مصطفى حجازي*
مفهوم الثقافة العربية اجتماعياً يتجاوز مفهوم المثقّفين وأدوارهم. ولذلك نركّز الحديث على المثقّفين حاملي راية الفكر العربي. ويشمل الكلام، هُنا، كلّ المثقفين على اختلاف مجالات نشاطهم واختصاصاتهم، بمن فيهم مثقّفو النخبة المُتعالون عن قضايا الشعب. ذلك أنَّ القضية الفلسطينية هي قضية مصير الأمة العربية جمعاء في كلّ أقطارها. والدفاع عنها، والعمل لأجلها، هو دفاع عن المستقبل العربي ومصيره. وهو ما ينطبق من باب أَولى على كلّ القيادات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإعلامية والتربوية. إذ من الوهم الظنّ أنَّ هذا الطرف أو ذاك أو هذا القطر أو ذاك غير معني أو مستهدف. ذلك أننا بصدد مشروع هيمنة على كلّ العالم العربي في كيانه وأرضه وثرواته وموقعه الجيوسياسي الاستراتيجي وبالتالي ناسه ومصيره.
أوّل ما يجب التركيز عليه والتوعية به هو كشف المشروع الصهيوني الغربي وزعيمته أميركا، وأبعاده الخفيّة وفضح زيف ادّعاء إنصاف اليهود الذين تعرّضوا للمحرقة. وها هو الكيان الصهيوني يُمارس ما لا يقلّ خطراً من جرائم إبادة جماعية في غزّة. المشروع الصهيوني في الاستيلاء على فلسطين عمرُه ما يقارب القرنين، من أيام حملة نابليون على مصر والشرق العربي. وهو أقدم حتى من مشروع هرتزل. لقد اقتُرح على نابليون عندها أنه إذا أراد السيطرة على المنطقة فعليه أن يدقّ إسفيناً ما بين مشرق العالم العربي ومغربه، من خلال إعطاء فلسطين للحركة الصهيونية لقاء تمويل حملته. كما تمّ إغراء السلطان العثماني بإعطاء فلسطين لليهود لقاء تغطية ديون السلطنة الثقيلة. وتكرّس الأمر بوعد بلفور قبل المحرقة بعدة عقود.
هذا الوعد لم يكن مجرّد توفير وطن آمن لليهود، بل هو بداية تأسيس قاعدة بشريّة عسكرية تقنية متقدّمة لحماية مصالح الغرب وأميركا في المنطقة وضمان السيطرة عليها. ومعركة المقاومة في غزّة هي أصدق تدليل على ذلك؛ ممّا تمثّل بحشد أكبر قوة عسكرية أميركية مدعومة غربياً وتوفير كلّ متطلبات الدعم لـ”إسرائيل” بشكل غير مسبوق في أيّ مكان بالعالم. إنها ليست دعماً للكيان الصهيوني، بل هي دفاع عن أكبر قاعدة عسكرية تقنية للغرب في المنطقة. وهنا يأتي دور المثقفين العرب في كشف زيف ادّعاءات أميركا والغرب، وكلّ الكلام عن حماية المدنيّين ودُور العبادة والمستشفيات والأطفال، وسكوتهم المذهل عن مجازر الإبادة العنصرية.
من المعارك التي يتعيّن على المثقّفين العرب خوضها فضح ادّعاءات “إسرائيل” والغرب بأنّهما يخوضان معركة ضدّ الإرهاب من خلال وصم أي فعل مقاوم بأنه “عمل إرهابي”. أوليس تدمير العمارات على رؤوس ساكنيها والمستشفيات ومنع وصول الإمدادات الطبّية لها، وبالتالي القضاء على المرضى، والاقتلاع من الأرض فعلاً إرهابياً غير مسبوق في تقاليد الحروب؟
كذلك يجب على المثقّفين فضح المشروع الصهيوني في الاستيلاء على أرض فلسطين بلا شعب. فالمعركة ليست ضد إرهاب مزعوم، وإنما هي ألا يكون هناك شعب عربي فلسطيني من خلال عملية تطهير عرقي طويل النفس ومتعدّد الآليات والوسائل، وتحويل حياة الفلسطينيّين إلى جحيم. وكذلك زرع الخلايا الاستيطانية في الضفة الغربية، والتي هي في الواقع خلايا سرطانية تتفشّى في جسم الضفة الفلسطيني كي تقضي عليه.
كذلك على المثقّفين العرب تنشيط دورهم وحضورهم الإعلامي لكشف خداع آليات التضليل الصهيوني – الأميركي الغربي وهو ما يسمّى في الإعلام “إدارة الإدراك”، أي جعل الآخر يفكّر كما تريد. وحين يفكّر كما تريد فسوف يتصرّف كما تريد له أن يتصرّف. وهي آلية نفسيّة تستخدم في الإعلام والإعلان والحرب النفسية، ويتم زرعها في النفوس والأذهان من خلال آليات التكرار المستمرّ والتضخيم والانتقاء والتركيز وسواها من آليات التلاعب بالإدراك.
استخدمت “إدارة الإدراك” في خطّة طويلة النفس لخداع جماهير الغرب من خلال مقولة “حقّ اليهود في حياة آمنة على أرض فلسطين”، مع إغفال وطمس كلّ عمليات التطهير العرقي والقضاء على الوجود الفلسطيني الشرعي على أرضه. وكذلك استخدام “إدارة الإدراك” من خلال ترسيخ عُقدة الذنب لدى الجماهير الغربية تجاه مأساة اليهود التي ارتكبتها النازية، حيث عُمّم الذنبُ على كل الجماهير الغربية، وتم تدعيمه من خلال مختلف القوانين التي تحظر العداء للسامية، وذلك مع التعمّد المنتظم لإغفال حقيقة أن الفلسطينيين هم ساميّون على قدم المساواة مع اليهود، ووصمهم على العكس بأنّهم مصدر الإرهاب وتهديد الأمن، وذلك من خلال إغراق وسائل الإعلام بروح العداء لكلّ حركات المقاومة الفلسطينية، دفاعاً عن أرضها وحقّها الأصيل في الوجود.
هكذا تحوّل كلُّ فعل مقاوم إلى فعل إرهابي. وكلُّ إرهابي هو الشرّ الشيطاني الذي يجب القضاء عليه وتطهير الأرض منه. هكذا صار كلّ مقاوم أسطورة الشر التي يصبح القضاء عليها واجباً نبيلاً. إنّها عملية سلخ الصفة الإنسانية عن الفلسطيني، مما يبيح كل صنوف الأفعال العدوانية تُجاهه. هذه الأفعال هي ضدّ خطر الشر وليست ضدّ إنسان آخر مثيل في إنسانيته. من هنا تصبح مُتاحة كلّ المجازر التي ترتكب بمثابة واجب نبيل مجرّد من أي شعور بالذنب.
ويتكرّس ذلك صهيونياً من خلال النظرة إلى الفلسطيني بأنه “غوييم” أي اللاإنسان، وبالتالي فالنظرة الوحيدة إليه هي من فوهة البندقية. أبرز شاهد على ما نقوله هو المجازر التي ليس لها حدود بحقّ المدنيّين والأطفال والمستشفيات، حيث لا حرمة ولا رادع من أي نوع كان أمام عمليات الإبادة هذه بتغطية من قبل أميركا والغرب، وليس بمجرد تقاعس أو تقصير كما يجري الحديث عنه إعلامياً، لكن من باب التضليل. أميركا تمنع أي إدانة أو محاكمة لـ”إسرائيل”، إذ عندها تدين نفسها هي والغرب.
دور المثقّفين والإعلام بكشف مشروع التطبيع وتبيان مراميه الحقيقية، والذي تقوده أميركا بهدف إحكام السيطرة على المقدرات العربية. إنّها السيطرة الناعمة التي تُتمّم عمل السيطرة العسكرية. تبذل أميركا كل جهودها وضغوطها مُحاوِلَةً تصوير هذا التطبيع على أنّه يخدم مصالح الدول المطبّعة بالدرجة الأُولى، وأنّه يوفّر لها الحماية العسكرية ضد أي تهديد. وهو في الحقيقة مجرد هيمنة اقتصادية، وعملية إسباغ الشرعية على اغتصاب فلسطين، وإلغاء القضية الفلسطينية، من خلال إدماج دولة “إسرائيل” في المنطقة.
من المهام الرئيسية المطروحة على المثقّفين العرب تعبئة الشبيبة العربية والناشئة، وتعزيز إيمانهم بأن القضية الفلسطينية وخدمتها تتعلّق بتأمين مصيرهم ذاته، وخصوصاً أنَّ العولمة والحضارة الرقمية وتقنياتها المعروفة تهدّد بسلخهم من انتماءاتهم الوطنية العربية ودفعهم إلى العيش في العالم الافتراضي. واستبدال هويتهم الوطنية بالهويات الافتراضية. المطلوب هنا تعبئة طاقات هؤلاء الشباب لاستغلال مهاراتهم الافتراضية لخدمة القضية الفلسطينية ومقاومتها، ففي ذلك دفاع عن كيانهم المستقبلي ذاته.
المطلوب، أيضاً، من المثقفين العرب باختصار، الانخراط في مشروع استراتيجي طويل النفس ومتعدّد الأبعاد للحفاظ على الحقوق، وحشد الطاقات، ليس لفلسطين وحدها، وإنّما للكيان العربي ومصيره وحقّه بالمكانة والوجود. وهو مشروع مضادّ للمشروع الصهيوني طويل النفَس بدوره للسيطرة، ليس على فلسطين وحدها، وإنّما لوضع اليد على مقدرات العالم العربي واستتباعه لأميركا والغرب.
المطلوب تجاوز ردّات الفعل التي اعتدنا عليها عربياً عند كلّ اعتداء على فلسطين وشعبها والتي سرعان ما تخبو. إننا بصدد الحفاظ على الكيان والمصير وصناعة المستقبل. وهو ما يتطلّب تمكين إنساننا وشعوبنا في عملية نقلة حضارية توفّر مقوّمات القوّة على اختلافها وعلى رأسها القوة المعرفية. وهو ما يتطلّب قيادات عربية مؤمنة بالحقوق وقادرة على توفير العدّة لانتزاعها وضمان استمرارها، وعلى قدر المسؤولية والالتزام بها.
* أكاديمي وعالم نفس من لبنان، والمقالة نشرت في العربي الجديد بتاريخ 22 تشرين الثاني / نوفمبر 2023
Leave a Comment