سياسة صحف وآراء مجتمع

استرجاع

أحمد بيضون

أَسْتَرْجِعُ لا بمعنى القول: إنا لله وإنا إليه راجعون.

أَسْتَرْجِعُ بِمَعْنَى جَعْلِ الصُّوَرِ تتوالى وتَرْكِ الدهولِ حِيالَها يَنْفَلِتُ مِن كُلِّ عِقَالٍ لِيَبْلُغَ مَداه.

أسترجعُ صُوَرَ ما جَرى لنا، نحن اللبنانيين، في عَقْدَينِ انْصَرَما جَرَت جَرائم اغتيال تَسَلْسَلَتْ بشيء من الانتظام في عام وبعض عام، إبتداءً من خريف ۲۰۰٤ ، ثم تباعدت ولكن لبث لها ما يكفي من حصول ومن حضور لتؤدّي غَرَضَها بَعْدَ خُروج السوري ضابط الكل: وهو تعديل الميزان السياسي في البلاد، لا بالسياسة بل بالجريمة السياسية. لم تقع على أَحَدٍ تَبِعَةٌ تُذْكَرُ بل نال الجناة مُبْتَغَاهُم غَيْرَ مَنْقُوص.

وقعت حرب في صيف العام ۲۰۰٦ صُورَت الحَرْبُ على أنّها قَدَرٌ مُقَدَّرٌ. وهي كانت بعيدةً عن هذه الصورة أشدَّ ما يكون البُعْدُ: استُدْرِجَت بِفِعْلِ فَاعِلِينَ وجَرْت زَهْق أرواح ودماراً عميماً كان اجتنابهما أولى وأقْرَبَ تناولاً ولكن أثْمَرَت لِقاءَهُما خُطَباً عالية الجرْسُ ومَكاسب كبرى لخائضيها في ميزان الطوائف السياسي.

والذي سرى على الإجرام السياسي سرى على الإجرام الاقتصادي المالي ما يُعادِلُهُ مِنْ امْتِناع للمحاسبة وجَنِّي للعوائد بلا حساب. حلت ساعة الحقيقة، ولم تَكُن بنت ساعتها: كَانَ التمهيد لها قد استغرق أعواماً وعَبَرَ مَحَطَاتٍ رَصَدَها ذوو المعرفة ولَكِنْ ذَهَبت جُهودُهم بَدَداً.

وحين أخْرَجَ اللبنانيون جيوبهم ليجدوها قد أفرغت إلا من قَبْضِ الريح، لم يُقَصِّروا في الاحتجاج. ملأوا الساحات صياحاً. ولكن واجَهَهُم جُباةُ الغنائم السياسية وجباة الغنائم المالية وهواة الصنفين معاً: واجهوهُم سَدّاً واحداً وكنسوهم من الساحاتِ بِأَسْرَعَ مِمَّا كُنِسَت مِنْهَا النفايات في مَواسِمَ أخرى مشهودة. لم يكن السابع من أيار ۲۰۰۸ قد نُسِيَ. وكان القتال في سورية قد استوى فصلاً دامياً آخر من سُنّة أصبحت اليوم ثابتة: وهي سُنَةُ الانحياز إلى أشَدِّ الخيارات جوراً على البشر واستهانة بمصائرهم. وهذا قَبْلَ أَن يَنْقَلِبَ القِتَالُ إلى خفارة لسِكَّة النفوذ البريّة، المُسْتَحْدَثة بين طهران وبيروت.

في كل حال، لم يَبْدُ على الطليعة المقاتلة، وهي تُعاين تداعي البلاد واضمحلالَ مُقَوّماتِ الحياة فيها، من عامة وخاصة، أدنى إدراك للصلة بين هذه المُقوّمات وشروط الصمود المُفترصة للجبهة، كائنة ما كانت الجَبْهةُ وكائناً من كانَ العَدُوّ . بل بدا أن تَضَعْضُعَ الداخلِ يُؤَوَّلُ عَلى أَنَّهُ مَزِيدٌ من الإطلاق لليد المُسلّحة. وهو ما قد يَصِحُ إِذا سَلَّمَ الطَّرَفُ المُسَلِّحُ بِتَرْكِ مصائر العموم بِمَن فيهم بَشَرُ “الحاضنة”، نَهْباً مُشْرَعَ الأبواب لرياح الحرب.

عليه ظلَّ الحِلْفُ الواقف على أهبة القِتالِ مُتماسكاً (بَلْ أخِداً بالتوسع وسَطَ نكبة اللبنانيين، مُسْتَهيناً بِهَوانِهِم، مُغْضِياً عن ناهبيهم أو ضاماً إليه بَعْض هؤلاء. لم يَظْهَرْ عَلَى طَرَفٍ مِن أطراف هذا الحِلْفِ على كثرة ما يَتَرَدَّدُ في صُفُوفِهِ حَديثُ “الكرامة”) أدنى شعور بالعار، وهو يَظْهَرُ سافِرَ الوَجْهِ كُلياً: لِصاً أو حليفاً للصوص.

ما القولُ بَعْدَ هذا في ثاني انفجار غير نَوَوِي شَهِدَهُ الكوكب، يَمْتَنِعُ إظهار المسؤولياتِ عنه؟ وما القولُ في الحَرْبِ الجارية الآن يخوضها الطرف الوحيد المُلْزَمُ بِخَوْضِهَا مَوقعاً وَعِلَّةَ وجود ولا تجد أطراف راجحة أخرى، على الرغم من رفضها الصريح للقتال، صيغة لاعتراض تَمَتُ إلى الفاعلية بصلة مهما تكن؟ بل يُقال لها إن أياً مِنْها لَمْ يَحْمِلْ يَومَا هَمَّ مَن يُقاتِلُونَ اليوم ويُقْتَلُونَ، فَلا سَبِيلَ لهُ عَلَيهِم في تقديرهم لصوالحهم. ومع غُربة هذا القَوْلِ عن كل شعور مُشْتَرَكٍ، عن أيّة لبنانية مهما تكن، فهي لن تكون أوّل غربة من قبيلها ولا القول سيكون مُجَرَّدَ لَغُو.

ما القَوْلُ أخيراً في مؤسسات الدولة، على اختلافها، وما هي فيهِ مِن أَعْطَالٍ مُتمادية أو مُتَناسِلة؟ قَدْ يَفْتَقِدُ الجُمْهُورُ مَرافِقَ الخِدمة العامة ولكِنْ لا تَبْدُرُ مِنْهُ بَادِرَةُ الْحَاحِ فِي إِنْعاشِ المُتَحَلَّلِ مِن السلطات السياسية. من ذا أَضْرَبَ أو تَظاهَرَ طَلَباً لِرَبِّ رَأْسِ الجُمْهُورِيَّةِ إِلَى الجمهورية أو لتزويدها حكومةً غَيْرَ مَشْكوك في استنهالها هذا الاسم؟ أُفْرِغَت هذهِ المَواقِعُ مِن لبابها لفرط ما أهانتها موائل القُوَّةِ الأَهْلِيَةِ … لِفَرْطِ ما جُرِّدَ الدستور والقانونُ مِن مُقَومَاتِ اعتبارهما في المُواجَهاتِ بَيْنَهُما وبَيْنَ “الأهالي” … شأنهُما شَأْنُ اليونيفيل إِذَنْ، بات الدستور والقانون وبات ما يَنْشَأُ عَنْهُما مِنْ مؤسسات أخيلةً لِما يُفْتَرَضُ أَنْ تَكون … فَسِيانِ إِذَنْ حضورهما والغياب، أو أنَّ هذا، في الأقل، ما توحي به الاستهانة الغالبة

هذا كثير. وأشَدُّ ما فيه مضاضةً تَهالُكُ المُواجَهة الشعبية لأسبابِهِ ولظواهِرِهِ. بَلْ هَذِهِ المُواجَهَةُ مُرْتَدَةٌ إلى نقيضها إلى اللَّوْذِ الوَجِلِ المُتَوَكَّر بالمراجع الطائفية، وهي الوريث اللبناني الجاهز لِكُلِّ إرهاص بـ ” الشعب” عِنْدَ تَضَعْضُعِهِ واضْمِحْلاله. فكأنما الشلة التي لا يَزالُ الاشْتِبَاكُ بَيْنَ كثيرٍ مِنْ خُيوطها قائماً، وإن يكن النزوع إلى التخالص والتعازل شديداً أيضاً، قد ارتخت أو تهالكت عقدة الدولة التي كانت الشلّة تَسْتَوِي بها شلة واحدة أصلاً…

هَذا وَقَدْ يَنْتَبِهُ مَنْ عاشَ أَعْوَامَ الحَرْبِ اللبنانية إلى أنَّ هذه لَيْسَتْ أَوَّلَ مَرَّةٍ يُحاصِرُهُ فيها هذا الشعور بالتداعي تداعي الدولة والمُجْتَمَع معاً. وقَدْ يَصِحُ اعْتِبارُ هذا الشعور باستعادةِ تَوَجُسٍ سَبَقَ الشُّعُورُ بِهِ ثُمَّ اسْتُبْعِدَ أو أَرْجِيَّ مَصْدَراً لبَصيص أمل المَصْدَرُ الْآخَرُ المُقِيمُ هو السؤال: إلى أينَ تَذْهَبُ القَبائِلُ اللبنانية أو تَذْهَبُ كُلٌّ مِنْها إِذا غادَرَها لبنان؟! إلى مَذْبَحةٍ أخرى؟….

نشرت هذه المقالة على مدونة الباحث والمؤرخ الدكتور احمد بيضون “معاني المباني” ـ تاريخ  ۲۹ شباط ۲۰۲٤

Leave a Comment