*مناف قومان
ضربت جائحة كورونا العالم عام 2020، وتسببت بآثار اقتصادية عميقة في التجارة والسفر وسلاسل التوريد، وتسبّب نزاع بين الدول المنتجة للنفط في انخفاض كبير بأسعاره.
في عام 2021 شهد العالم اتخاذ تدابير عدة للتعافي من آثار كورونا، وزيادة ملحوظة في معدلات التضخم، أثرت في تكاليف المعيشة بمختلف أنحاء العالم.
أما في عام 2022 فقد غزت روسيا أوكرانيا، ما تسبب بتداعيات على قطاع الطاقة والغذاء، واستمرت معدلات التضخم بالارتفاع. وفي العام السابق 2023 واجهت الحكومات تباطؤاً في معدلات النمو، وارتفاعاً في معدلات الفائدة، واندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة، وتهديد التجارة في البحر الأحمر.
واليوم، يقف الاقتصاد العالمي في عام 2024 أمام تقلبات اقتصادية، تعدّ نتاج أزمات متعددة، وتغيرات عميقة على الصعيد الجيوسياسي والاقتصادي، ستلعب دوراً في تشكيل ملامح الاقتصاد، وتفرض محددات لتأزم أو تعافي الاقتصاد خلال الشهور المقبلة.
وفي مجهر العام 2024 هناك محورا أزمات نزحا من السنوات الماضية إلى عام 2024، يتعلق الأول بالمخاطر الجيوسياسية والآخر بالأزمات الاقتصادية.
مخاطر جيوسياسية
أضيف إلى قائمة النزاعات والصراعات العالمية التي تؤثر في درجة حرارة الاقتصاد العالمي، وتجعل الأسواق في ترقب دائم لمآلات الصراع، العدوان الإسرائيلي على غزة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 جنباً إلى الصراع في سورية، واليمن، والسودان، وليبيا، والعراق، وأفغانستان، وإيران، وأوكرانيا، وفنزويلا، وغيرها.
أثّرت تلك النزاعات، ولا تزال تؤثر، بشكل متفاوت في أسواق الطاقة، والأمن الغذائي، والتجارة العالمية. ستظل هذه المفردات الثلاث تواجه المستثمر، والاقتصادي، والصحافي، وسكان العالم على مدار العام الحالي، ليبقى السؤال البحثي قائماً حول تداعيات كل نزاع تجاه ملفات الطاقة، والغذاء، والتجارة.
إذ أدت تلك النزاعات إلى تقلبات حادة في أسعار الوقود خلال العام الماضي، ومن حيث أشعلت فتيل معدلات التضخم في العالم أدت في المقابل إلى تسريع مسار انتقال العالم نحو الطاقة المتجددة كبديل استراتيجي، أو على الأقل وضعها على أجندة الحكومات لتنويع مصادر الطاقة، والابتعاد عن الوقود الأحفوري.
وأسفرت أيضاً عن اضطرابات في إنتاج وتوريد الغذاء الأساسي، مثل القمح والذرة، ما ألقى بظلاله على الأمن الغذائي العالمي، وتفاقم مشكلة الجوع ونقص التغذية في المناطق المتضررة والفقيرة، بالإضافة إلى تحمل الحكومات عجزاً مالياً وديوناً إضافية لقاء ارتفاع أسعار الواردات. وكذلك أدت النزاعات من جانب آخر إلى اختلالات في سلاسل التوريد العالمية، وتأخير في الشحنات، وارتفاع في تكاليف النقل، ما وضع ضغوطاً على الاقتصادات التي تعتمد على التجارة الدولية بشكل كبير.
ستؤثر النزاعات في دول الشرق الأوسط، والغزو الروسي لأوكرانيا، حيث توجد احتياطيات كبيرة من النفط والغاز، وتنتج محاصيل استراتيجية كالقمح والذرة، في أسعار الوقود والغذاء بالعموم. كما أن التوترات الحاصلة في مضيق هرمز جراء النزاع في اليمن والعدوان الإسرائيلي على غزة، من شأنه أن يُبقي إمدادات الطاقة والغذاء وطرق الملاحة الدولية في دائرة الخطر ويهدد إيرادات قناة السويس في مصر.
وستحظى هذه الملفات بنقاشات مستفيضة في الندوات والمؤتمرات القادمة، وستكون من بين الأكثر تعقباً من قبل المستثمرين والأسواق العالمية لرؤية مآلات ما قد يحدث.
في المقابل، هناك النزاع التجاري المستمر بين الولايات المتحدة والصين، والذي يفرض أيضاً آثاراً سلبية على سلاسل التوريد، من خلال الرسوم الجمركية والقيود التجارية والعقوبات التي تفرضها كل دولة على الدول الأخرى، إذ يمكن أن تؤدي إلى زيادة التكاليف والأسعار، وإلى نقص في مخزون السلع بالأسواق.
ويمكن أن يؤثر هذا النزاع على مسارات التجارة العالمية، من خلال إعادة تشكيل الاتحادات والروابط التجارية مع الصين أو أميركا، والبحث عن أسواق ومصادر توريد بديلة، بالإضافة لكل هذا من شأن استمرار هذا النزاع أن يخلق حالة عدم اليقين في الأسواق، والتأثير سلباً في الاستثمار ومعدلات النمو الاقتصادية العالمية.
مخاطر اقتصادية
أما المحددات الاقتصادية التي تواجه العالم خلال هذا العام، فهي ثلاث كلمات مرة أخرى: الركود، والتضخم، وسعر الصرف. ولا بدّ أن نبقي هذه المفردات الثلاثة تحت رادار المراقبة والتحليل طوال العام سلباً وإيجاباً لمعرفة تداعياتها واحتمال اتجاهات الأسواق العالمية وفقها.
فتشديد السياسة النقدية لمكافحة التضخم سيؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، حيث يصبح الاقتراض أكثر تكلفة على الشركات والأفراد، ويقلل من الاستهلاك والاستثمارات ما قد يؤدي إلى انخفاض الطلب، والدخول في حلقات الركود.
منذ بدء البنك الفيدرالي الأميركي رفع معدلات سعر الفائدة لاح في الأفق خطر الركود، وارتفاع تكلفة خدمة الديون، والتي قد تؤدي إلى مشاكل في موازنات الدول عامة والنامية خاصة ذات المديونيات المرتفعة، والتي تقترض بعملات أجنبية.
ومن الممكن أن ينسحب ارتفاع معدلات الفائدة والديون على أسعار الصرف، فتضطر الدول للاستدانة أكثر، وتخفيض قيمة عملاتها، واللجوء لسياسات التقشف. ومن شأن تقلبات أسعار الصرف أن تؤثر سلباً في التجارة الدولية، ما يجعل التصدير أكثر تكلفة، ويقلّص من أرباح الشركات، وتدفقات رؤوس الأموال الأجنبية نحو الاستثمارات المباشرة، وهو ما يرفع معدلات البطالة.
ليس بعيداً عمّا سبق، هناك محددان اقتصاديان سيدخلان عام 2024؛ الذكاء الاصطناعي، وتنظيم العملات الرقمية. إذ دخلت عملة بيتكوين عام 2024 بقوة متخطية حاجز الـ45 ألف دولار، وبأخبار الموافقة على ترخيص صناديق التداول في البورصة من قبل “هيئة الأوراق المالية” الأميركية، وهي خطوة نحو اعتراف رسمي أكثر وتوسيع في نطاق اعتمادها في العالم.
مكافحة غسل الأموال
ومع ذلك يبقى الكلام حول الإطار التنظيمي على مستوى العالم لهذه الأدوات المالية الجديدة حديث الأسواق في الشهور القادمة، إذ لا تزال العملات الرقمية تفتقر إلى سياسات مكافحة غسل الأموال، وحماية المستثمرين وضمان الاستقرار المالي. ومع زيادة اعتماد الأسواق والأفراد لهذه العملات تبرز تحديات متعلقة بأمان المعاملات، وحماية خصوصية المستخدمين، بالإضافة إلى التقلبات الشديدة في الأسعار.
أما عن الذكاء الاصطناعي والذي فجرت أحد جوانبه شركات عدة، على رأسها “open AI”، فقد تحتل هذه التكنولوجيا مساحة واسعة للنقاش من قبل صنّاع القرار والرأي بهدف تنظيمها وقوننتها، والحديث عن إيجابياتها وسلبياتها، وتتطلب تقنية الذكاء الاصطناعي ضوابط أخلاقية لضمان عدم انتهاك خصوصية الأفراد وحقوقهم، وتحديد المسؤولية في حالات الأخطاء التي قد تتسبب بها التقنية الجديدة.
ربما يصبح منظر الروبوتات أكثر انتشاراً وأكثر قبولاً للسكان، ومساهماً في الثورة الصناعية الرابعة من خلال أتمتة العمليات التي تتطلب تدخلاً بشرياً، وتحليل البيانات الضخمة، والابتكار في المنتجات والخدمات، بما في ذلك تطوير الأدوية، والسيارات ذاتية القيادة، والأنظمة الذكية، وأيضاً من شأن الذكاء الصناعي أن يخلق فرص عمل جديدة في مجالات مثل تحليل البيانات، والهندسة البرمجية، والصيانة التقنية. ومع ذلك قد يتركز الحديث على مستوى الحكومات لإقرار سياسات اقتصادية تساعد على ضبطها وعكسها إيجابياً على الأسواق.
إذن هناك 6 كلمات تعبّر عن المخاطر الجيوسياسية والاقتصادية التي تواجه الاقتصاد العالمي خلال عام 2024 علينا أن نراقبها بعناية، وهي: الطاقة، والغذاء، والتجارة، والتضخم، والركود، وسعر الصرف.
سيُرجع المحللون معظم الأزمات الاقتصادية إليها، وبسببها قد نشهد ارتفاعات في سعر برميل النفط إلى مستوى 100 دولار، وأوقية الذهب إلى مستوى 2200 دولار، وعملة البيتكوين فوق 50 ألف دولار، ومن المرجّح استمرار تذبذب أسعار الغذاء، مثل القمح والأرز والذرة، جراء النزاعات المستمرة، والتهديدات المتعلقة بالطرق التجارية والمضائق البحرية.
ومن المتوقع استمرار ارتفاع معدلات الفائدة من قبل الفيدرالي الأميركي، للتأكد من كبح جماح التضخم دون 2%، وهو ما سينعكس على بقية دول العالم بطبيعة الحال، ويُبقي خطر زج الاقتصاد في الركود، وسيزيد الضغط على عملات الدول النامية؛ على رأسها مصر وتركيا والأرجنتين والبرازيل وجنوب إفريقيا والمكسيك، ولجوء هذه الدول لسياسات تقشف وشد الأحزمة، والاستدانة من المؤسسات الدولية. هذا ما ينتظر الاقتصاد العالمي في عام 2024 من تقلبات والتي ستكون درجة حرارتها عالية بلا شك.
*نشرت في العربي الجديد بتاريخ 17 كانون الثاني / يناير 2024
Leave a Comment