*صقر أبو فخر
يستعجل الناس، في العادة، تقويم المعارك والحروب، وتبيّن مآلاتها حتى قبل أن تتوقّف أصوات الرصاص والمدافع. ويحلو للمعلّقين السياسيين والعسكريين الذين “يحتلّون” شاشات التلفزة، منذ محمد سعيد الصحّاف حتى فايز الدويري، أن يستخلصوا من بعض الوقائع الجزئية استنتاجات نهائية، وهو أمرٌ مخالفٌ للتفكير العلمي. ومن المحال تقويم نتائج الحرب المندلعة في قطاع غزّة وجنوب لبنان الآن لأننا ما زلنا في معمعان القتال وفي خضم المواجهات. وحين تتوقّف المعارك نهائيّاً، حينذاك يبدأ كل طرفٍ في عدّ خسائره العسكرية والسياسية، وفي تجميع مكاسبه، ثم صوغ الحساب الختامي للأرباح والخسائر. وفي هذا الميدان، لا بد من الإشارة إلى عدم إيماني بالمدرسة القَدَرية في التفكير والاستنباط، وهي مدرسةٌ تفاؤليةٌ ساذجة تحيل المستقبل على الرغبات الراهنة، ولا ترى في الواقع غير سلسلة من الانتصارات التي تسير بصورة خطّية نحو هدفها الأعلى. وانطلاقاً من هذه الرؤية، لا أؤمن بأن المظلومين سينتصرون في نهاية المطاف لأنهم يجسّدون الحقّ، فالتاريخ برهن مراراً أن حُقبه المتسلسلة كانت دائماً مقابر للمظلومين، وهو ما جرى للسكّان الأصليين في أميركا وأستراليا ونيوزيلندا، حين قضى الظالمون على شعوبٍ مظلومةٍ كان لها تاريخ وثقافة وحضارة وميراث مادّي ورمزي بالغ الثراء. وفوق ذلك لا أعبأ قطّ، ولا أعتدّ، بالكلام الذي لا ينفكّ يردّد أن النصر حليفنا بالتأكيد لأن الله معنا، وهو كلامٌ رغبويٌّ يصادر مشيئة الله وإرادته لمصلحة هذه الجماعة أو تلك.
عدم فهم الواقع السياسي المتغيّر والمتحرّك يجعل السياسة الواقعية أمراً مستحيلاً، ويصبح من المحال فهم السياسات الساعية إلى تحقيق المصالح العليا التي تتضمّن الأمن والسياسة والاقتصاد وغيرها، فإذا كانت “البندقية تزرع والسياسة تحصد”، فإن السياسة قد تُبدّد، في أحيانٍ كثيرة، ما زرعته البندقية. وهنا، في هذا السديم المعرفي، من الضروري الإجابة عن السؤال: هل هناك احتمال قوي بأن يحصد الفلسطينيون نتائج الحرب الإسرائيلية على غزّة لمصلحتهم في ما لو تمكّنوا من إنجاز وحدتهم الوطنية، وانضمّت حركتا حماس والجهاد الإسلامي إلى برنامج الاستقلال الوطني الذي يتضمّن، كهدف بعيد أو متوسط البعد، تأسيس دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزّة بعد تفكيك المستعمرات الإسرائيلية، واستعادة القدس الشرقية، وحل مشكلة اللاجئين استناداً إلى قرارات الأمم المتحدة؟
ما زالت هذه الأهداف تُلوّح لنا من بعيد، أي من ميادين الأحلام السياسية والتاريخية، والوصول إليها دونه شقاء ومكابدة ودموع ودماء وآلام وسياساتٌ عابثةٌ وسياساتٌ فاشلةٌ وسياساتٌ واقعيةٌ ومغامراتٌ وأفكارٌ وحلولٌ متشابكةٌ ومتداخلةٌ وعسيرةٌ وساذجة، وهذا كله عَرَفَتْه جيّداً مرحلة التحرّر الوطني التي أطلقت فيها حركة فتح رصاصة الانطلاقة الأولى في عام 1965. وترتسم لوحة النضال الفلسطيني اليوم في غزّة ببهاء وعظمة وإجلال، وتعصى بألوانها على الوصف والشرح والبيان والإيضاح؛ فهي تجلو نفسها بنفسها من غير الحاجة إلى تفسيرٍ أو تعبير. فإذا كانت “البندقية تزرع والسياسة تحصد”، فإن حركة حماس، ومعها حركة الجهاد الإسلامي وباقي الفصائل المقاتلة، يمكنها أن تتصرّف بالبندقية بطرائق فاعلة أحياناً وغير ناجعة أحياناً أخرى، لكنها، في الأحوال المنظورة اليوم، غير قادرة وحدَها على حصد النتائج السياسية المتوخّاة. وفوق ذلك، برهنت الوقائع الدموية الجارية في قطاع غزّة أن “حماس” لا يمكنها أن تكون بديلاً عن منظمة التحرير الفلسطينية أو عن حركة فتح، لكن، يمكنها أن تكون شريكاً في صوغ المستقبل الفلسطيني. وهذه النتيجة أمرٌ بدهي، فالجماعات الإسلامية في فلسطين (الإخوان المسلمون وحزب التحرير وحركة الجهاد الاسلامي وحركة المقاومة الاسلامية) لم تستطع، ولا تستطيع، أن تفرض رؤيتها وبرنامجها العقيدي والسياسي على المجتمع الفلسطيني، غير أنها تستطيع أن تناضل، مع بقية منظمّات الشعب الفلسطيني، في نطاق برنامج وطني مشترك لإلحاق الهزيمة بمشروع الذروة الإسرائيلي، وإنجاز مشروع الحد الأدنى الفلسطيني، أي الدولة الفلسطينية المستقلّة.
… يريد نتنياهو وتابعاه سموتريتش وبن غفير نصراً حاسماً وقاطعاً في قطاع غزّة، وهذا أمرٌ يعادل المحال. فمن الصعب أن تزعم إسرائيل أنها حقّقت انتصاراً حاسماً على المقاومة في غزّة. ومن الصعب أيضاً أن تدّعي المقاومة أنها هزمت إسرائيل في حملتها العاتية التي تجلّت فيها النازية الإسرائيلية بجلاء ما بعده جلاء. ومن الممكن أن تتوقّف المعارك في لحظة ما عند ستاتيكو جديد يتيح لكل طرفٍ أن يقول إنه حقّق انتصاراً ما، أو إنجازاً ما، أو أنه حال دون تحقيق الخصم أهدافه وغاياته العسكرية والأمنية والسياسية. وأي تسويةٍ، كي تكون ممكنة، يجب أن تتيح لكل طرفٍ أن يقول إنه انتصر وحقق جزءاً مهمّاً من أهدافه، أو أنه منع عدوّه من تحقيق خططه. ومن البدهي القول إن فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها في غزّة لا يُضاف تلقائياً إلى حساب المقاومة الفلسطينية؛ فقد يخسر الطرفان المتواجهان ويكسب طرفٌ ثالثٌ لم يكن في الحسبان. وهذا ما جرى في حرب 1982 في لبنان. آنذاك، انتصرت إسرائيل عسكريّاً، وخرجت القوات العسكرية الفلسطينية من لبنان، وخرج الجيش السوري معها من بيروت وجبل لبنان إلى سهل البقاع. غير أن إسرائيل خسرت سياسيّاً بعدما كانت ربحت عسكريّاً لأنها لم تتمكّن من الوصول إلى غاياتها؛ فهي لم تستطع تنصيب بشير الجميّل على رأس الحُكم في لبنان كما كانت تشتهي، ولم تستطع أن تحصل على اتفاق سلام ثنائي كما وعدها شقيقُه أمين الجميّل، وتساقطت أوراق “النصر” الواحدة تلو الأخرى، وراح وجودُها العسكري يتقلّص بالتدريج إلى حدود الشريط الحدودي الذي كان موجوداً في الأساس منذ عام 1978 على الأقل (دولة سعد حدّاد). نعم، خسرت منظمة التحرير الحرب في 1982، وخسرت إسرائيل تلك الحرب أيضاً، أما الذي انتصر، في خاتمة المطاف، فكان المقاومة اللبنانية (جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ثم المقاومة الإسلامية – حزب الله) التي أرغمت الجيش الإسرائيلي على الفرار من جنوب لبنان في سنة 2000 من غير أي شروط.
في قطاع غزّة الذي تجتاحه جحافل الجيش الاسرائيلي الهمجي، وتكاد تُمحى معالم مدنه ومخيّماته، فإن فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها المعلنة لا يعني قط أن هذا الفشل سيتحوّل تلقائياً إلى نصر لنا، فللنصر عناصره الخاصّة في هذا الميدان. لنلاحظ أن “حماس”، ومعها بقية الفصائل المقاتلة، قد رسمت رؤيتها ومطالبها على النحو التالي: وقف القتال وقفاً تامّاً؛ انسحاب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزّة؛ إدخال المساعدات الغذائية والطبية والإيوائية؛ التفاوض على إطلاق سراح الأسرى من الطرفين؛ البدء بإعمار قطاع غزّة؛ الشروع في السير نحو الدولة الفلسطينية المستقلة. وعلى صعوبة تحقق هذه البنود كلها معاً، فإن هذا الموقف يعني أمراً واحداً هو العودة إلى اليوم السابق Day Before، أي إلى السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. وبهذا المعنى، فإن الواقع المرّ الذي يحول دون تحقيق الانتصارات المباشرة سينشئ بالتأكيد واقعاً جديداً (ستاتيكو جديد). وهذا الستاتيكو ربما يحرّك المصالح الإقليمية والدولية المتشابكة نحو إنجاز تسوية سياسية ما. وهنا تصبح منظمة التحرير الفلسطينية الهيئة التي لا يمكن الاستغناء عنها ألبتة بوصفها التعبير القانوني والتعاقدي والرمزي للوطن الفلسطيني تحت الاحتلال، وبصفة كونها الشرعية التأسيسية التي تعاقد عليها الفلسطينيون في الأمس، وهي اليوم الملاذ الوحيد المتاح لإنقاذ الشعب الفلسطيني ولحماية السكان، وللحيلولة دون عودة الاحتلال المباشر.
من علائم فشل الحملة الإسرائيلية العاتية في حرب 1982 أن قدرة الردع الإسرائيلية لم تُصبح أقوى بعد إخراج القوات العسكرية الفلسطينية من لبنان. وأخال أن قدرة الردع العسكرية الإسرائيلية لن تصبح أقوى في عام 2024 بعد أن تتوقّف أصوات المدافع، حتى لو سيطر الجيش الإسرائيلي على كل ناحية في قطاع غزّة. ويتساءل باحثون أميركيون كثيرون: هل إسرائيل قادرة حقاً على الدفاع عن نفسها بمفردها كما كنّا نعتقد؟ ويتساءل باحثون إسرائيليون: هل المستوطنات تحقق فعلاً الأمن لإسرائيل؟ لقد انهارت هذه النظرية في 7 أكتوبر (2023)، عندما جرى ترحيل المستوطنين الإسرائيليين من مستوطنات غلاف غزّة ومن شمال فلسطين إلى أماكن أخرى، وانهارت معها النظرية الفاسدة أن المستوطنين هم حرّاس أمن إسرائيل. غير أن هذا التغير المصحوب بالفشل لا يمكن إضافته إلى جعبتنا تلقائيّاً، ولا يمكن احتسابه في خانة أصولنا على الإطلاق، فللنصر حسابات مختلفة وعناصر غير التي يتم تداولها في التحليلات التعبوية عالية الصوت؛ فالمنتصر هو الذي يفرض شروطه على المهزوم في نهاية المطاف.
… الرؤية الإسرائيلية لليوم التالي بعد توقف القتال لا تخفي تفصيلاتها، وهي تنبني على النقاط التالية: حكم عسكري إسرائيلي لقطاع غزة. تأسيس تحالف دولي – عربي للإشراف على إدارة شؤون القطاع، على أن تبدأ دول التحالف تطبيع علاقاتها مع إسرائيل فوراً، خصوصاً السعودية. ينشئ التحالف سلطة فلسطينية جديدة تتسلم إدارة قطاع غزّة، على ألا تضم تلك السلطة أي شخصية مرتبطة بحركتي فتح أو حماس أو من يناصرهما. مع انتقال إدارة قطاع غزّة إلى السلطة الفلسطينية الجديدة يزول الحكم العسكري، ويحتفظ الجيش الإسرائيلي بالحقّ في التعقب الأمني والمراقبة لإحباط عمليات المقاومة، ولمنع إنشاء بنية تحتية وتنظيمية للمقاومة. بعد أربع سنوات على إنشاء السلطة الفلسطينية في غزّة والتي سيرافقها “إصلاح” السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، خصوصاً في قضايا الأمن والتعليم، يمكن الاعتراف بدولة فلسطينية واحدة في الضفة والقطاع منزوعة السلاح، ويمكن نقل أراضٍ إليها إذا كان الأمر لا يتطلّب إخلاء مستوطنات. … هذا هو التصوّر الإسرائيلي لوضع قطاع غزّة في اليوم التالي لوقف المعارك. وفكرة الدولة الفلسطينية من وجهة النظر الأميركية إنما هي “الدولة” التي من شأنها تحقيق الأمن لإسرائيل. ويستطيع الأميركيون إطلاق عبارة “دولة” على السلطة الفلسطينية كما هي اليوم مع إجراء “تحسيناتٍ” عليها تتعلق بالحوكمة والأشخاص والمفاهيم والسياسات.
* * *
لقد بدأ موسم بيع الأوهام، وها هو الرئيس جو بايدن يبيع العرب جوْزاً فارغاً، ولعله يستطيع إحياء المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية، خصوصاً إذا جرى تأليف حكومة إسرائيلية جديدة، وستكون لدينا في هذه الحال مفاوضاتٌ لا تنتهي، واتفاقات إسرائيلية – عربية يبدأ تطبيق بنودها فوراً، فإذا تحقّق هذا التصوّر الكابوسي، أو ما هو قريبٌ منه، فإن مقولة “النصر” تحتاج، والحال هذه، إلى إعادة تعريف.
*نشرت في العربي الجديد بتاريخ 01 آذار / مارس 2024
Leave a Comment