دنيز عطالله*
… رغم كل الضجيج والصخب والحروب، كانت “السياسة” اللبنانية عام 2023 مملة ورتيبة، تنسجم مع واقع البلد الذي يفاجئ فقط في مدى قدرته على الغرق في “تفاهات” وتحويلها إلى “قضايا”. أما ما يستحق من اهتمام، كالعيش، مثلاً، في دولة مكتملة مواصفات السيادة حيث السلطة للقانون، والحصول على بديهيات الحياة من خدمات كالماء والكهرباء والانترنت والرعاية الصحية، وانصراف الناس إلى يومياتهم “العادية” حيث تُحترم حقوقهم، من العيش الرغيد إلى تطوير النفس، فهي، لسنة أخرى، لم تجد لها مكاناً في “الأجندة” السياسية في لبنان.
حلّت سنة 2023 ولبنان من دون رئيس للجمهورية. هو “همّ” وطني، لكنه، بالدرجة الأولى، “قلق” مسيحي يضاف إلى مصادر قلقهم المتنوعة. حملت السنة في بداياتها إرث التي سبقتها. وانشغل اللبنانيون في رسم “بورتريه” الرئيس المنتظر وتحديد مواصفاته. وكان “الثنائي الشيعي” يردد أنه “يقبل بما يتفق عليه المسيحيون”. حصلت “الأعجوبة” واتفق “المسيحيون”، تحديداً الاحزاب المسيحية الوازنة، على جهاد أزعور، كلّ لأسبابه؛ الاّ أن “الثنائي الشيعي”، تصدى لهذا التوافق وامتد الشغور في الرئاسة الأولى إلى اليوم.
الفيدرالية واللامركزية والمسيحيون
هي محطة أخرى من محطات كثيرة، جعلت “المزاج” المسيحي ينحو أكثر نحو تبني الفيدرالية. في مقال سابق في “المدن” في آب المنصرم ورد أن “المزاج المسيحي اليوم فيدرالي النزعة. قد لا يعرف معظم المسيحيين ماهية الفيدرالية وتقسيماتها وآليات تطبيقها، ولا حسناتها وسلبياتها، لكّن انشدادهم إليها يزداد يوماً بعد يوم. الأسباب كثيرة، ليس هنا مجال تعدادها وتحليلها؛ الأكيد أن في انحيازهم للفيدرالية تعبير عن يأس المأزوم وهو يلمس يومياً العجز عن بث الروح في التجربة اللبنانية، التي تلفظ أنفاسها الأخيرة.
لكن “المزاج” المسيحي الفيدرالي لا يجد اليوم رافعة سياسية أو حزبية له، أقله ليس في العلن. فلا الاحزاب المؤثرة تتبناه ولا الكنيسة. لا يفوتهم عمق الرغبة لدى المسيحيين بالـ”استقلالية”، كي لا يقال الانفصال. لذا ذهبت تلك الأحزاب إلى ما تفترض أنه قد يكون مقبولاً، أو يمكن الدفاع عنه، لدى سائر اللبنانيين، بطرح اللامركزية الإدارية والمالية الموّسعة وتبنّيها”.
مرّة جديدة يتصدى “الثنائي الشيعي” لطرح اللامركزية الذي يجر أذيال خيبته ليس من هذه السنة الآفلة إلى تلك الآتية، انما منذ سنوات تقارب عمر الاستقلال، وآخر محاولاتها الجديّة كانت مع القانون الذي أنجزه الوزير السابق زياد بارود عام 2014.
الكنيسة، من بكركي إلى الرهبانيات، وخلفهم الفاتيكان ضد الطرح الفيدرالي، وإن كانت من أكثر المطالبين بتطبيق اللامركزية. وقد عملت جامعة الروح القدس في الكسليك على استمزاج رأي معظم القوى السياسية والعمل على مشروع قانون للامركزية الموسّعة يستند إلى اتفاق الطائف.
بين البطريرك والسفير البابوي
ومع ذلك، تطوي الكنيسة في لبنان عام 2023 من دون ان تستعيد قدرتها على المبادرة في طرح رؤى أو استراتيجيات تستعيد من خلالها “فكرة” لبنان وصورته ودوره التي ساهمت في ترسيخهم.
واصل البطريرك بشارة الراعي هذه السنة محاولة إمساك العصا البطريركية من الوسط. يعمم الاتهامات فيتساوى الجميع وتضيع، إلى حدّ كبير، المسؤوليات.
آخر نشاط “استثنائي” للبطريرك كانت زيارته الجنوب للتضامن ومؤازرة “أبنائه” في ظل الحرب القائمة. وصل البطريرك إلى مدينة صور فقط “لأسباب أمنية” كما قيل، ما أثار “عتب” أبناء الشريط الحدودي من المسيحيين.
لكن الملفت للانتباه أن السفير البابوي باولو بورجيا زار القرى الحدودية، وترأس القداس في آخر بلداتها رميش، بعد نحو أسبوعين من “تعذّر” زيارة البطريرك. كما أن بورجيا كان قد زار تلك البلدات داعماً ومقدماً المساعدات قبل نحو شهر من زيارة البطريرك التي لم تكتمل.
طرح ذلك الكثير من الأسئلة حول “الرسائل” الفاتيكانية المضمرة، وعما يمكن أن تحمله سنة 2024 من تغيير في الذهنيات والقيادات في الكنيسة. وهو كلام كان هُمس به سابقاً، وعاد يتسلل إلى بعض الأوساط الكنسية.
عجز الأحزاب
عجز الكنيسة ينسحب أيضاً على الأحزاب المسيحية. فورقة التفاهم بين “التيار الوطني الحرّ” و”حزب الله” التي أمّنت “غطاء مسيحياً” للثاني، وسمحت للأول بتحقيق بعض المكتسبات، تهتز باستمرار لتضارب المصالح والأولويات.
وكما تمحور الخلاف الأساسي بين الطرفين هذه السنة حول ملف رئاسة الجمهورية سينتقل الخلاف نفسه إلى العام 2024. كان التوتر الأول مصدره تبني ترشيح سليمان فرنجية الذي جعل التيار يرشح أزعور. وتصاعد التوتر مع “تمرير” حزب الله أخيراً التمديد لقائد الجيش جوزاف عون، حتى من دون مشاركته في جلسة التمديد.
وإذ حاولت القوات اللبنانية “التواضع” في تسجيل “انتصار” في موضوع التمديد لعون، ذهبت إلى المطالبة بحوار طالما رفضت طاولته. لكنه حوار بشروط مختلفة. فحسب رئيس الحزب سمير جعجع أن “التوافق لا يكون إلّا من خلال الاتّصالات الجانبيّة الهادئة، وليس عبر طاولة حوار استعراضيّة شهدنا الكثير منها ولم تؤتِ يوما بثمرة واحدة”.
وضع بعضهم هذا الكلام في سياق “الصراع التاريخي” بين القوات والتيار الوطني الحر المرجَّح أن يتواصل العام المقبل. وهدف القوات تسجيل “انتصار” حاسم بانتخاب رئيس ضد رغبات التيار وخياراته.
والربط بين التمديد لعون وانتخاب رئيس للجمهورية ربط مشروع. فاسم قائد الجيش كان من بين الأسماء المطروحة للرئاسة وبقائه في منصبة لسنة أخرى يعزز حظوظه عام 2024، خصوصاً بعدما ثبت ثقة الدول المؤثرة على الساحة اللبنانية به.
ضحية الهجرتين
على خط تماس حيوي مع السياسة، تعيش البيئة المسيحية هاجس “الهجرتين”. الهجرة من لبنان و”الهجرة” إليه. فهجرة الشباب اللبناني عموماً، تهدد التركيبة الاجتماعية للبلد. وهي عند المسيحيين من بينهم تعتبر “خطراً وجودياً” على ما يكرر مسؤولون دينيون ومدنيون، خصوصاً متى كانت الهجرة إلى أوروبا أو أي بلد غربي.
في الموازاة، شهد لبنان “هجرة” كثيفة إليه إثر الحرب السورية. ويعتبر ملف اللجوء السوري، معطوفاً على اللجوء الفلسطيني، من أعقد الملفات التي اثقلت على اللبنانيين عام 2023 وستنتقل إلى العام 2024، مع ما تعكسه أيضاً من “خلل ديموغرافي، وبنيوي في التركيبة اللبنانية”، من دون أن تبدو أفق الحلول متاحة.
وبالتالي تستمر خيبات اللبنانيين وتصدّع بنيانهم الوطني وتحلل دولتهم واجتماعهم.
ومع ذلك، يبقى على ما كتب أنسي الحاج، أن “الخطر الألذ ليس هو اليأس، بل إدمان الرجاء”.
*نشرت في المدن الالكترونية يوم السبت 2023/12/30
Leave a Comment