اقتصاد

تمويه الحقيقة وتجهيل الفاعل

غسان العياش

تميّز العقدان الأخيران من تاريخ لبنان بتوالي الأحداث المأساوية والانهيارات، رغم تماسك الأمن الداخلي والابتعاد عن العنف والحرب الأهلية. لكن ما طبع هذه السنوات الصعبة هو جهل اللبنانيين لأسباب هذه الظواهر والمسؤولين عنها، لأن الممسكين بالسلطة تعمّدوا عن قصد تضليل الرأي العام اللبناني وإبقاءه على غير بيّنة من خلفيات الأحداث ومسبباتها، والذين تسبّبوا بها.

الامتحان العسير، والخطير، الذي تعرّض له النظام القضائي اللبناني في الأسابيع الأخيرة هو مثال بارز على ذلك. فقد امتدّت السياسة إلى قصور العدل لتشعل الحرب بين القضاة بقصد وقف التحقيق وطمس الحقيقة وراء انفجار مرفأ بيروت، ولمنع اللبنانيين من معرفة المسؤولين عن تفجير عاصمتهم، وسقوط مئات الضحايا وآلاف الجرحى من السكان الآمنين.

لنا في الحياة الاقتصادية أمثلة مشابهة لسياسة طمس الحقيقة وتجهيل الفاعل، التي تمارسها القوى النافذة بكفاءة كبيرة، ولكن بوقاحة. الانهيار النقدي والمصرفي والاقتصادي الذي اُبتلي به لبنان كان يقتضي تشكيل لجنة تحقيق كفؤة ونزيهة، لكي تروي للبنانيين حقيقة ما جرى، وتعيّن المسؤولين عن إفقار الشعب واغتيال مزايا الاقتصاد اللبناني في المنطقة.

لكن السلطات اختارت بدل ذلك تضليل الرأي العام وإغراقه بالأكاذيب والأوهام، واقناعه بأن الودائع سوف تعود لأصحابها، رغم إقرار الحكومات التي تعاقبت منذ أربع سنوات، بأن الفجوة في النظام المالي تزيد عن سبعين مليار دولار وهي لا تملك خطة ذات مصداقية لردمها.

من المسؤول عن هذه الكارثة؟

السياسة المالية للحكومات المتعاقبة طيلة أربعين سنة هي المسؤول الأوّل عما وصل إليه لبنان، والسياسة المالية هي تلك التي تعبّر عنها الموازنة العمومية. وقد تهرّبت الحكومات من فرض الضرائب الكافية لتمويل النفقات، وبالمقابل، أطلقت العنان لإنفاق دون قيود يطغى عليه التبذير والهدر والفساد. وبذلك خرجت الموازنات عن القواعد السليمة للمالية العامّة التي اعتمدتها البلدان المتقدّمة. نصّت اتفاقية الوحدة النقدية الأوروبية على عدم جواز تخطّي العجز السنوي للموازنة سقف 3% من الناتج المحلي الإجمالي والدين العام 60% من الناتج، أما في لبنان فقد بلغت نسبة العجز السنوي 10% من الناتج وتخطّى الدين العام سقف 150% منه.

تبيّن الإحصاءات أن مجموع نفقات الدولة بين 1992 و2019 بلغ 250 مليار دولار، ومجموع وارداتها لم يتخطّ 168 مليارا، فبلغ العجز المجمّع خلال الفترة 82 مليار دولار وطغى على النفقات طابع الإنفاق الجاري الذي لا يفيد الاقتصاد. فقد استأثرت خدمة الدين العام ورواتب القطاع العام والانفاق على الكهرباء، مجتمعة، ثلاثة أرباع الانفاق الحكومي.

من البديهي أن تقود هذه السياسة الرعناء إلى ضعف العملة اللبنانية، وهنا جاء الدور الانتحاري لسياسة مصرف لبنان النقدية. فقد التزم المصرف المركزي، لإرضاء الدولة وتضليل الرأي العام، على اعتماد سعر صرف ثابت لليرة اللبنانية دون أن يكون لهذا السعر أسس واقعية. فاستنزف المركزي حتى سنة 2015 كل احتياطاته الخاصّة لدعم الليرة وسعرها المصطنع. وبعد هذا التاريخ لجأ إلى استعمال ودائع المودعين في المصارف اللبنانية، بالترغيب (الفوائد الفاحشة) والترهيب، بحيث بلغت توظيفات المصارف في مصرف لبنان 70% من موجوداتها.

عندما حلّت الكارثة كانت ودائع المصارف في مصرف لبنان بالعملات الأجنبية تقارب 100 مليار دولار يعجز المصرف المركزي عن إعادتها، لأنها تبخّرت عبر التدخّل الأعمى في سوق القطع، وإقراض الدولة لاسيما لتمويل الكهرباء.

خلافا لسياسة تجهيل الفاعل يمكن الإشارة إلى تراتبية المسؤوليات عن الكارثة التي وصل إليها لبنان واللبنانيون، المقيمون وغير المقيمين.

المسؤولية الأولى تقع على الدولة وسياستها المالية، ثم تأتي سياسة مصرف لبنان النقدية. ولا يمكن تجريد المصارف من المسؤولية، فهي كانت تعلم أنها تموّل قطاعا عامّا بلا قعر، مع ذلك استمرّت في توظيف موجوداتها لدى مصرف لبنان وفي سندات الخزينة، بالليرة وبالعملات.

ليس مفروضا في المواطنين إدراك المخاطر الكبرى للسياستين المالية والنقدية، بل كان يفترض بالأحزاب تنوير الناس وتحذير وزارة المالية والمصرف المركزي من عواقب سياساتهما الرعناء.

رغم جسامة الكارثة لا يبدو الرأي العام حاضرا لمحاسبة المسؤولين عنها، ربما لأنه لا يعرف القصّة الحقيقية ويجهل من هم الفاعلون.

 نشر في مجلة رابطة اصدقاء كمال جنبلاط الاكترونية  “فرح”

Leave a Comment