سياسة مجتمع

زلزال تركيا وسورية: عدَّاد الموت يتصاعد وحسابات الدعم تميِّز بين الضحايا

زاهي البقاعي

لا يتوقف عدَّاد الموت في كل من تركيا وسورية عن الارتفاع، فالارقام دوماً مرشحة للتصاعد. الرقم الآني قد يتغير تصاعدياً بعد قليل، كلما أمكن التعمق في البحث بين أنقاض المباني والأحياء المدمرة التي أمكن الوصول إليها. أما أولئك الذين لم تصل إليهم فرق الإنقاذ بعد، فأمور إحصائهم مستأخرة، ريثما يتم الإنتهاء من حصر ما خلفته الكارثة في المدن الكبرى الرئيسية في كلا البلدين. وبالطبع عندما نتحدث عن أكثر من 18 ألف قتيل صدرت بشأن وفاتهم بيانات رسمية أو شبه رسمية لغاية الآن، علينا أن نشير إلى ما لا يمكن إحصاؤه من ألوف المفقودين العالقين بين جدران وأسقف بيوتهم، وتضاؤل حظوظهم بالحياة كلما تأخر الوصول إليهم. كما يجب أن نتحدث عن أضعاف أضعافهم من الجرحى والمصابين في ظل عمليات إغاثة متعثرة وأحياناً بدائية،  وخدمات طبية لا تتجاوز الاسعافات الاولية. هذا عدا الذين فقدوا بيوتهم وباتوا في العراء الكامل، وسط طقس مثلج وعاصف، ما يعبر عن هول ما حدث، وانفجر على نحو صاعق في صبيحة يوم الاثنين الفائت. وترك وراءه مأساة أصابت مئات الألوف واهتز لهولها العالم. ولم يقتصر الأمر على البيوت والمباني قديمة وحديثة، بل شمل كل ما هو فوق الارض من جسور وطرقات ومنشآت ومطارات ومحطات قطارات وخطوط  الكهرباء وأبراج الاتصالات وما شابه. ما عقَّد مهام رجال الإنقاذ وجعل وصولهم إلى مواقع العمل أمراً صعباً إن لم نقل مستحيلاً في الكثير من الاحيان، واقتصر بلوغها على الطائرات المروحية التي لا تستطيع نقل الآليات الثقيلة لأعمال الحفر ورفع الأنقاض ونقل مواد الإغاثة في حال توافرت.

هنا السبب طبيعي يتمثل بما يعرف بالطبقات التكتونية أو بفالقي الأناضول والعربي اللذين يتلاقيان في الغرب التركي والشمال الغربي السوري، والقريبين من الفالق الاوراسي، فحالما تحرك الاول وتفاعل معه الثاني حدث الزلزال الذي أعقبه ثانٍ، وإن كان أقل منه، لكن مئات من الهزات الارتدادية تبعته، ما أكمل تدمير ما بدأه الزلزالان الكبيران. بالطبع قُرب مركز الزلازل من القشرة الارضية ترك مضاعفاته على العمران والمؤسسات عامة وخاصة، ولكن الموضوع في مكان آخر. صحيح أن ليس بالإمكان تلافي “غضب” الطبيعة طالما نتحدث عن تحركات في باطن الارض، لكن هذا لا يمنع من القول إن العديد من الدول المعرضة لتحركات زلزالية كاليابان وأندونيسيا وسواهما من الجزر الآسيوية خصوصاً، عملت من خلال فرض مواصفات وشروط للبناء أدت إلى التخفيف من الخسائر والاضرار. وهو ما بدا مفقوداً في كلا الدولتين وأدى إلى واحدة من أكبر الكوارث التي سقطت على العالم في هذا القرن.

هذا جانب، والجانب الموازي ينطلق من ضرورة المقارنة بين ما شهدته تركيا وسوريا من تفاعل مع الحدث، وكلاهما منكوبتان تماماً، وإن كانت الثانية بنسبة أقل من الاولى بالنظر لاتساع جغرافية الدمار في الاولى عن الثانية، باعتبار أن مركز الزلزال هو في تركيا ويبعد قرابة 60 كلم عن الاراضي السورية.

لقد تفاعلت القيادة التركية مع الوضع، وإن عانت من نواحي قصور متعددة. فمباشرة وبعد ساعات قليلة من وقوع الزلزال الاول أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وضع البلاد في مرحلة الإنذار الرابعة وهي أعلى درجة من الاستنفار، وطالب المجتمع الدولي ومعه المنظمات الدولية والانسانية بمد يد المساعدة العاجلة، فضلاً عن استنفار الطاقات المحلية بما فيها الجيش بسلاح الهندسة والطيران والبحرية وغيرها، وفرق الدفاع المدني ورجال البوليس وحتى عمال المناجم و…، باختصار تأهبت البلاد بأسرها لمواجهة الوضع. ثم جرى تطوير هذا التوجه لاحقاً عندما اعتبرت المنطقة التي استهدفها الزلزال منطقة منكوبة، وأُعلنت فيها حال الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر وأوقفت الدراسة وغيرها من أنشطة. وبالتأكيد أفادت تركيا من علاقاتها الدولية لتتلقى مساعدات عاجلة من عشرات الدول عبر الإعانات والفرق المدربة على مواجهة الكوارث من هذا النوع. إذن توجهت الإمكانات المتاحة وقبل أن تصل فرق المساندة والمساعدات الدولية نحو مسرح الحدث الذي يتجاوز عدد سكانه الـ13 مليون نسمة، فماذا نجد على الجانب السوري؟

من المعروف أن المنطقة الشمالية الغربية من سورية، هي عقدة تداخلات سياسية وعسكرية تتخللها خطوط تماس وبوابات عبور بين تلك المناطق، كانت تفتح وتقفل تبعاً لمصالح القوى ورغباتها، بالنظر إلى تعدد الفرقاء واللاعبين المحليين والاقليميين والدوليين. ولا يمكن قياس إمكانات الدولة التركية كدولة اقليمية كبرى، مع ما هي عليه أطراف المعادلة السورية بما فيه النظام، الذي لم يحرك ساكناً بداية تجاه ما يحدث، ولم يخرج مسؤول من الدولة، بدءاً برأس الهرم أو رئيس الحكومة والوزراء إلى أصغر مسؤول عن صمته، ليعلن عن توجه ما لمواجهة الوضع الكارثي وطلب المساعدة، وعندما جرى الاعلان عن الحاجة إليها بعد تأخر ساعات ثمينة بالنسبة لمن هم تحت الأنقاض خصوصاً، جرى اشتراط أن ترفع أولاً العقوبات عن البلاد (قانون قيصر) التي لا تشمل المساعدات الانسانية، وأن تتوجه هذه المساعدات إلى العاصمة ومنها يجري توزيعها على سائر المناطق. وهو أمر لا يملك أحد ضمانة حدوثه في ضوء الكثير من التجارب السابقة. لكن الكارثة التي أصابت مدن حلب وحماه وأدلب واللاذقية وغيرهم سبقتها كوارث من فعلة النظام نفسه، فالمعروف أن تلك المناطق تعرضت لقصف بالبراميل المتفجرة والمدفعية الثقيلة التي أحالت أحياء من هذه المدن إلى أكوام من الركام. كما أن تلك المناطق استقبلت ملايين النازحين من أنحاء البلاد، وهؤلاء أقاموا حيث يتيسر لهم من مبان متصدعة وخيم مرتجلة وغيرها. ولم تتوقف الأمور عند ذلك، فالاشتباكات التي كانت تندلع على السيطرة والنفوذ، بين السلطة وما يسمى منظمات المعارضة بتشكيلاتها الميليشياوية المختلفة، أكملت على ما تبقى من رمق في هذه المدن وأريافها. وهكذا حدث الزلزال مسبوقاً بإثني عشر عاماً من التدمير المنهجي الذي شارك فيه جميع الفرقاء وكل حسب طاقته. لذلك استقبلت تلك المناطق الحدث مجردة من كل وسائل المواجهة: المستشفيات نادرة وشبه بدائية، والمراكز الصحية تفتقد الاطباء والمعدات والأدوية، والكهرباء مقطوعة والمنافذ مقفلة، والمحروقات مفقودة لتشغيل ما يتوافر من معدات، يمكن أن تساعد في أعمال إزالة الركام عن صدور من سقطت عليهم. ومع كل هذا الخسران المحبط كان المسعفون السوريون ـ مثلهم مثل المسعفين الاتراك والمساندين، ومن بينهم فرق لبنانية ـ يعملون بأيد فارغة وسط تجمد أطرافهم، سوى من بعض الأدوات البسيطة، ونجحوا بفضل إصرارهم في كثير من الأحيان في انتزاع الحياة من بين براثن الموت، رغم أنه كان طاغياً بما يتجاوز عزائمهم الرائعة التي صمدت طوال سنوات المحنة أمام حال الجوع وفقدان مقومات العيش التي تطال ليس أقل من 15 مليون نسمة، في ظل الحاجة الماسة إلى الاحتضان من دولتهم التي لا ترى في ما حدث سوى مناسبة لإخضاعهم أولاً، ومن المجتمعين العربي والدولي ثانياً، اللذين تأخرا كثيراً في إنجادهم.

لا بد من الإشارة أيضاً إلى أن اللبنانيين الذين نجوا في وطنهم من الزلزال الذي أحاط بهم، لم ينجوا من مضاعفات الانهيار الذي شهده الوطن خلال السنوات الماضية. وهكذا رحلوا إلى تركيا للعمل، لكن الكثييرين منهم الذين قصدوا المناطق المنكوبة بحثاً عن الاستقرار والمساندة والدعم ذهبوا ضحايا بين الأنقاض وأكوام الدمار. وبذلك خسروا حياتهم وحياة الكثير من أحبتهم، ومساحة كانوا يتنفسون من خلالها.

يبقى كلمة يجب أن تقال عن المجتمع الدولي واستجابته. لقد بدا واضحاً أن تفاعله تأخر كثيراً، ثم إنه اختلف في التعامل بين تركيا وسوريا لحسابات سياسية، وبالتالي تأخر عن المبادرة وبالسرعة اللازمة للتدخل من أجل تقليص عديد الضحايا ما أمكن وبلسمة الجراح. لكن الأسوأ من ذلك كان محاولة التفريق بين منكوب ومنكوب للاعتبارات السياسية المعروفة، بينما كلاهما كانا بأمس الحاجة إلى التدخل العاجل لإبعاد يد الموت عن أن تختطفه، إن لم يكن بفعل الزلزال فبفعل البرد والصقيع.

Leave a Comment