الدكتور حاتم علامي
تمهيد
صدر حديثاً عن مركز الدراسات في الجامعة الحديثة للإدارة والعلوم Mubs كتاب ” لبنان فلسفة الوجود ومقاربة الهوية والمصير ” في 430 صفحة من القطع الوسط وبأقلام كل: د. محمد شيا :كمال جنبلاط (1917 – 1977) المفكر الاشتراكي الديمقراطي والإنساني أولا وأخيراُ . والأب د. باسم الراعي: السيد محمد حسين فضل الله ( 1935 – 2010 ) لبنان بين حتميات واقعه وإمكان دولة الانسان. ود. طلال عتريسي: السيد موسى الصدر ( 1928- ) تجربة استثنائية في تاريخ لبنان المعاصر. ود. جهاد العقل: انطون سعادة (1904 – 1949)، فلسفة الأمة السورية في منظار الحضارة التاريخية. ود. علي شعيب، منح الصلح (1937 – 2014)، المصالحة الميثاقية اللبنانية ومفهوم العروبة. ود. زهير هواري: محسن إبراهيم (1935 – 2020)، الحرب الاهلية كمفتاح نقدي. ود. الياس القطار: شارل حبيب مالك ( 1906 – 1987) ، السياسي والدبلوماسي والمفكر اللبناني. ود. وليد الخوري: كمال يوسف الحاج ( 1917 – 1976) ، لبنان في رسالتيه القومية والإنسانية. ود. عفيف عثمان: ناصيف نصار ( 1940 – )، مطارحات في الطائفية والمجتمع والدولة. نسَّق النصوص وقدم لها رئيس الجامعة الدكتور حاتم. م. علامي.
ومن مقدمة د. علامي نقتطف ما يلي: أكثر من قرن مضى على إعلان “دولة لبنان الكبير” واعتقادي أن ما في التسمية والوجاهة والتوهج في دائرة تتوق إلى قدرها الجديد ، ما يحمل على الربط بين لبنان الملتزم بالحفاظ على التجربة، على درجات معينة ، بعد ما يزيد عن مئة عام ، يتلازم البحث في المصير والدولة والوحدة ، مع استحكام الخلاف حول تاريخ لبنان، والخلاف في هذا الشأن ذو مدلولات شديدة التأثير في الانتقال إلى حقبة المصالحة مع الذات، ومع الشريك الآخر، لذلك فإننا نتطلع من خلال النقطة المركزية المحورية عبر الأبعاد الثلاثية لعنوان هذا العمل ، كما وردت في عنوانه الرئيسي، إلى التفاعل مع المحاولات الآيلة إلى اكتشاف الهوية ، وما يستدعي ذلك من التعامل مع مسائل معيارية في صلب الإنتماء وإشكاليات المصير….
يضيء النقاش حول الكيان بين الجذور التاريخية لإعلان دولة لبنان الكبير والوصول إلى الجمهورية اللبنانية، بصيغة الميثاق، وحتى ترجمة موازين القوى الجديدة واختبارات الصيغة والنظام عبر اتفاق الطائف، يضيء كل هذا النقاش المتأصل في أسئلة الوجود والإنوجاد، والرسالة والدور، والواقع والمرتجى، والحتمي والممكن، إلى ترجمة التنوع بين التعددية والنموذج الحضاري على عمق السؤال حول مصير لبنان ومداه الضارب في الحقيقة الوجودية . …
بدأت فصول العمل مع كمال جنبلاط وثورته في عالم الإنسان شريانا إنسانيا عميق التوغل في تفكيك الإنغلاق والعزلة التي هددت الشخصية اللبنانية، “فلبنان أكثر من دولة. إنه بلد أعظم تنوع ثقافي. وكان يمكن أن يكون أكثر غنى بما لا يقاس لو أنه عرف نفسه، كان بوسعه أن يعطي العالم أمثولة، وأن يكون وطن التوفيق بين الثقافات … أو قل عصبة أمم صغيرة “! هذا هو لبنان في فهم كمال جنبلاط نقدم معه إلى جدلية فكرية في السياق الفكري الفلسفي والديني والسياسي.
إن اختيار شخصيتين اسلاميتين من عالم الفكر الإسلامي المتفاعل مع الصيرورة التاريخية للبنان، قد جاء ليعكس دينامية التنظير، من لدن الإيمان الديني، في خيارات لبنان الأشد حرجاً، فإننا نأنس في الجدلية التي اتسمت مع السيد محمد حسين فضل الله بعمق فتَّان ما يجتذب الفكر إلى أبعاد إنسانية تغطي مساحة لبنان الوجودية. أما الامام موسى الصدر فكان لحضوره المفصلي في لبنان عبر الرسالة الإسلامية التي طبعت فكرته، لكنها عبرت عن ضرورة وطنية لتصحيح المعادلة، فكان لحضوره بين الفكر المدوي بالعدالة وامتدادات صداقاته العابرة للطوائف ما يدعو إلى وقفة عند حقيقة الكيان، من خلال الحوار والدولة والهوية ..
والبحث في فكر أنطون سعادة كان ولا يزال مدعاة لحفريات في مرحلة القوميات، ومدخلا إلى سؤال تجيب عنه الكتابة على مرحلة سعادة، فقد عكست فكرة القومية السورية محامل مرحلة القوميات في العالم، فكان فكر سعادة حاملاً نوعياً في التعمق في عناصر ومكونات القومية السورية، وسيكون حيّز الفكر السوري القومي الاجتماعي مدعاة لمراجعة مسائل طغت على التفكير العام والذاكرة الجماعية في مرحلة اتسمت باستنفار كل مقومات الصراع ومنها التشويه الإعلامي. وفي معرض الإرث الفلسفي لا يمكن المرور العابر على حوار أنطون سعادة مع شارل مالك للقضية اللبنانية. أما منح الصلح المفكر السياسي في الفلسفة اللبنانية بإيمان بهوية عروبية، وبذكر أنه في عُرف المؤرخين العقل المدبر لمعظم المواقف التي جمعت إلى حضوره الفكري المواقف التي نقرأ معها تفاعل الساحة اللبنانية والبيروتية مع صيرورة المرحلة، وكتاباته في المارونية والاسلام والتركيبة اللبنانية، حيث الصيغة تبدو أقرب إلى متناول الميثاق ومشروع الدولة والتعايش، أي ما معناه المساحة التاريخية لترجمة الحقيقة اللبنانية إلى تسوية الميثاق والدستور ونظام الحكم.
أما الحديث في اليسار اللبناني، ومع محسن إبراهيم المفكر المسكون بالثورة في مساراتها الإنسانية القومية، تأتي الكتابة عن الحقيقة اللبنانية لتعطي للبنان شهادة موصوفة، فهو واقع وحاجة ومطلب، ستكون للوقفة مع محسن إبراهيم أهمية خاصة لاستنطاق التجربة الماركسية اللينينية في النموذج اللبناني ، وفي الوقت الذي يتعامل النص حول محسن إبراهيم فكرا وممارسة، ننتظر أن نحظى بإجابة حول التحديات التي انصرف الفكر اليساري اللبناني إلى الانخراط فيها، وقد كان لمحسن إبراهيم في الحضور والتنظير لمراحل شديدة الحساسية بين القوميين العرب والقضية الفلسطينية والحركة الوطنية ، ما قدم لتعامل ملفت مع المرحلة اللبنانية اللاحقة واتفاق الطائف على وجه الخصوص. أما فلسفة شارل مالك ، فهي في تألقها اللبناني صورة للبنان في المعنى الإنساني وحقوق الإنسان، والتجربة المالكية هي الطريق الأقصر لإختبار مفاهيم حقوق الإنسان في لبنان، واستنتاج الممكن والمستحيل في هوية التعددية اللبنانية بين العمق الفلسفي المنفتح على الرجاء، والطريق إلى السياسات اللبنانية في مواجهة حروب المصير، شارل مالك في الحضور اللبناني مساحة جامعة بين الهوية اللبنانية التي تتفاعل مع رسالة الوطن بروح المسيحية، في صلة مفعمة بالثقافة اللبنانية مع فلسفات العالم، وما بين دبلوماسية شارل مالك وتألقه الفكري وانكبابه على مواجهة اختبار العيش المشترك في لبنان ما يشبه انعكاس الصيرورة الصراعية اللبنانية في الفلسفة السياسية للبنان. وقد يكون للحضور المالكي بالأمس واليوم ما يبرر بقاء فلسفته على طاولة النقاش والحوار. أما رسالة كمال يوسف الحاج في بعديها اللبناني والعربي، فكانت وستبقى مدعاة لإستعادة المفاهيم التي ساقها الحاج في شغفه بلبنان الرسالة والعروبة اللغة والكلمة، وفي الحالين انجذاب إلى التفتيش في مسائل يعيننا عليها فحوى البحث الذي بين أيدينا، وتموضع كمال يوسف الحاج في عملنا يتجادل مع أبرز المفاهيم السبقية السائدة بخصوص الفلسفة واللغة والفكر، وبصورة مميزة في موضوع العلاقة بين القومية اللبنانية (كما وردت في بعض المؤلفات) والأمة العربية. وخاتمة المباحث مع ناصيف نصار وهي بداية جديدة لمنعطف وتحول في الدعوة إلى نهضة عربية ثانية، فمن دواعي اعتزازنا أن نقدم للقارئ تجربة في الحداثة في الأركيولوجيا الحضارية التي يتعامل معها الفكر النقدي المعاصر، فدعوة نصار إلى منهج جديد عبر ما يعتبره جدلية التخطي للبحث عن نظام جديد قابل للحياة، ومن الواضح أن أطروحات نصار في خلاصاتها بالنسبة إلى لبنان تملأ الفراغات بين الدعوات المهتمة بتجاوز الصيغ الطائفية المتحجرة والمنطوية على مسببات النزاع …
يختم علامي بالقول: انطلاقا من كل ما أشرنا إليه ننطلق من قناعة بأن مضمون هذا العمل يسد ثغرة في المكتبة اللبنانية والعربية، ويفتح على آفاق فكرية لبلورة حقائق تأسيسية نأمل أن تقدم للمهتمين مرجعاً يستند إليه في البحث حول لبنان بالفكر والفلسفة والممارسة، وسنداً للمهتمين من دارسين وباحثين للوصول إلى مدارج الحقيقة. ومن دواعي سرورنا أن يكون هذا النتاجشرنا إليه ننطلقمن قناعة بأن مضمون هذا العمليسدثغرة في المكتبة اللبنانية والعربية ويفتح على آفاق فكرية لبلورة حقائقتأسيسية نأمل أن تقدم للمهتمين مرجعاً يستند إليه في البحثحول لبنان بالفكروالفلسفةوالممارسة وسنداً للمهتمين مندارسين وباحثين للوصول باكورة أعمال مركز الدراسات والأبحاث في الجامعة الحديثة للإدارة والعلوم، من حيث الإصدار والتوزيع بعد مجموعة من الإصدارات التي أنيط أمر توزيعها بمراكز خارج الجامعة.
ونكتفي في موقع “بيروت الحرية” بإعادة نشر بحث د. زهير هواري ضمن العمل المشار إليه أعلاه لتعذر الوقوف عند كل الأبحاث المنشورة في الكتاب . .
محسن ابراهيم وإشكاليات الحرب الاهلية: مفتاح نقدي يكشف كيانات المنطقة 1/ 4
د. زهير هواري
المقدمة
تحتاج مقاربة الفكر السياسي لدى أمين عام منظمة العمل الشيوعي في لبنان محسن ابراهيم (1935 – 2020) جهداً مضاعفاً عما يتيحه بحث ضمن كتاب متعدد الاصوات يتناول عدداً من الشخصيات اللبنانية الكبرى التي تركت بصماتها على مجرى فلسفة الفكر والممارسة والاجتماع السياسي اللبناني. من هنا ما يرد في هذا المقال لا يمكن أن يفي الرجل والموضوع حقهما. خصوصاً ونحن نتحدث عن قائد أمضى أكثر من 60 عاما من عمره في العمل السياسي ونقد هذا العمل فكراً وممارسة، وقد تخللها صراعات محتدمة، ومقاربات متعددة للاوضاع الفكرية والسياسية الدولية والعربية واللبنانية. ما يزيد الأمر صعوبة هو أن محسن ابراهيم في باكورة نضاله هو غيره في مفاصل من عطائه الفكري – السياسي، لاسيما خلال الشطر الأخير من عمره الزاخر. فقد تقلب فكراً ونظرية من الحركة القومية بمعناها البدائي الشعبوي ثم الناصري الدولتي إلى الحركة الشيوعية فإلى الافكار اليسارية والديمقراطية والعلمانية الرحبة. من هنا فإن محسن ابراهيم قد يكون من القادة السياسيين نسيج وحده الذين أجادوا نقد الآخرين كطروحات وأفكار، وقبلهم نقد الذات بما كانت عليه المطالعات والبرامج والممارسات التي اعتنقها ونافح عنها شطراً من حياته. ومن هنا تصعب عملية ضبطه منهجياً في قالب معين من قوالب الفكر والممارسة. فعندما تصفه بأنه قائد قومي، يجب أن تعطف على ذلك إنه قائد قومي بمعنى كذا وكذا، باعتباره لا ينتمي إلى نمط القادة القوميين الذين نعرفهم وتعودناهم، والذين انتهوا إلى ما عاصرنا بعض قسماته. وعندما تقول قائد شيوعي أو يساري يجب أن تقول الامر نفسه عنه. على أي حال، يمكن القول إن محسن ابراهيم في أطوار ممارسته العمل السياسي سواء في المرحلة القومية أو الشيوعية وحتى اليسارية اكتسب كنزاً ثميناً من العلاقات والمعارف التي مكنته أن يصبح واحداً من بين قلائل يعدون على أصابع اليد الواحدة العالمين بأوضاع وخفايا وخبايا الدول والمجتمعات العربية وقضايا شعوبها. وبهذا المعنى كان ابراهيم خبيراً في شؤون بلاد المغرب العربي مروراً بمصر وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين والكويت وصولاً إلى اليمن. بالطبع كانت المرحلة قطرياً وقومياً حافلة بالتحولات التي كرست نفسها في دفاتر الاحداث الكبرى التي شهدتها على امتداد عقود ، وهي الاحداث التي تفاعل معها ابراهيم وغيره من قادة تلك المرحلة، لكنه كان الأكثر نقداً لما تمخض عنها من سياسات وممارسات .
إشكالياته ومراحل نضاله
ما يزيد الأمر صعوبة هو ندرة الكتابات التي تناولته طوال الفترة الممتدة بين أواخر الخمسينيات حتى وفاته في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين[1] . فما يمكن العثور عليه من كتابات عنه لا يعدو أن يكون مقاربات صحافية متفرقة، وهي في الغالب وردت بأقلام بعض الذين عبروا في تاريخ حركة القوميين العرب أو منظمة الاشتراكيين اللبنانيين أو منظمة العمل الشيوعي. بعضهم أرخَّ بحيادية لتلك المراحل المبكرة من تاريخ الحركة القومية، ولكن معظمهم تحامل عليه إلى هذا الحد أو ذاك لأنه أفتى بنهاية حركة القوميين العرب، وبالتالي ساهم في إزالة عصب ما من حياة المنطقة العربية وأهلها، بل إن البعض اتهمه أنه دوماً كان يغادر السفينة عندما تجنح على الرمال، أو ترتطم بصخور قاع الواقع. هذا ما قيل عنه عندما غادر الفكرالقومي الناصري، وتولت مجلة “الحرية” [2] التنكر لمواقفها المؤيدة السابقة لعبد الناصر وتجربته السياسية والنضالية، ووجهت أقسى نقد للتجربة الناصرية في شتى المجالات، والتي تمثلت أوضح اخفاقات ما انتهت إليه، في نكسة االخامس من حزيران عام 1967 كأبرز هزيمة في تاريخ العرب الحديث. أيضاً، وأيضاً تكررت التهمة مع تخلي منظمة العمل الشيوعي عن الفكرالماركسي – اللينيني، وهي التي طالما اتهمت الحزب الشيوعي اللبناني ورفاقه في الاحزاب الشيوعية العربية وغير العربية بالتحريفية والاصلاحية والانتهازية، والتنكر للنص الماركسي الاصلي حول الاشتراكية العلمية والتجارب الثورية في العالم. ونضيف إلى الاتهامات التي راجت، من أنه فكفك عمارة منظمة العمل الشيوعي الفكرية في أعقاب الغزو الاسرائيلي من خلال المراجعة التي قادها، والتي لم تترك حجراً على حجر في منظومة بنيتها. حدث هذا بعد أن فشل مشروعه الحزبي والسياسي الذي قاده طوال عقود. وذهب البعض إلى حد المبالغة والقول إنه بالأصل لم يستطع قيادة عملية بناء تنظيم يساري يتجاوز التحلق حول شخصه، وكان أكثر انشغالاً بالعمل في اطار الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية، فقام بفرطه عامداً متعمداً، ما أوصل اليسار إلى مزيد من التلاشي والضياع، والمنطقة إلى حال من الانكشاف الكامل.
ما يزيد من صعوبة وضع اليد على تراث الرجل أن مجمل مقارباته وردت على صفحات مجلات “الحرية” و”بيروت المساء”. ومؤخراً على موقع “بيروت الحرية” الالكتروني كتراث فكري لهذا القائد الراحل. ليس هذا فقط ، بل أن الكتب التي أصدرها وحملت اسمه – أو حتى لم تحمله – ولكنها كانت من صياغته وأسلوبه ووردت باسم منظمة العمل الشيوعي، يجمع ما بينها أنها مقالات أو مقابلات وردت خلال فترة زمنية معينة في هذه المجلة أو تلك، ثم جرى جمعها بين دفتي كتب. وبالتالي هي متأثرة بالدور والحدث السياسي الاسبوعي ومتفاعلة معه، وهدفها تحليل وقائعه وقول رأي في مآلاته. وبهذا المعنى فهي لا تتمتع إلا فيما ندر بوحدة موضوع البحث كما هو متعارف عليه في الابحاث الاكاديمية، وبالتالي يتعذر معها التحديد ومعالم التركيز والغوص من أجل استكشاف الحدث المحلي أو الفلسطيني أو العربي بعمقه واتساعه وشمول نتائجه وآثاره. يمكن الخروج من هذه المقدمة بقاعدة تتمثل في نسبية تمثيل كتابات ابراهيم لأفكاره نفسه كما استقرت عليه، نتيجة حركيتها المستمرة خلال ممارسته العمل الفكري – السياسي . بالطبع كان محسن ابراهيم أحد صائغي خط الحركة الناصرية في ذروة صعودها. وكانت الحرية تدخل إلى مصر من دون أن تخضع للرقابة المصرية، كونها تتمتع بغطاء وإجازة جمال عبد الناصر شخصياً. كما لعبت طروحاته حيال القضية الفلسطينية والصراع العربي الاسرائيلي موقعها المتميز داخل الفصائل الفلسطينية وخارجها، وأحدثت صخباً وتحولات نقلتها من مكان إلى آخر. أما داخل الحركة الوطنية اللبنانية وطروحاتها، لاسيما في غضون سنوات الحرب الاهلية 1975 – 1990 بما فيه الغزو الاسرائيلي للبنان صيف العام 1982 فقد كانت رؤية منظمة العمل الشيوعي طاغية على نحو شبه كامل على جملة مقولات القوى التي تأطرت في مؤسساتها المركزية والمناطقية. كما يمكن قراءة الخط الوطني في ما سبق وأصدرته المنظمة من تقارير 74 و75 و77 وبيانات عن لجنتها المركزية وسواها من هيئات حزبية. لكن هذا الخط بما عُرف عنه من جذرية وتطرف حتى، تعرض للنقد القاسي من جانب ابراهيم قبل الآخرين. وما طُرح خلال وبعد التوصل إلى اتفاق الطائف لم يسلم من مبضعه، فسلط على تلك الفترة وما عُرف بالحل العربي تشريحه لما حمله من توجهات، وما تخلله من ممارسات وهيمنة طائفية ونيو ليبرالية ووصاية عربية ثم سورية صافية، اعاقت استعادة سوية نهوض دفاعات البنية اللبنانية عن نفسها، عندما أحالت كل مقاليد الأمور إلى الحاكم بأمره في عنجر صعوداً نحو دمشق. لا يصل المرء إلى ذلك من متابعة كتاباته المنشورة سواء على صفحات المجلتين الاسبوعيتين اللتين حملتا مواقف الحركة والمنظمة ، بل الأهم أن نسخة النقد الأدق تصويباً والأكثر استهدافاً هي تلك التي وردت في مداخلاته غير المنشورة في اجتماعات ووثائق اللجنة المركزية للمنظمة خلال التسعينيات. حتى إنه يمكن القول إن ما ورد في كتبه مجرد مقدمات بنى عليها ابراهيم نقده المعمَّق ونقضه لما طغا وطفا على السطح، بما فيه ما ورد على لسانه وبقلمه. وكان هذا النقد جلياً وواضحاً في تلك الوثائق التي كانت تبدأ بمداخلة منه، يعقبها مداخلات و مواقف وأسئلة من أعضاء اللجنة المركزية ورد من جانبه. إذن نحن أمام مفكر مجدد وقائد إشكالي بكل معنى من معاني الكلمة. ولعل هذا مرد الالتباس الذي أحاط بالعديد من المقاربات التي تناولته.
Leave a Comment