محمد قدوح
الجنوب 2 تشرين الثاني 2025 ـ بيروت الحرية
ينفذ العدو الاسرائيلي منذ وقف اطلاق النار في 27 تشرين الثاني عام 2024 حملة عسكرية ممنهجة هدفها اخضاع لبنان وحزب الله والبيئة الجنوبية استطرادا.
بدأت هذه الحملة مع تدمير غالبية منازل ومنشأت ومعالم بلدات وقرى الحافة الأمامية ومنع سكانها من العودة إليها، وتزامن ذلك مع غارات جوية متواصلة تستهدف استكمال تدمير مخازن الأسلحة في الجنوب والبقاع وبيروت، وملاحقة عناصر حزب الله وتصفيتهم. وتوسعت هذه الحملة مؤخرأ لتشمل الآليات والبني التحتية الخاصة بعملية إعادة الاعمار، وشملت معرض الأليات الثقيلة في المصيلح (جرافات، حفارات، وكميونات وما شابه) ومعمل الباطون والزفت في انصار، وملاحقة مثل هذه الآليات العاملة في مختلف بلدات وقرى الجنوب.
وقد ترافقت هذه الحملة مع تحريض السكان ضد حزب الله عبر منشورات ورقية، تم لصقها على جدران بعض منازل قرى الجنوب الحدودية، وتسجيلات صوتية بثتها مسيرات (الدرون) التي لا تفارق سماء الجنوب .
وتطورت حملة التهديد لتطال تجمع ابناء القرى الحدودية بعد الاعتصام، الذى نفذه أهالي هذه القرى للمطالبة بإعادة إعمار منازلهم والعودة إليها. أما الجديد الملفت في عمليات الاعتداءات المتلاحقة، فيتمثل قي القصف الذي تعرضت له مناطق مدنية مثل مدينة بنت جبيل ومدخل مستشفى تبنين وغيرهما، ومطاردة المزارعين الذين يقطفون الزيتون في حاريص، والعديد من عمليات القصف التي استهدفت المدنيين، وهو ما يؤشر إلى أن العدو الاسرائيلي ليس في وارد السماح للأهالي بالعودة إلى بلداتهم وقراهم من جهة، والبدء في مسار جديد في حملتة العسكرية لتنفيذ عملية تهجير لأهالي الجنوب بشكل تدريجى من جهة ثانية، في محاولة منه لتيئيس الأهالي وجعل الحياة في هذه المنطقة مستحيلة، وذلك لقطع الطريق على محاولات العودة أو حتى مجرد التفكير في المقاومة.
كيف يواجه اهل الجنوب هذه السياسة؟
في الواقع إن اهل الجنوب يعيشون منذ وقف اطلاق النار في حالة فقدان السيطرة على مصيرهم في ظل عدم توافر أي وسيلة لحمايتهم من الخطر الاسرائيلي، ما يمكن أن توفر لهم الشعور بالأمن والاستقرار في منازلهم وارضهم. ومع هذا الو ضع يشعر الجميع بأنهم يفتقدون أدوات المواجهة الفعالة مع العدو، بعد أن اظهرت الحرب الأخيرة قصور كل انواع السلاح التي يمتلكها الحزب في مواجهه القوة المتطورة والمفرطة التى تمتلكها اسرائيل.
وعليه، لم يبق أمام أهالي الجنوب من ضمانات فعلية لدرء المخاطر التى تتهددهم من قبل العدو سوى “ضمانة” اللجوء إلى الله وانبيائه وأوليائه من خلال الأدعية المحفوظة، رغم معرفتهم المسبقة أنها لا تكفي لحمايتهم من هذا القصف والاستباحة. وبالرغم من هذا الواقع المرير، لوحظ من خلال متابعة مواقف الأهالي وسلوكهم حيال الأعتداءات الاسرائيلية، إنها تتراوح بين الخضوع والتمرد.
فمن المواقف التى تعبر عن الخضوع تلك التي تهدف الى درء العدوانية الاسرائيلية، مثل طلب الإذن عبر قوات الطوارىء الدولية التي تتواصل مع الجيش الاسرائيلي للسماح لهم بقصد قراهم لدفن موتاهم، ونقل محتويات محالهم التجارية وقطاف الزيتون، عدا الاستجابة للانذارات التي يوجهها العدو لهم لإخلاء بعض المنازل والمناطق المحيطة بقرى الحافة الأمامية، أو المناطق التي ينوى استهدافها بالقصف.
أما المواقف التى تعبر عن التمرد فتتمثل في العودة إلى بلدات وقرى الحافة الأمامية، والتي تختلف بين كل قرية وبلدة واخرى تبعا لأسباب متداخلة منها عدد السكان المقيمين فيها قبل الحرب. وهو ما ينطبق على كل من مدينة الخيام وبلدات حولا، ميس الجبل، بليدا، وعيترون. وبنسبة أقل في البلدات المدمرة بشكل شبه كامل مثل كفركلا، عديسة، مارون الراس ومارون، عيتا الشعب، راميا، يارين، الضهيرة، البستان، وعلما الشعب. والملفت في هذا السياق رفض بعض الأهالي الانذارات التي وجهها لهم العدو لإخلاء منازلهم. والحدث الابرزعلى هذا الصعيد كان رفض مجموعة من اهالي عيتا الشعب اخلاء منازلهم بالرغم من تعرضهم لقنابل صوتية، وطلبوا من الجيش اللبناني تأمين الحماية لهم، وهو ما حصل، ولا زالوا حتى الآن مقيمين في بيوتهم. ولا شك في أن عودة قسم لا بأس به من الأهالي إلى قراهم، وتحدي الانذارات التي وجهها لهم العدو يؤشر إلى بداية مرحلة التمرد والتي قد تنتهي بالمواجهة.
هل يستمر الموقف بين الخضوع والتمرد؟
يعيش الجنوبيون حالة قلق وجودي، لأنهم أصبحوا على يقين بأنهم مهددون بالاقتلاع من ارضهم، ويتعزز هذا اليقين من خلال ما يعبر عنه قادة العدو لجهه التوجه نحو توسيع جغرافيا الكيان الصهيوني وتحقيق حلم اسرائيل الكبرى من النيل الى الفرات وبما يشمل معظم أجزاء من لبنان وفي مقدمها الجنوب كاملا. وكذلك التصريحات الأميركية التى عبرت عن تفهم حاجة اسرائيل لتوسيع مساحات كيانها. ومما يعزز هذا القلق لديهم هو فشل الدبلوماسية اقله حتى الآن في تحقيق الانسحاب الاسرائيلي من النقاط التى جرى احتلالها بعد انتهاء الحرب. ووقف الاعتداءات الاسرائيلية اليومية، مما جعلهم يعتقدون بأن الجهود الدبلوماسية اللبنانية لا تتجاوز حدود إدارة الأزمة والحفاظ على الوضع القائم، وهو ما يعتبرونة تمديدا للمأساة والقلق إلى أجل غير مسمى، وبالتالي لا يمكن أن تستمر مرحلة التذبذب طويلا، لأن بذور التمرد تنمو فيها بصمت وبطء، وكذلك تزداد في هذا الوسط الميول الانتحارية الناتجة عن تراكم العدوانية المرتدة نحو الذات، والتى قد تأخذ طابعا صريحا أو رمزيا وهو الغالب. لذلك قد تشهد حالات مقاومة فردية أو ضمن مجموعات صغيرة، لا تلبث أن تغيب مخلفة الموت والدمار بسبب ردة الفعل الاسرائيلية العنيفة التي تأخذ شكل البطش الذي يتجاوز القوانين والمواثيق الدولية التي ترعى الحروب، وهو ما يعبر عنه فرانز فانون بالقول:” إن الشعب المستعمَر عندما يَقتل أو يُقتل، فانه لا ينتقم من المستعمِر فقط، وإنما يسترد ذاتة”.
هذه المرحلة قد تطول أو تقصر، رهن الظروف التى تسرع أو تؤخر مرحلة التمرد التي لا بد أنها قادمة، في حال استمرار الوضع على ما هو عليه الآن، لأن الانسان لا يستطيع تحمل انتهاك انسانيتة وكرامته إلى ما لا نهاية. يقول دوركهايم في هذا الاطار: “عندما تصل جماعة عبر الشعور اللا واعي، إلى أن بقاءها بلا كرامة هو الفناء الحقيقي، عندها يختار الوعي الجمعي التضحية بالجسد من أجل بقاء المعنى”.
على أي حال إن الانفجار الشامل لا علاقة له بما يتصل في البنىة الاجتماعية والنفسية الجنوبية معزولة عن أبعادها، إذ يعود لاعتبارات سياسية متداخلة ومعقدة لا علاقة لها بما يعتمل في هذه البنية المحلية فقط ، اذ يتجاوزها ضمن الوضع اللبناني إلى الأوضاع الاقليمية والدولية.
