000 ألف ليرة، أي أننا ما نزال أمام ثلاثة أسعار فعلياً. وفي غضون سنوات الأزمة منذ ثلاثة أعوام عجزت السلطات السياسية والاقتصادية والمالية والنقدية عن القيام بما من شأنه أن يبشر بقرب الوصول إلى حلول ولو مؤقتة للوضع، بل يمكن القول إنها فاقمت الأزمة، وما تزال تراهن على من يأتي لإنقاذها سواء أكان من الصناديق أو الدول. بالمقابل تفعل كل ما من شأنه تفاقمها. ولعل ما حدث في الجسم القضائي من انقلاب سافر يدفع إلى نفض اليد من بلد يدار على هذا النحو المافياوي، حيث لا سلطة تشريعية ولا سلطة تنفيذية، ولا سلطة قضائية تحاكم المتهمين وتحقق العدالة المفقودة في الجرائم المرتكبة، سواء منها ما وقع أو ما هو مرشح للوقوع من تفجير أو نهب أتعاب المودعين.
وعمليات التهريب
رغم هذه الصورة الإجمالية يمكن القول إن هناك أكثر من عامل مستجد أنتج هذه القفزة، في مقدمها ملف تهريب وتبييض الاموال الذي فتحته البعثة القضائية الاوروبية التي حضرت إلى لبنان، واستنطقت العديد من المسؤولين والمصرفيين ثم غادرته لتعود ثانية. يضاف إلى ذلك قيام وزارة الخزانة الاميركية بفرض عقوبات على شركة صيرفة تعمل كوسيط بين المصرف المركزي وحزب الله، ما يعني أن هناك قنوات اتصال بين ما يجري من داخل مؤسسات وأجهزة الدولة وخارجها. كل هذا قاد إلى استشعار المسؤولين السياسيين والمصرفيين بالخطر من محاسبتهم على جرائم مالية يطالها القانون الدولي، من نوع الجرائم المالية المعروفة والتي تخضع لقوانين مكافحة دولية صارمة.
هذا على الصعيد المحلي من سياسات مافياوية للمنظومة السياسية – المالية. أما على الصعيد الاقليمي، فلا بد من ربط هذا الطور من انهيار العملة اللبنانية مع ما يجري في كل من سوريا وايران لجهة انهيار عملتيهما، وشحن ما يستطيعان من مليارات الدولارات من السوقين اللبناني والعراقي خصوصاً إلى كل من دمشق وطهران، تارة لتمويل منظوماتها السياسية والأمنية التي تقع تحت سيف الحظر لأنشطتها، بالنظر إلى ما يرافقها من تهريب وتبييض أموال وتجارات غير مشروعة وسواها، وطوراً لمحاولة الحد من تدهور قيمة عملتها عبر تكوين محفظة من العملات الصعبة وفي طليعتها الدولار. يجب أن يعطف ذلك على تجارة التهريب التي تديرها شبكات ترتبط بالأنظمة المذكورة بأكثر من حبل “سُرّة”، وتضغط على حركة العملات الصعبة في السوق، وعلى ما تبقى من السلع المدعومة، ومن بينها أدوية السرطان والامراض المزمنة. وأيضاً السلع غير المدعومة حتى، مما يتم الحصول عليه من الاسواق الخارجية بالدولار الاميركي.
وعليه، يمكن القول إن هذا المسار الانحداري المتسارع لليرة اللبنانية هو ثمرة من ثمار السياسات المافياوية، التي سرَّعت وتسرع من انهيار قيمة العملة الوطنية، ما يضع البلاد أمام احتمالات مفتوحة على فوضى شاملة من مدخل سياسة التجويع التي يتلظى على نارها المواطنون والمقيمون على حد سواء ويجني نتائجها المضاربون وتجار الأزمات.
Leave a Comment