زهيرهواري
بيروت 5 كانون الثاني 2023 ـ بيروت الحرية
جاء اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صالح العاروري، وهو أحد أبرز قياديّ الحركة، ليعبر عن نقلة نوعية في الصراع الذي تشهده ساحات فلسطين سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية، ناهيك بالجبهة الجنوبية مع لبنان. والعاروري يقيم في الضاحية الجنوبية منذ سنوات خلت. وقد سقط بعد أن استهدفت ثلاثة صواريخ مكتب الحركة الكائن في أحد شوارع الضاحية الجنوبية، خلال اجتماع عدد من قياداتها مساء الثاني من شهر كانون الثاني الحالي، ما أدى إلى استشهاده مع قائدين من كتائب القسام هما سمير فندي (أبو عامر)، وعزام الأقرع (أبو عمار)، بالإضافة إلى أربعة لبنانيين، هم: محمود شاهين أحد المسؤولين في الجماعة الإسلامية ومحمد الريس، ومحمد بشاشة من مدينة صيدا وأحمد حمود، مع 18 جريحاً من المدنيين. وقد ساهم العاروري بتأسيس “كتائب القسام”، الجناح العسكري لحماس في فلسطين. ويعدّ العاروري الرأس المدبّر لتسليح هذه الكتائب. وقد أُعتقل مرتين قضى خلالهما نحو 15 عاماً في سجون الجيش الإسرائيلي، ثم أُبعد عن فلسطين. وكان أحد أعضاء الفريق المفاوض لإتمام صفقة وفاء الأحرار “صفقة الجندي شاليط”.
وجريمة الاغتيال التي نفذتها الاستخبارات الاسرائيلية كانت تنفيذاً لما سبق وأعلنه جهاراً رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو عندما أطلق يد جهاز الموساد في مطاردة واغتيال مسؤولي حماس أين ما كانوا. ما يعني أن القيادة السياسية الإسرائيلية أعطت جهازها الأمني الخارجي ضوءاً أخضر لممارسة عمليات الاغتيال لقيادات الحركة عندما تستطيع. وكان في المقدمة منهم العاروري بالنظر إلى دوره في التخطيط لعملية “طوفان الاقصى” أو مواجهات الضفة الغربية، وغيرها.
شكلت عملية الاغتيال في قلب الضاحية الجنوبية الضربة الأقسى لحزب الله الذي يعتبرها مربعه الأمني منذ العام 2006 عندما تعرضت الضاحية لأعنف قصف جوي أدى إلى تدمير أجزاء واسعة من عمرانها. وهي العملية التي وإن كانت قد أصابت مقتلاً لقيادي من حماس إلا أنها في الوقت نفسه تمثل تطوراً نوعياً بالنظر إلى ما يشهده جنوب لبنان من مواجهات منذ الـ 8 من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي بعد أن شنت الحركة العملية العسكرية البطولية على مستوطنات ومعسكرات غلاف غزة، ونجحت في اختراق الخطوط الدفاعية للعدو، وسيطرت على مواقع عسكرية ومستعمرات وقضت على كتائب عسكرية كاملة ومن حرس الحدود وأسرت مئات المدنيين والعسكريين من نساء ورجال.
وحدث الاغتيال يأتي رداً على ما سبق وأعلنه نصرالله، عن حماية كل قيادات حماس والجهاد في لبنان، حيث أكد عندها أن من يحاول استهدافهم سيتعرض لرد قاس من جانب حزب الله. علما أن نتنياهو اعتبر أن ليس حزب الله ولا الدولة اللبنانية مقصودان بالاغتيال. وهو ما لم يمنع كثيرون من وصف الجريمة بأنها تجاوزت الخط الأحمر، أو ما يسمى قواعد الاشتباك بين الحزب والجيش الإسرائيلي. وهي قواعد وإن كانت قد انطلقت من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا ولمسافة عمقاً تتراوح بين 2 و7 كلم على الجانبين، إلا أنها توسعت مؤخراً لتتجاوز الثلاثين كيلومتراً. وبالطبع فإن وصول مسيرات سلاح الجو الاسرائيلي إلى سماء الضاحية يعني أن اسرائيل قد تجاوزت بأشواط بعيدة الخطوط الحمر الجنوبية. في الوقت نفسه، كانت إسرائيل تعلن عن تسريح خمسة فرق من قواتها المقاتلة في جبهة غزة، وتوجه بعضاً منها إلى جبهة الجنوب اللبناني. وقبلها أكد المسؤولون الإسرائيليون أنهم أعدوا العدة لإلحاق لبنان بقطاع غزة وخانيونس لجهة حجم التدمير… هذا اذا لم نسترجع ما سبق تكراره أكثر من مرة حول إعادة لبنان إلى العصر الحجري. وفي غضون الأسابيع المنصرمة من القتال الذي شهده الجنوب بين حزب الله والجيش الإسرائيلي قام الأخير بإخلاء حوالي 100 ألفاً من المستوطنين من المستعمرات القريبة من الحدود اللبنانية ونقلهم إلى الداخل، وحافظ كلا الطرفين على وتيرة اشتباك يومي أوقعت خسائر بشرية ومادية على الجانبين، فسقط في الجانب اللبناني حوالي150 شهيداً، وهجر سكان ما لا يقل عن 22 قرية حدودية بواقع حوالي 80 ألف مواطن. وتكتم الجيش الاسرائيلي على القسم الأعظم من خسائره. وبدا أن الطرفين يحتفظان بوتيرة مقبولة لكليهما من القتال لا تصل إلى انفلات الحرب وحصره بمواقع متقابلة.
وما جعل القتال يراوح مكانه رغم الرغبة الإسرائيلية بشن الحرب على لبنان، هو وجود قوات اليونيفيل على الخط الأزرق، والتحركات السياسية الدولية التي شهدها كل من لبنان وإسرائيل من جانب الأمم المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وغيرها، وكانت جميعا تنطلق من محاذرة توسيع دائرة القتال، وقيام جبهة حربية شمالية – جنوبية كاملة المواصفات، وتملك قدرة نارية لا يمكن مقارنتها بما لدى حماس في شريط غزة المطوق من جميع الجهات. ما يعني أن جريمة الاغتيال تتصل بتوجه مجاز للأجهزة الأمنية والاستخبارية من أعلى السلطات السياسية نتيجة تعذر شن الحرب، وما عزز من التوجه نحو الاغتيال أن اسم العاروري قد ورد مراراً وتكراراً في الصحافة الإسرائيلية وعلى ألسنة هؤلاء بوصفه “رأس الافعى” الذي يدير العلميات عن بُعد، ويتولى تنسيقها سواء في قطاع غزة أو لبنان والضفة الغربية التي ينتمي مسقط رأسه إليها.
إذن تعتمد العملية أو المعركة شكلاً جديداً ومختلفاً من الحروب يتصل أكثر بالعمليات الأمنية والاستخبارية، بدلاً من توسيع نطاق المواجهات العسكرية المباشرة التي لا تجيزها الولايات المتحدة وتضغط على المؤسسة السياسية الإسرائيلية من أجل تلافيه. إذن وضعت عملية الاغتيال الجبهة اللبنانية أمام معطى جديد قد يدفع بها إلى آتون المواجهة المفتوحة طالما أن القوات الإسرائيلية أكدت على السنة رئيس الحكومة ووزير الدفاع وأعضاء حكومة الحرب أنها جاهزة لخوض المواجهة على جبهة لبنان وليس فقط على قطاع غزة. من هنا يمكن وصف الاغتيال بمحاولة الاستدراج نحو هذه المواجهة في حال انساق حزب الله إلى ما تريده وترغب به إسرائيل. علما أن نصر الله أعلن أن الجريمة لن تمر دون عقاب، وأن الدخول في حرب من جانبها سيواجه بحرب دون قيود أو ضوابط. والفعلي أن نتنياهو نتيجة وضعه أمام القضاء يراهن على تعميم وتوسيع دوائر القتال للنجاة من الحبل الذي يطوق عنقه بالمحاكمة. من هنا يعمد إلى افشال محاولات تنظيم هدن لوقف اطلاق النار والافراج عن الاسرى والمعتقلين ويعتمد على تزخيم القتال كلما هدأ.
كثيرون فوجئوا بعملية الاغتيال وفي قلب الضاحية الجنوبية متناسين التاريخ الطويل من عمليات الاغتيال التي نفذتها المخابرات الإسرائيلية في لبنان وسوريا والأردن والعراق وتونس وأوروبا وأينما وصلت أنيابها ومخالبها. فمن المعروف أن جهاز الموساد لجأ إلى أسلوب الاغتيالات للتخلص من القادة الفلسطينيين كلما وجد إلى ذلك سبيلاً. واذا كانت العودة البعيدة إلى الوراء واستعمال ما يضمه الأرشيف من تفاصيل تدخل في باب التاريخ، إلا أن جيلنا ما يزال يذكر أن الاغتيال السياسي كان أحد الأساليب الإسرائيلية المعتمدة في محاولة إخضاع ووأد الثورة الفلسطينية عبر تصفية رموزها. لا فرق بين رمز ثقافي وسياسي واعلامي وعسكري. ففي صيف العام 1972 انفجرت سيارة الكاتب والروائي القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين غسان كنفاني في ضاحية الحازمية شرق بيروت وكانت معه لميس إبنة شقيقته. أما سبب اغتياله وهو كاتب واعلامي ومفكر ولم يحمل السلاح يوماً، فذلك لأن رئيسة الوزراء غولدا مائير اعتبرته “لواءً فكرياً مسلحاً بقلمه وبما يعادل ألف فدائي مسلح ببنادق”، وعليه يجب التخلص منه لتأثيره على الرأي العام العربي والاوروبي. وفي 10 نيسان 1973 استفاقت بيروت على اغتيال ثلاثة من قادة المقاومة الفلسطينية في منظمة فتح هم: كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار في شارع فردان. وهي عملية نفذها الجيش الإسرائيلي والموساد معاً وأدت إلى أزمة سياسية بين رئيسي الجمهورية سليمان فرنجية والحكومة صائب سلام نتيجة عدم قيام الجيش اللبناني أو الدرك بدوريهما، وسيار الدرك هو على بعد أمتار قليلة من مسرح الاغتيال.
وتلاحقت عمليات اغتيال كوادر حركة فتح ففي العام 1979 جرى اغتيال علي حسن سلامة، (أبو حسن سلامة )، وهو قيادي بارز في منظمة التحرير الفلسطينية ومسؤول أمن أبو عمار، والمسؤول عن قيادة العمليات الخاصة ضد المخابرات الإسرائيلية في العالم وأوروبا تحديداً، من لبنان منذ عام 1970. وجرت تصفيته عن طريق تفجير سيارة في بيروت على طريق يسلكها في تنقلاته. وأضيف إلى قائمة الاغتيالات كل من أبو جهاد خليل الوزير وأبو أياد وماجد أبو شرار والعشرات من كوادر منظمة التحرير في أوروبا وغيرها. ومن نجا من قيادات فتح من الاستخبارات الاسرائيلية تولت الاستخبارات العربية عملية التخلص منه كأبو الوليد وغيره كثيرين. ولم تكن قيادات حزب الله في منأى عن عمليات الاغتيال فتعرض العديد من قادته وكوادره للاغتيال، وفي مقدمهم أمينه العام السيد عباس الموسوي. كذلك تعرض الشيخ المناضل أحمد ياسين وقادة سياسيون وميدانيون من حماس والجهاد والجبهتين الشعبية والديمقراطية والصاعقة للاغتيال في عمليات أمنية في لبنان وسوريا والاردن والامارات وغيرها.
خلاصة القول إن إسرائيل تستعيد باغتيال صالح العاروري تراثاً من الإرهاب الاستخباراتي طالما مارسته ضد القادة والمفكرين الفلسطينيين والعلماء العرب وغير العرب. وتعتبر أن الاغتيال يدخل في “باب الدفاع عن النفس”، وهو مجرد مصطلح مطاط يتجاوز عمليات القتل الفردي لكل من يواجه سياساتها العنصرية، إلى الإبادة الجماعية كما يحدث في قطاع غزة ومخيماته الآن وكما حدث في سلسلة حروبها.
Leave a Comment