فتح الرد الإيراني على الضربة الإسرائيلية للقنصلية في دمشق الأبواب على مرحلة جديدة من الصراع في المنطقة، من دون أن يعني ذلك أنه كرّس معادلة توازن ردعية مع إسرائيل. وهذا الرد الذي كان منتظراً خصوصاً من محور المقاومة لمعرفة تداعياته لم يؤدّ إلى تغييرات جوهرية في وجهة الحرب الإسرائيلية على غزة، لا بل إنه سيدفع الاحتلال الإسرائيلي للاستفراد بالفلسطينيين والتعجيل في شن الحرب على لبنان و”حزب الله”، لأنه كان محدوداً لكنه كشف السقوف الإيرانية على الرغم مما أحدثته الطائرات المسيّرة والصواريخ من هلع داخل إسرائيل.
لم يكرّس الرد الإيراني معادلة جديدة في غزة، ولا في لبنان الذي بات معرّضاً لأخطار أكبر بكثير من السابق، فهو وإن كان حفظ ماء الوجه لطهران، فإنه أعاد تعويم حكومة بنيامين نتنياهو وتسلحها بالكثير من المبرّرات لاستمرار حربها على غزة وعلى “حزب الله” باعتباره التهديد الرئيسي لحدودها الشمالية كطرف تعتبره إسرائيل يمثل أحد وكلاء الجمهورية الإسلامية في المنطقة.
منذ الآن يمكن القول إن ما بعد الرد الإيراني لن يكون كما قبله، ليس لأن المعركة باتت مباشرة بين إسرائيل وإيران، بل لأن مسارها سيختلف بالنسبة إلى لبنان وغزة. ففي اللحظة التي انطلقت فيها المسيّرات الإيرانية هبّت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا إلى دعم إسرائيل وأسهمت قواتها في إسقاط معظم الصواريخ قبل بلوغها الأجواء الإسرائيلية، تماماً كما حدث بعد عملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول 2023 عندما وضعت كل قدراتها لحماية إسرائيل وأدارت المعركة في غزة. والأخطر أن الرد الإيراني المحدود أعاد الحياة إلى العلاقات الأميركية-الإسرائيلية، وقد يرتب الأولويات في الخلاف بين الجانبين بالتركيز على ما يسمّى الخطر الإيراني، من دون أن يعني ذلك موافقة أميركية على ضرب أهداف داخل إيران، ولذا ستصبح غزة معزولة أكثر وتفتح في الوقت نفسه الطريق أمام إسرائيل لشنّ حرب على لبنان وإزالة ما تسمّيه تهديد “حزب الله”.
قبل الرد الإيراني تجاوز لبنان قطوعاً أمنياً كبيراً بعد مقتل باسكال سليمان، لكن الوقائع في الداخل لا تزال تمثل خطراً على استقراره. ويرتفع منسوب المخاوف في ضوء التطورات العسكرية في الجنوب مع مشاركة “حزب الله” في إطلاق الصواريخ بالتزامن مع تحليق المسيّرات الإيرانية، واستمرار الجبهة مفتوحة لمساندة غزة واشتداد المواجهات على وقع التهديدات الإسرائيلية المتواصلة بتوجيه ضربات تدميرية، وشن حرب لإبعاد “حزب الله” عن الحدود. ولذا يتوقع أن تتكثف المواجهات في الجنوب، فلبنان يقع في قلب الخطر كحلقة ضعيفة، ووفق مصدر ديبلوماسي متابع إن كل ما يجري في المنطقة ينعكس على وضعه كساحة متصلة بالحرب على غزة والحسابات الإيرانية ووسط التهديدات الإسرائيلية المستمرة.
التحذيرات الدولية الأخيرة للبنان لم تقتصر على ملف الجنوب، إذ شملت الوضع الداخلي غير المستقر والمعرّض لاهتزازات كبرى في ضوء الانقسام الأهلي والطائفي الذي تغذيه توظيفات خارجية تدفع البلاد إلى الانفجار. فبين تحذيرات فرنسية وأخرى أميركية من ضرورة التوصّل إلى تسوية في الجنوب لوقف التصعيد، يظهر أن الرد الإيراني سيكون له انعكاسات على لبنان، إذ سيصعّد من مسارات الحرب، وهو ما سيؤدي إلى تداعيات على الوضع السياسي الداخلي في ظل الانقسام القائم، وسيزيد من وتيرتها، إما اعتراضاً على زج لبنان في حرب لا يمكنه تحمّلها، أو تأييداً لمحور المقاومة الذي يخوض حربه لحسابات منها لبنانية وفي أكثرها لاعتبارات إقليمية.
قبل الضربة الإسرائيلية للقنصلية الإيرانية في دمشق، كانت التهديدات الإسرائيلية بشن حرب على لبنان و”حزب الله” وصلت إلى ذروتها، خصوصاً مع توسع العمليات العسكرية واستهدافات الاحتلال للعمق اللبناني، وهي ترافقت مع استعدادات للجيش الإسرائيلي في الشمال. اليوم تزداد احتمالات الحرب مع الرد الإيراني الذي شكل مفصلاً لتطورات المنطقة كلها وفق المصدر الديبلوماسي، حيث أغلقت نافذة التفاوض غير المباشر بين الولايات المتحدة وإيران، والتي كان مسرحها سلطنة عُمان في انتظار التداعيات التي سيرتبها رد طهران بضرب عمق إسرائيل.
سيكون لبنان في قلب المعركة مع ما تحمله من أخطار على بنيته. يقول المصدر الديبلوماسي إن “حزب الله” هو جزء من استراتيجية المواجهة الإيرانية. وقد كان واضحاً أنه بعد استهداف القنصلية لن تكون معركته هي نفسها تقتصر على مساندة غزة، إذ كان الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله واضحاً في قراءته للرد الإيراني قبل حدوثه وفي انتظار تداعياته. ولا شك في أنه سيزيد من التوتر وسيرفع منسوبه في المنطقة، وسيضاعف احتمالات الحرب. وينقل المصدر عن أجواء أميركية أن انعكاسات الرد ستكون أكثر حدّة على لبنان مع احتمالات تصعيد المواجهة وانتقال الجبهة الى حالة الحرب وربما الهجوم الإسرائيلي البري والقصف التدميري، خصوصاً إذا انخرط الحزب في التصعيد أكثر كجزء من المعركة الإيرانية.
ترجيحات الحرب هي الأكثر احتمالاً، وذلك على الرغم مما تنقله أوساط استخباراتية عن أن إيران بعثت برسائل مسبقة إلى الولايات المتحدة تفيد بأن الرد هو على أهداف محدودة. فإيران تريد وقف إطلاق النار في غزة بشروط، ولديها سلة مطالب تبدأ من غزة وتتصل بلبنان وسوريا، وأبرزها أن يكون لها كلمة في كل ما يتصل بهذه الجبهات. وتعتبر إيران ومعها “حزب الله” وهو ما عبّر عنه نصرالله في كلمته الاخيرة، أنهما حققا مكتسبات لمحور المقاومة لا يمكن التنازل عنها، والشرط الأساسي هو بالهدنة وتراجع إسرائيل عن استهدافاتها باجتياح رفح.
في الرهان الإيراني أيضاً، وفي مقابل استعداد طهران للرد، فإنها تضع شرطاً لوقف أي حرب إسرائيلية ضد “حزب الله”، وبالتالي عدم نقل حرب غزة إلى الجنوب. لكن الحرب على جبهة الجنوب باتت في استعداداتها الأخيرة وفق المصدر، وقد يسرّعها الرد الإيراني، ولا يبدو أنه يمكن العودة إلى الوراء. والمؤشر الخطر في جبهة الجنوب هو تراجع الوساطة الأميركية وغياب آموس هوكشتاين، ما يشير إلى الانسداد في التفاوض، إضافة إلى ارتفاع منسوب التحذيرات الفرنسية من احتمال اشتعال الجبهة، وطلب باريس ودول أخرى من مواطنيها عدم السفر إلى لبنان. ويرتفع منسوب الخطر أيضاً مع الحشود العسكرية الإسرائيلية والاستعدادات لبدء عمليات جديدة وُضعت تحت خانة الانتقال من الدفاع إلى الهجوم. والهدف الإسرائيلي بات واضحاً هو إبعاد “حزب الله” إلى شمالي الليطاني وتأمين عودة المستوطنين وجعل منطقة الشريط الحدودي أرضاً محروقة، وذلك بصرف النظر عمّا إن كان هذا السيناريو ممكناً أو يؤدّي إلى حرب في المنطقة كلها.
اللافت في هذا السياق أن هذه الاخطار بدأت تضغط على “حزب الله” لبنانياً، لكنه اليوم في قلب المواجهة الإيرانية، ويضع لبنان أمام احتمالات عدة في ضوء انسداد التفاوض وإبقاء جبهة لبنان مفتوحة، والأخطر ما تسعى إليه إسرائيل من استدراجه أكثر إلى حرب قد تكون مدمّرة للبنان.
*نشرت في النهار بتاريخ 14-04-2024
Leave a Comment