ناصر السهلي*
يبدو أن الغرب، وضمنه أوروبا، يشهد تشكل حالة أخرى بموازاة الحالة الرسمية الباحثة عن مخارج لـ”موازنة” مواقفها من الاحتلال الإسرائيلي وحربه الهمجية على قطاع غزة والكل الفلسطيني.
نعم، رسميو القارة العجوز بدأوا يرفعون صوتهم، وإن بصورة تجزيئية لفلسطين (بين ضفة وقطاع)، بحديث عن إرهاب المجموعات الاستيطانية في الضفة الغربية المحتلة.
لكن إلى جانب ذلك، هناك “أوروبا أخرى” سائرة باتجاه مختلف. فالشعوب وحركات التضامن، أمام كل التضحيات الجسام والجرائم في غزة، ترسم حدوداً جديدة، هي بالتأكيد تحت سمع وقلق أحزاب وقوى الحكم في القارة العجوز. وقد لا يعبأ ساسة تل أبيب لما يجري اليوم، بجرائمهم وتعثرهم في غزة. لكن الحرب ستتوقف يوماً، وسيواجهون مشهداً غربياً مختلفاً.
ما من شك أن مواقع التواصل الاجتماعي الغربية لعبت دوراً هائلاً هذه المرة في فضح سردية الاحتلال التاريخية، وجرائمه على مدار 70 يوماً، مُساهمة في أنسنة الفلسطيني، وقطع طريق شيطنته.
وينضم المزيد من الأجيال الأوروبية إلى فهم قضية فلسطين كقضية استعمار تجب مقاومته. وذهب بعضهم إلى هتاف: “من البحر إلى النهر”، للتعبير عن رفضهم الصهيونية.
في إحدى الندوات السياسية الدنماركية، بمشاركة كبار سن، سألهم من البداية محاور فلسطيني: هل رأيتم صور تعرية الرجال في غزة؟ والمذابح وقتل أسر بأكملها؟ أومأوا بـ”نعم”. فمضى يقول: إذاً، أدعوكم لمعرفة المعنى الحرفي لتأسيس الدولة الصهيونية، من خلال مذابح عصابات الإرهاب في عام النكبة 1948، والتي غُيبت في الإعلام والسرديات.
هؤلاء لديهم أبناء وأحفاد يجادلونهم ويُظهرون لهم حقيقة دولة الاحتلال، وهم جيل عاش على تسمية الصحافة والمراجع التعليمية لحرب 1967 واحتلال الأراضي العربية باسم: “فتح وتحرير الدولة العبرية”.
إذاً، ثمة جيل جديد في أوروبا يلتقط قضية فلسطين، ليس فقط كمؤشر على الظلم والعدالة، بل على رفض انفصام الغرب عن القيم والمبادئ الإنسانية. وهو يضغط على حكوماته وأحزابه، المراقبة بجدية هذه التحولات. فلا تخيفه تهمة “معاداة السامية” في معارضته للصهيونية، وبمشاركة يهود رافضين لها. فيضع دولة الاحتلال في مستوى دولة الأبرتهايد في جنوب أفريقيا سابقاً، بكل ما يتطلبه ذلك من أدوات محاربتها.
ودعوة مقاطعة دولة الاحتلال تتخذ زخماً غير مسبوق، رغم الترهيب. حيث تقوم مجموعات باستقطاب مكتشفي الوجه الآخر لـ”الديمقراطية الوحيدة في المنطقة”، بأهداف واضحة: “مقاطعة إسرائيل”.
يشمل ذلك بداية تشكل لوبيات ضاغطة لمقاطعة أكاديمية ورياضية وفنية ونقابية وسياحية، وغيرها الكثير. فمن أميركا إلى إيطاليا فإسكندنافيا، ثمة مشهدية أخرى تتشكل.
وهذه المرة يلتقطها عشرات آلاف الشباب الفلسطيني في القارة، ليكونوا على غير رغبة البعض بتحويلهم إلى مجرد “مغتربين”، إلى جانب جيل أوروبي وعربي، بل ومن أصول مهاجرة كثيرة.
فهؤلاء في نهاية المطاف من الجيل الثاني، ويُظهرون صلابة وأدوات أخرى كثيرة تساهم مع الحركة المتضامنة في اختمار ما لا يسر تل أبيب مستقبلاً. ذلك ليس أقل من: “مقاطعة دولة الأبرتهايد الإسرائيلية وإنهائها”.
*نشرت في العربي الجديد بتاريخ 15 كانون أول / ديسمبر 2023
Leave a Comment