جدعون ليفي وأليكس ليفاك*
يعرض الصحافيان جدعون ليفي وأليكس ليفاك، في مقالة لهما نشرتها “هآرتس” لنماذج مما يقوم به المستوطنون في عدد من القرى الفلسطينية في الضفة الغربية، وهم يرتدون لباس الجيش الإسرائيلي، وكيف يتم إفراغ قرية تلو الأخرى، من دون حسيب أو رقيب.
عندما وصلنا، وصلنا بصعوبة إلى الطريق، وبعد أن قمنا بإزالة حجارة كان المستوطنون وضعوها كحواجز، لاحظنا اقتراب شخصيتين عدوانيتين منا. كلاهما وصل إلى الشارع الرئيسي؛ الأول كان يرتدي ملابس الجيش، وكان مسلحاً، ولديه سوالف طويلة. صديقه كان يرتدي ملابس مدنية. الفلسطينيون الذين كانوا برفقتنا تأهبوا. هذا الخوف من المستوطنين لم يكن موجوداً هنا.
المستوطن الذي كان يلبس كنزة بقبة عادية، قفز إلى غطاء المحرك، ومنع استمرار تقدُّمنا. ثم قام بإلصاق هاتفه الجوال على الزجاج، وهدد وهو يصورنا، كأنه ألقى القبض علينا بالجرم المشهود، وبعد ذلك، صار ينشر الحجارة على الطريق، لكي يمنعنا من التقدم. صديقه المسلح بالملابس العسكرية سألنا بلهجة متعالية عمّا نفعل هنا، وطلب منا بطاقات الهوية. كنا في طريق عودتنا من أحد التجمعات البدوية التي ترعى الأغنام، وهو آخر التجمعات التي لم تهرب لتحمي نفسها، خربة التيران، جنوبي الظاهرية، جنوبي جبال الخليل. وقبل وصولنا بليلة واحدة، تلقى السكان تهديداً بإخلاء قريتهم خلال يوم – وإلاّ فإنهم سيُقتلون.
بطريقة ما، اخترقنا حاجز الحجارة، وتجاهلنا المطالب الوقحة من الجندي- المستوطن بأن نقول له ماذا نفعل هنا، وتابعنا طريقنا. الفلسطينيون الذين يرافقوننا عرفوا أن هذا الجندي هو أحد أكثر المستوطنين تطرّفاً في المنطقة. الآن، بات عضواً في ”صفوف الجاهزية“، المصيبة الأخيرة التي سقطت علينا. نصر نواجعة، الباحث في مؤسسة “بتسيلم”، ويسكن في سوسيا، قال معلّقاً ”مع ضباط الأمن، كنا نعرف ما علينا فعله، والحذر منه“ ويضيف ”أعضاء صفوف الجاهزية هذه، يوقفون مَن يريدون، ويقومون بما يريدون، من دون أي سؤال“.
في شوارع جنوبي جبال الخليل الفارغة دائماً، أغلبية المركبات لوحاتها صفراء، مركبات ”صفوف الجاهزية“التي كثرت جداً خلال الحرب. تحت غطاء الحرب، انفلت المستوطنون هنا، كما لم ينفلتوا قط. هناك غرف محصّنة في كل زاوية، وعلَم إسرائيل معلّق على كل واحدة منها، بالقرب من البؤر الاستيطانية، هذا بالإضافة إلى كثيرين من المستوطنين الذين يرتدون الآن ملابس الجيش، بدلاً من الملابس المدنية التي تكون فوق ملابس الصلاة. ويصفهم نواجعة بأنهم”مجرمون بملابس عسكرية“.
جميع الطرقات التي تؤدي إلى تجمعات رعاة الأغنام والقرى الأُخرى مغلقة خلال الأسابيع الماضية بالحجارة التي ألقاها المستوطنون. سوسيا مثلاً، قرية تعيش فيها 32 عائلة، أكثر من 300 نسمة، تم إغلاق الطريق عليها من عدة جهات – وكذلك الطرقات إلى الحقول – ولا توجد أي طريقة للوصول إلى هناك في السيارة. وبحسب نواجعة، ” حتى الذبابة لا تستطيع الوصول “. وبحسب معطيات” بتسيلم“، فإن 16 تجمعاً لرعاة الأغنام هربوا من قراهم في الضفة الغربية منذ بداية الحرب، 6 منهم في جنوبي جبال الخليل. الآن، يوجد في الضفة 149 عائلة هربت، خوفاً على حياتها، ولا يمكنها العودة إلى هذه القرى قط. إنه تهجير تحت غطاء الحرب.
بحسب السكان، فإن الطريقة تكرر نفسها: يظهر المستوطنون في ساعات الليل أساساً، أحياناً بملابس عسكرية، وهم ملثمون، ويهددون، وينشرون الرعب، وأحياناً، يضعون مسدساً في رأس طفل، بعد أن يهدموا الأملاك والسيارات وغيرها، ويفتحون المياه على الأرض، ويتلفون العلف، ويخيفون القطعان، وبعدها يهددون السكان الخائفين بأنه في حال لم يقوموا بالإخلاء خلال اليوم، فإنهم سيعودون في الليل، ويُلحقون بهم الضرر.
سكان هذه القرى الصغيرة هم الأضعف في السلسلة الفلسطينية، ولا خيار لديهم إلا القبول والهرب من المكان الذي وُلدوا وعاشوا فيه في ظل ظروف طبيعية تقريباً. وحتى الآن، يبدو أنه لا يوجد مَن يدافع عنهم، ولا مَن يحمي أولادهم، أو أملاكهم. هنا، في هذه المنطقة المعزولة، لا جيش، ولا شرطة إسرائيلية، أو فلسطينية، أو أي جهة أُخرى يمكن أن تدافع عن السكان.
زعران المستوطنين، هم دائماً أبطال على الضعفاء، يستغلون ضعفهم لتوسيع التهجير و”تطهير“ جنوبي جبال الخليل، وضمنه المناطق الأُخرى التي يسكن فيها الفلسطينيون، السكان الأصليون. وبعيداً عن عيون الجميع، وتحت غطاء الحرب في غزة، من الواضح أنهم نجحوا، وهذا ما يظهر في الميدان. في المناطق الجنوبية لبلدة السموع ومدينة الظاهرية، وأيضاً مسافر يطا، بات واضحاً الآن أن هناك قرى مهجورة. علَم المحتل ومَن قام بعمليات التهجير، واضح فوق الخيام. جنوبي جبال الخليل، دائماً وأبداً.
في البداية، قبل أسبوعين، هجّروا سكان قرية زنوتة – 27 عائلة، وعنزا – 5 عائلات. هجّرهم المستوطنون الذين جاؤوا من مزارع ميتريم، وأرعبوا السكان هنا، أو من بؤر استيطانية أُخرى. قرية غازي أيضاً، الواقعة بالقرب من السموع، تم إخلاؤها، بعد أن هدد المستوطنون سكانها. لقد تركوا أماكن سكنهم وكل ما لديهم في الخيام، وهربوا وهم في حالة هلع، إلا إن المستوطنين جرفوا الخيام، وهدموها على ما تبقى فيها. وأتلفوا 10 أطنان من الشعير.
الساكن الأخير في تجمّع غازي، عيسى صافي، البالغ من العمر 77 عاماً، تم إرغامه في نهاية المطاف على ترك المنطقة، بعد أن ازدادت التهديدات على حياته. في إحدى الليالي، اتصل بنواجعة، وهو يبكي، وفي اليوم التالي، ترك هو أيضاً التجمع. أما حميره فقد سرقها، بحسب أقواله، مستوطن من معشهيل. التجمع البدوي مكتل أم سالم لم يعد موجوداً أيضاً. راعي الأغنام عمار عواوي، البالغ من العمر 38 عاماً، هرب أيضاً مع عائلته. وتم إرغامه على الذهاب حافياً فوق الأشواك، بحسب نواجعة، بعد أن مرّ بعمليات إذلال إضافية إلى أن هرب. وبحسب نواجعة أيضاً، فإن هذه القرى صغيرة، وتتكون من عائلتين أو ثلاث عائلات في كل تجمّع، ولا خيار لديهم إلا الهروب. أما في قرية عتيرية، فعاشت 4 عائلات – والآن، يرفرف علَم إسرائيل فوقها، إلى جانب الطريق.
الإخوة توفيق (47 عاماً)، ورفيق (55 عاماً) من عائلة زعرير، يسكنان في خربة التيران. لدى كل منهما 12 طفلاً، ويملكان معاً 500 رأس من الأغنام. هناك فوق خيمتهم المركزية في القرية يوجد إعلان كبير: “البنك سيرتب لك قرضاً سكنياً. عدم الوفاء بالالتزام للبنك يمكن أن يؤدي إلى فوائد وخطوات جباية، بحسب شروط البنك”. ومن الأعلى، تطل مزرعة يهودا التي تزرع الشر، على التلة المقابلة. تعيش في تجمّع التيران 5 عائلات، نحو 100 نسمة. عودة أبو شارح، البالغ من العمر 75 عاماً، والده وُلد هنا قبل 110 أعوام، ولم يتلقّ تهديدات بعد، لكن جيرانه رفيق وتوفيق تلقياها.
يوم السبت الماضي، في 11 تشرين الثاني/نوفمبر، الساعة العاشرة صباحاً، وصل مستوطنان مسلّحان إلى القرية، وتصرفا بعنجهية في مركبتهما الرباعية الدفع، وهاجما قطعان الأغنام لإخافتها. أحد المستوطنين صعد إلى المركبة الرباعية الدفع، وبحسب رفيق، وضع مسدساً في رأس أحد أطفال العائلة، وصرخ في وجهه: “اذهب من هنا. لديكم 24 ساعة للذهاب من هنا”. بعدها، سألا الأطفال: أين هم أصحاب المنزل؟ وكررا التهديد بأن عليهم مغادرة قراهم خلال يوم، وإلاّ فإنهما سيقومان بأذيتهم.
في ساعات ما بعد الظهر، وصل مستوطنان آخران، على ما يبدو، من مزرعة ”يهودا“. ومرة أُخرى استفزا، وهددا، وأعلنا: ” سنعود الليلة“. لم يعودا في الليلة نفسها، لكنهما عادا في الليلة التالية، يوم الأحد، حين ظهر 7 أو10 أشخاص ملثمين. بعضهم كان يلبس الملابس العسكرية، وبعضهم كان بلباس مدني. وبدأوا يعيثون في القرية خراباً: حطموا بالحجارة والعصي زجاج المركبات التي كانت متوقفة هناك – سيارة مازدا ومركبة تويوتا رباعية الدفع، الآن، باتت محطمة – وألحقوا الضرر أيضاً بمحرك الجرافة الصغيرة. كما أنهم أفرغوا خزان الماء التابع للقرية، ومزقوا أكياس العلف، ونشروا محتوياتها.
طلب منهم المستوطنون التجمع في خيمة واحدة، وشتموهم، وهددوهم. لم ينطق أحد منهم بكلمة من شدة الخوف. وقالوا لهم ”منحناكم 24 ساعة لترك المكان، لماذا لم تتركوه؟ لديكم 24 ساعة إضافية“. وما الذي ستقومون به؟ سألناهم في اليوم التالي. فقال رفيق”إذا استمروا بالتهديد، فسنترك منازلنا. لا يوجد مَن يدافع عنا“. جلسنا تحت شجرة توت، وطائرات سلاح الجو مرت وسط الضجيج، يبدو أنها في طريقها لقصف غزة، وكان واضحاً للجميع أن هذا التجمع سيُهجَّر، وسيسرق المستوطنون أراضيه.
ومن السكان من يترك القرى في ساعات الليل بسبب الخوف من الهجمات، ويحاول العودة خلال ساعات النهار لرعي الأغنام والحفاظ على الأملاك. على سبيل المثال، هذا ما قام به محمد جبارين، البالغ من العمر 47 عاماً، وعندما وصل إلى منزله في ساعات الصباح، لاحظ أن الأبواب منزوعة من مكانها والشبابيك أيضاً محطمة. حتى أن ماكينة الغسيل قد تحطمت. وبعدها ترك المكان، ولم يعد.
سوسيا هي نموذج من المعاناة: تم تهجير سكانها قبل بضعة أعوام من مغارة مقابلة، بعد أن سيطر المستوطنون عليها، وهي المغارة التي وُلدوا فيها، الآن، أقام المستوطنون هناك ”منطقة سوسيا القديمة“، وانتقلوا إلى السكن فيها. الآن، لا يمكن الوصول إلى هناك في السيارة. كان على نواجعة إيقاف مركبته على بُعد أكثر من نصف كيلومتر عن البيت، وأن يحمل حقائب ثقيلة على حمار. لقد أعاده المستوطنون، هو أيضاً، إلى العصر الحجري.
(*) المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية
“زعران المستوطنين” يُهجّرون قرى عربية.. تحت غطاء الحرب ، نشرت في 18019/11/2023 | 180Post
Leave a Comment