سياسة

انصافاً للانتفاضة كي يتجديد الأمل بالخلاص

والعجز عن بناء حركة معارضة ديمقراطية مستقلة ذات وزن اجتماعي، في موازاة اجترار الأهداف والشعارات والبرامج البديلة من مدّعي القيادة الباحثين عن أدوارٍ لهم بين تشكيلات الحكومات الوهمية لاستلام السلطة اعتقاداً منهم أن النظام سقط وانهارت قواه.

كتب المحرر السياسي

    الأسئلة التي رافقت الإنتفاضة منذ لحظة انطلاقتها، والمتعلقة بأهدافها وحدود قدرتها على الفعل والتغيير استناداً الى طبيعتها وواقعها، كان يصعب سماعها وسط موجة الحماس العارم الذي أظهره مئات ألوف اللبنانيين المتضررين  في مواجهة قوى السلطة والحكم. سهّل هذا الواقع تحول الانتفاضة مطية للشعارات الكبرى، وسط ارتباك المشاركين فيها ومحاولات تحميلها جميع المطالب العامة والخاصة، بصرف النظر عن المشروع والممكن منها، وما يقع في دائرة الطموحات والأحلام والخيال.

   مع تشكيل الحكومة البديلة بعد اشهر من الانتفاضة ونيلها ثقة المجلس النيابي، وجدنا في انتشار وباء الكورونا مخرجاً لائقاً للانتفاضة من أزمتها، ومعها القوى والمجموعات المشاركة من مأزق استسهال التغيير، وفرصة لإعادة النظر بحساباتها وتبين مواقع اقدامها، في ظل تهرب أطراف السلطة من مسؤولياتها، وتمادي الانهيار الاقتصادي المالي وسط حالة الفوضى العامة المتسارعة.

    لكن التحصّن بوهم تجديد الانتفاضة وإدمان التحركات الاختزالية، والتنافس على النطق باسمها وادعاء قيادتها، ومحاولات ايجاد مخارج  لفظية إو شكلية خاوية، تغطية للهروب من تقييم التجربة لحماية انجازاتها، لم يُجدِ نفعاً. ما جعل الانتفاضة تستمر وسط حالة من التخبط  والعشوائية على هامش أزمة النظام وقواه، والعجز عن بناء حركة معارضة ديمقراطية مستقلة ذات وزن اجتماعي، في موازاة اجترار الأهداف والشعارات والبرامج البديلة من مدّعي القيادة الباحثين عن أدوارٍ لهم بين تشكيلات الحكومات الوهمية لاستلام السلطة اعتقاداً منهم أن النظام سقط وانهارت قواه.

   وإذا كان غير ذي جدوى النفخ في إنجازات الانتفاضة المجيدة إلى حد تعطيل القدرة على رؤية الواقع الذي آلت إليه أحوالها، فإنه من غير المفيد أيضاً، الإمعان في تغطية التنافس المحموم  بين تللك المجموعات على تشكيل التنسيقيات وعقد المؤتمرات التي تتصدرها المجموعات المدارة من قوى السلطة واجهزتها، أو تلك التي تموّل من الجهات الخارجية لإطلاق البرامج “الاصلاحية”. في ما الأزمات التي تعصف بالبلد وأهله تتبدل طبيعتها وتتسع مخاطرها وتنتقل بهما من حالة الماساة إلى مستوى الكارثة، ما يوفر مادة إضافية حول مسؤولية قوى السلطة عن الانهيار الزاحف على كل القطاعات والمرافق. لكن ذلك لا يغطي مسؤولية مجموعات الانتفاضة وقواها وتهربها من مراجعة تجربتها، والبحث في أسباب هامشية بنيتها بالصلة مع الفئات الاجتماعية المستنكفة عن المشاركة رغم كثرة الشعارات والبرامج المستنسخة، كما لا يبرر عجزها عن النفاذ من استعمال  اطراف السلطة لها واستغلال نقاط ضعفها.

   وكي لا تذهب إنجازات الانتفاضة إلى ادراج قوى السلطة، ولا يتبدد الأمل لدى اللبنانيين ويسود اليأس والاحباط مجدداً، وتضيع طموحات الذين ملأوا الساحات. وكي لا تَهدر تضحيات ونضالات مئات الألوف الذين حركتهم المعاناة والقلق والخوف، وقد بُحت حناجرهم وهم يصدحون معاً بالنشيد الوطني ويرفعون علم لبنان، يروادهم حلم أن لهم وطناً ودولة يستحقان النضال من أجلهما، بديلاً عن الساحة ودويلات أحزاب السلطة وتياراتها الطائفية.

    ولذلك لا بد من طرح الاسئلة الصعبة التي يمعن الجميع على الهرب منها خصوصاً مجموعات الانتفاضة وقواها. والأسئلة تتعلق بالعوامل والأسباب التي أوصلت انتفاضتهم إلى ذروة أزمتها، التي شكلت ساحاتها إنعكاساً ومرآة فاضحة لها. سواء تعلق الأمر بالاختلاف حول الهوية الوطنية وموقع لبنان وعلاقته بالمحيط وأزماته وحروبه، أو لناحية  قراءة وفهم طبيعة النظام والخلط بين أزمته ومأزق قواه، ووهم انهيارهما واستسهال ولادة البديل لهما. كذلك الأمر حيال الموقف من دول الخارج وتدخلاتها، وتناقض الرؤية بين تلك المجموعات وساحاتها، حول سياسات تلك الدول ومصالحها ومدى اتصالها بالمصلحة الوطنية. في موازاة تجدد الرهانات على تلك الدول وتوسل الاصلاح والخلاص عبرها، أو استسهال الارتباط بها من قبل الكثيرين. إنتهاء بإثارة إشكالية دور وسياسات حزب الله وسلاحه، للتغطية على عجز الانتفاضة، وقد تحول التبسيط في طرح هذه القضية إلى عبء عليها ومصدر انقسام ونزاع بين مجموعاتها. رغم استحالة مواجهة الحزب عبر استنساخ خطاب خصومه في السلطة أو بعض الخارج، خاصة أنه ليس الطرف الميليشياوي الوحيد، في ظل غياب مشروع الدولة وتفكك القوى والفئات الاجتماعية صاحبة المصلحة في وجودها وتطويرها وترسيخ وجودها، ما مكّن الحزب وشركائه في السلطة من استغلال إشكالية السلاح كل لغايته الفئوية الخاصة.

      أما السؤال الأكثر صعوبة فهو المتعلق بأسباب تراجع المشاركة في ساحات الانتفاضة والتحركات التي تكررت الدعوة لها، والتي لم تتعد بضع عشرات أو مئات في أحسن الاحوال مراراً، ولنا في الاحتفال بمرور سنة على انطلاقتها وما رافقه من منازعات ومناورات مثلاً ساطعاً. لماذا تسرب اليأس سريعاً إلى صفوف الغالبية الساحقة من اللبنانيين الذين ساورهم الأمل مع انطلاقتها فتسابقوا للمشاركة فيها ورفع لوائها والرهان عليها. وكيف تحولت الانتفاضة مطية، للباحثين عن أدوار بأي ثمن او لبعض ابواق اطراف السلطة من اصحاب الطموحات غير المشروعة، الذين شُرّعت لهم المنابر الاعلامية للنطق زورا بإسم الانتفاضة، وسط النبذ المتبادل وتقاذف تهم العمالة والخيانة مثلهم مثل قوى السلطة.

    ولذلك وفي سبيل انصاف الانتفاضة وتضحيات الذين شاركوا فيها شباناً وشابات ومن مختلف الاعمار والفئات والمناطق، الذين راهنوا على خلاصهم عبرها، وكي لا تتكرر تجاربنا وتتكرر اخطاءنا، لا بد من بذل الجهد لقراءة منصفة لهذه التجربة الثمينة والاستثنائية في تاريخ البلد وحياة اللبنانيين، بهدف استخلاص الدروس على طريق النضال لبناء حركة معارضة ديمقراطية مستقلة حقاً قولاً وفعلاً.

Leave a Comment