لا يختلف اثنان في أن مسيرة العهد القوي مرشحة للمزيد من التعثر الذي لازمها منذ أيامها الاولى ولا يزال. وأن قدرته على تجاوز أزماته نحو تنفيذ وعوده الاصلاحية، أو تحقيق الأهداف التي رسمها لنفسه، أمر يقع في باب المستحيلات. من أسباب التعثر طبيعة نظام الطائف القائم على المحاصصة الطائفية والمولّد للصراعات والازمات، والتي لم تفلح العهود السابقة في معالجة أي منها، فتراكمت، وجرى توارثها تباعاً مضافاً لها ملفات جديدة بعضها لم يكن في حسبان اللبنانيين. ومن الأسباب أيضاً، طبيعة قوى السلطة والحكم، بما فيها حزب العهد وتياره السياسي وحواشيه المتنوعة، والمستندة إلى بُنى طائفية وعائلية يستحيل عليها أن تنتج روئً وطنية جامعة لمصالح البلد، أو امتلاك القدرة على الاصلاح والتغيير ومعالجة قضاياه وأزماته، سواء تعلق الأمر بالكيان وموقعه العربي أو الإقليمي، أو اتصل بصيغة النظام السياسي وتكوين السلطة ومؤسسات الحكم وآليات عملها، أو طال الاقتصاد والاجتماع والأمن وما يتفرع عنها من ملفات. وهذا بمجمله ما يبقي البلد ومصيره تائهاً وسط عواصف المحيط المتفجرة، وارتداداتها على الداخل اللبناني، التي تغذي أوهام قواه الحاكمة وتساهم في تأجيج صراعاتهم المستمرة، فتديم حال الاضطراب وتجعل الحد الأدنى من الاستقرار أمراً بعيد المنال.
عليه، فان العهد القوي، هو أحد أوجه مضاعفات أزمات الكيان والنظام السياسي والبُنية الاقتصادية والاجتماعية، ونتاج مساراتها المتعثرة التي تأسر البلد. هكذا كان الأمر منذ محطاته التأسيسية الاولى لموقعه وتياره، واستمر مع محاولات ترشحه المتكررة لسدة الرئاسة وتولى المسؤولية، وادعائه امتلاك القدرة على “الاصلاح والتغيير” على امتداد سنوات طويلة. هذا ما أكدته التسوية الرئاسية، وما أعقبها خلال سنواتها الأولى من تأجيل وتعطيل للاستحقاقات وشلل للمؤسسات، وصراعات أوصلت البلد إلى حافة الانهيار، التي سبق وبلغها مرات عدة.
والعهد أيضاً كمن سبقه، ليس باستطاعته أن يحمل أو ينتج حلولاً. وليس في ذلك ما يفاجىء أو يخالف طبائع الأمور، نقول ذلك برسم كل الذين راهنوا وانتظروا الانقاذ الذي لم يأتِ، وجميع الذين لم يحصدوا سوى خيبات مدوية، لا يخفف من وطأتها إحالة أصحابها المسؤولية عنها على الآخرين، ولا تزيين المستفيدين والمنتفعين خلال تلك العهود.
وإذا كان العهد القوي يرى في تياره ومستشاريه، مصدر حصانة وقوة له، تسمح بخوض معركة استعادة صلاحيات الرئاسة. فإن هؤلاء في المقابل يعتقدون أنه مصدر قوتهم، وأن لديهم من الامتيازات ما يمكنهم من التحكم بكل الملفات والتفرد في ادارتها، والإستئثار بالمغانم والهيمنة على الآخرين، تحت راية استعادة حقوق المسيحيين. غير أن واقع الامور ونتائجها تؤكد العكس تماماً، فهذا الوضع شكل سبباً جوهرياً للتعثر ومصدراً دائماً للاختلاف والنزاع مع الشركاء في التسوية والحكم على السواء. واقع الحال لم يثبت أن موقع الرئاسة حَكَماً محايداً، بقدر ما هو طرف يضيف إليه تياراً أهلياً، ويغطي ممارساته، ويغلب سياسات ومصالح بعينها على كل ما يخالفها أو يتعارض معها.
هذا ما أتاح لرئيس التيار أن يتصرف كولي للعهد، كما في أي نظام ملكي، وجل همه تحويل ولايته أمراً واقعاً مكرساً ومقبولاً طوعاً أو قسراً لدى أمراء الطوائف الذين يشكلون معاً الطبقة السياسية، بصرف النظر عن تضارب المصالح وتفاوت الأحجام واختلاف السياسات والولاءات. فهو رئيس تيار الرئيس، القيِّم على سياسات البلد والحكم والحكومة، وكل ما يتعلق بالنظام والكيان والاجتماع العام اللبناني، وممثل المسيحيين الذين تتجسد فيه حقوقهم، ووزير جميع الوزارات الذي يوزع الصلاحيات ويمسك ملفات الداخل والخارج. كذلك هو ميزان الصواب والخطأ في قضايا الفكر والثقافة والتفوق اللبناني على العالم، إنه الرئيس القادم والمخلص المنتظر، فلماذا لايتوج ولياً للعهد ويكرس وريثاً شرعياً له.
ليس في الأمر مبالغة أو تضحيم، وحالة ولي العهد غير المتوج ليست استثناء، بقدر ما هي إبنة شرعية للنظام الذي باسمه يتولى أمراء وزعماء أحزاب الطوائف حكم البلاد والعباد، ويتوارثون كل شيء، كما يتشاركون الصفات والممارسات والسياسات عينها، وإن اختلفت المصالح وتباينت أو تبدلت مواقع العداء والخصومة، المحكومة دوماً بالتسويات المؤقتة، دون أن يغير في الأمر تقدم أو تراجع هذا الأمير، أو ذاك الزعيم، أو انعقاد التحالفات وتشكل الجبهات أو انفراطها، تبعاً لتوازنات الداخل والخارج المتداخلة.
لسنا بصدد استعراض يوميات الأسابيع الأخيرة لأهل السلطة، وما حفلت به ممارساتهم من مناكفات أثناء جلسات الحكومة لإعداد مشروع الموازنة والتي بلغت رقماً قياسياً، أو فولكلور مزايدات النواب والوزراء في لجنة المال والموازنة قبل إحالتها للإقرار الشكلي في المجلس النيابي. كذلك لا نرغب في رصد المواقف المتناقضة لولي العهد وزملائه من الأمراء والزعماء ومساعديهم حيال ملفات الداخل التي يستحيل حصرها، أو بشأن أزمات المحيط الاقليمي المتفجرة في أكثر من إتجاه. فهذا من لزوميات حياة اللبنانيين الذين أدمنوا الوضع الاستثنائي والمؤقت، وقد تحوّل وضعاً طبيعاً دائماً واصبح الأمل بتجاوزه من الاحلام.
وعدم الرصد مرده أن كثرية اللبنانيين ورغم انقساماتهم وتعدد ولاءاتهم، ينغمسون في معارك سياسية ودموية لغايات طائفية وفئوية بعيداً عن مصالحهم الفعلية ومصالح البلد. وهم يتابعون بشغف غير مستغرب، كل ما تحفل به يوميات الطبقة السياسية الحاكمة من غرائب وعجائب ثقافة الانحطاط، وما يرافقها من خطب شعبوية متوترة ومشحونة بالعنصرية والتعصب والتحريض المتبادل والمبتذل حول كافة شؤون الداخل والخارج المتدخل والمقرر.
وفي هذا السياق، لا ميزة لطرف على آخر، فالجميع متفوق ومتميز في مدرسة الفجور والتحشيد الطائفي، كما في خوض المعارك التي تدفع البلد نحو الهاوية. أما المخاطر الخارجية التي تحاصر البلد، والكارثة الاقتصادية الزاحفة، واهتراء مؤسسات الدولة والقطاعات العامة، واهمالها لمصلحة من يتاجر بها، وحصر مبرر استمرارها وبقائها، بحاجتهم لها، وكم تشكل بالنسبة لهم ميدانا للنهب وتوظيف الزبائن. أما حمايتها وتجديد دورها وفعاليتها، فلا مكان له في جداول أعمالهم، كما لدى المعترضين الباحثين عن مطالبهم الفئوية الخاصة التي تحتل الاولوية، كما هو الحال في قطاعاات التعليم والصحة والكهرباء و.. وإن حضرت فمن باب رفع العتب.
[author title=”زكي طه” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]