لا يوجد بعدُ اتفاقٌ على اليوم التالي؛ هذا واحد من أهم مبررات استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة. وانقضاء ما يزيد عن أربعة شهور من الحرب لم يغير الكثير من دافعها الذي أطلقته حماس بهجومها يوم السابع من أكتوبر، فحماس وقعت ضحية نجاحها، مثلما وقعت ضحية الفشل الأمني الإسرائيلي. وحتى الآن لا صيغة مطروحة ومقبولة لإنقاذ حماس من نجاحها، ولإيقاف إسرائيل عن إبادة الفلسطينيين ثأراً لذلك الفشل واستغلالاً له.
لا جديد في القول أن نجاح هجوم السابع من أكتوبر كان أعلى مما هو مخطط له، وعلى ذلك تجاوز الانتقام الإسرائيلي أيضاً أسوأ التوقعات. ولم يعد مقبولاً إسرائيلياً أن تعاود حماس حكم غزة، ولا حتى أن تكون شريكاً بارزاً في الحكم. المسألة هنا ليست فقط في استرداد الهيبة الإسرائيلية، هي أيضاً فيما راكمته حماس من خبرات قتالية وتسليحية يُراد التأكد من القضاء عليها. وهي، من جهة السياسة، في أن حماس لم تتحول إلى محض جهاز بيروقراطي شبيه بسلطة رام الله ليتولى الانقسام الفلسطيني تصفية القضية الفلسطينية بلا ثمن تدفعه إسرائيل.
وتقتضي الواقعية القول أن نجاح حماس غير مقبول من أطراف إقليمية عديدة مؤثرة، بدءاً من الجار المصري حيث تقوم الآلة الدعائية للحكم هناك على العداء للإسلاميين. ولا يختلف الحال كثيراً من جهة حكومات تجهر بعدائها للإسلاميين، مثل الإمارات والسعودية. أي أن العديد من الأطراف المنخرطة في المفاوضات الحالية لها مواقف من مجمل الإسلاميين في المنطقة، ما يجعلها غير مؤيدة لنموذج إسلامي ناجح يحفّز أمثاله في المحيط العربي.
وقد أثبت محور الممانعة و”مقاومته الإسلامية” ما كان معروفاً من قبل، لناحية الخبرة المديدة في استثمار القضية الفلسطينية. والمفاوضات التي خاضها حزب الله وطهران، بوساطات متعددة، أسفرت مبكراً عن التفاهم على عدم توسيع رقعة الحرب والاكتفاء بتسخين محسوب هنا وهناك، بينما صار واضحاً أن التفاهمات اللاحقة لا علاقة لها بحماس أو غزة أو الشأن الفلسطيني عموماً. أي أن على حماس الاكتفاء بعبارات التضامن المعهودة، والاقتناع بأن معركة الممانعين هي معركة نفوذ إقليمي على “طريق القدس”، لا يتوخى أصحابها التوجّه أو الوصول إلى القدس نفسها.
قد قيل الكثير في أن هدف القضاء على حماس الذي وضعه صقور إسرائيل غير ممكن التحقيق، وقيل أيضاً أن مقاتلي حماس قادرون على الاستمرار في المقاومة لشهور مقبلة رغم هول الهجوم الإسرائيلي، لتبدو حماس تلقائياً شبه منتصرة بناء على جمع هذه المعطيات. إلا أن الحديث عن النصر يغفل الأثمان الباهظة التي دفعها أهالي غزة، وسيستمرون في دفعها ما بقيت المعركة مستمرة، وأيضاً الأثمان الباهظة من مقاتلي حماس، وهؤلاء شبّان يستحقون العيش الكريم مع أسرهم وأهاليهم. ولعل الاستمرار في دفع الثمن يقول ما هو مغاير للاستنتاجات التلقائية الحماسية، ففشل إسرائيل لا يكون تلقائياً مكسباً لحماس أو للفلسطينيين، وقد شهدنا كيف انصبّ أهوالاً عليهم. ذلك يصحّ على الإسرائيليين الذين ينظرون إلى تلك الأهوال كنصر لهم، في حين لم تحقق حرب الإبادة مكسباً نوعياً يتعدّى إرضاء غرائز الانتقام.
لقد طالبت قيادات حماس منذ اليوم الأول للانتقام الإسرائيلي بوقف إطلاق النار، ولا معنى للمزايدة عليها تحت شعارات الصمود، أو المزايدة على ما يقارب مليونين ونصف فلسطيني تحت الإبادة والتهجير والتجويع. ومن الواضح أن من غير المسموح به إسرائيلياً، ولا دولياً ولا بالنسبة للعديد من حكام المنطقة، أن تتوقف الحرب على نحو تظهر فيه حماس منتصرة ولو على أنقاض غزة. لا يجدي في هذا الصدد اتهام بعض حكام المنطقة بالتواطؤ مع تل أبيب، فالواقع هو الواقع مهما كان تأويله، وميزان القوى يشير إلى استمرار الحرب على غزة حتى يُنجز اتفاق على اليوم التالي يضمن خسارة مشهودة لحماس. بموجب ميزان القوى هذا لعل السؤال الأكثر واقعية هو: كيف تخسر حماس وتربح فلسطين؟
والإجابة على السؤال تقتضي أولاً استعداد حماس لتقديم تضحية كبرى صريحة ومعلنة، من أجل اتفاقٍ على اليوم التالي يتضمن إنهاء العدوان الإسرائيلي، وتسليم غزة لسلطة مُتفق عليها فلسطينياً ودولياً مع ضمانات لرفع الحصار الذي كان مضروباً من قبل على غزة. لقد برهنت حماس منذ تأسيسها على استعداد منتسبيها للتضحية بأنفسهم، ونفترض منطقياً أن تلك الدماء والأرواح، فضلاً عن دماء وأرواح المدنيين، أعزّ على الحركة من تضحية سياسية مشروطة.
بعبارة أخرى، لا يكفي اليوم أن تقدّم حماس روايتها لما حدث في السابع من أكتوبر لتدحض الرواية الإسرائيلية، وأن تطرح خطاباً أكثر اعتدالاً من السابق، لتكون مقبولة كشريك في اليوم التالي. العبرة أصلاً ليست في تقديم خطاب لجمهور ميّال مسبقاً لقبوله، بل هي في تقديم خطاب سياسي متقدّم حقاً، يراعي أصحابه أن يثير التفكير لدى جمهور العدو قبل الصديق. ولأن ما حدث قبل 130 يوماً دراماتيكي بكافة المقاييس فقد يكون ضرورياً طرح مبادرة على قدر ملحوظ من الجدة والشجاعة، تهدف إلى فتح أفق سياسي فلسطيني وتسعى إلى خلخلة الحلف الإسرائيلي الواسع الداعم للحرب في غياب قوى إسرائيلية ذات مشروع بديل.
بمثل هذه الخطوة تمتحن حركة حماس العديدَ من القوى والأطراف التي وجدت فرصة سانحة للقول أن حماس هي المشكلة، وأن أقصى الممكن هي العودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر بإدارة جديدة لسجن غزة الكبير، فالمطروح بهذا التصور هو القضاء على حماس وإنزال عقاب جماعي مستدام بالفلسطينيين. وأن تفاوض حماس على قاعدة عدم وجود بديل لها في غزة في اليوم التالي فذلك يجعلها في أسوأ موقع سلطوي، وحينها لن يكون تحرير أي عدد من السجناء في سجون الاحتلال على قدر الثمن الباهظ الذي دُفع من دماء أهالي غزة.
يبقى أن نشير إلى أن الحديث عن خسارة حماس لتربح فلسطين يقيم فصلاً غير مرغوب فيه، إذ من المفترض دائماً أن مصلحة الفلسطينيين ككل تحت الاحتلال تعلو على المصلحة الضيقة لأي تنظيم. ومن ضمن هذه المصلحة العامة يجدر بالقوى والشخصيات الفلسطينية الأخرى ألا تتخلى عن واجبها، فهذه القوى والشخصيات قد تستطيع “بروحٍ من المسؤولية” مساعدة حماس على أن تجعل خسارتها فعلاً وطنياً.
* نشر على موقع المدن بتاريخ 13 شباط 2024
Leave a Comment