محمود الريماوي*
استندت أبرز الاعتراضات الاحتجاجية في الدولة الإسرائيلية على التعديلات القضائية التي طرحتها حكومة المستوطنين، بقيادة بنيامين نتنياهو، على أن المحكمة العليا التي يُراد الحدّ من صلاحياتها ومن نطاق عملها، إلى أن تلك الدولة بلا دستور، وعلى أن هذه المحكمة تملأ هذا الفراغ. ومع ذلك، لم تنطلق حالة جدلٍ في الوسط الإسرائيلي بشأن الحاجة إلى وضع دستور، وبدا أن هناك اتفاقا ضمنيا على أن من الأفضل عدم الشروع في هذا، وأنْ يجري الاكتفاء بما تسمّى قوانين أساس التي تسنّها الكنيست، واحتسابها بمنزلة مرجعية دستورية. وكان يئير ليبيد، أبرز قادة المعارضة ورئيس الحكومة السابق، قد تطرّق مرّة إلى الحاجة لوضع دستور، وذلك في خضم الحملة على التعديلات، لكنه تناسى، بعدئذٍ، الأمر، كأن ما بدر عنه كان زلّة لسان، أو أنه أدلى بطرحٍ غير واقعي، وربما في غير أوانه.
يردّ خبراء وقانونيون غياب وجود دستور إلى انقسامات دينية وأيديولوجية تميّز المجتمع الإسرائيلي، ما يجعل من المتعذّر التوصل إلى اتفاق بشأن مصدر السلطات، إن كانت التوراة أم الكنيست. كما تتعسّر دسترة المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، فالحريديم يرفضون التجنيد العسكري لأبنائهم، فيما مساواة المواطنين الأوائل، وهم العرب، مرفوضة من منظور صهيوني، ويرفضها العرب الفلسطينيون إذا كانت تُملي عليهم التجنّد في الجيش الإسرائيلي الذي يحتلّ أراضي شعبهم في الضفة الغربية المحتلة. والراجح أن مسألة الدستور سوف تظلّ غائبة عن أجندات القوى الحزبية والدينية وعن المؤسّسة الصهيونية برمتها، برغم ادّعائها أنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وأنها تُحتسب، في الوقت نفسه، ضمن الفضاء الأوروبي لا الشرق الأوسط، علماً أن جل الدول التي تصنّف في عداد الديمقراطيات تتوفّر على دستور وعلى محكمة عليا لتفسير الدستور عند الاقتضاء، وللسهر على حسن تطبيقه في جميع الظروف. هذا بينما كان منشئو إسرائيل على أرض فلسطين قد وعدوا، في البداية، ومنهم ديفيد بن غوريون، بوضع دستور للدولة بعد خمسة شهور على قيامها، وعلى صدور ما سمّيت وثيقة الاستقلال، ثم تراجع بن غوريون عن المسألة التي قد تقيّد المشروع الإسرائيلي. غير أن ما لا يتم التطرّق إليه إلا عرضاً وراء العزوف شبه العام عن وضع وثيقة دستورية، إنما يكمن في “حركية” هذه الدولة، في كونها مشروعا مفتوحا على المستقبل، وأنها في حراك دائم لتحقيق مطامح صهيونية مضمرة ومعلنة. ومنذ أقلّ من ثمانية عقود، تتغيّر خرائط الدولة الإسرائيلية من حقبة إلى أخرى. ولهذا لا ترغب الغالبية في المجتمع الإسرائيلي بـ”التورّط” بوضع دستور يحدّد الحدود الدولية لدولتهم، فقبل أن يتحدّث المستوطن الوزير بتسلئيل سموتريتش في باريس، مارس/ آذار الماضي، وخلفه خريطة جديدة تُظهر حدودا إسرائيلية تشمل الأردن، فإن رئيس حكومة المستوطنين نتنياهو ذكر في كتابه “مكان تحت الشمس” (1993) أن “الأردن أصلا جزءٌ لا يتجزّأ من أرض إسرائيل”، وأن “الأردن تمتدّ على أربعة أخماس المنطقة التي خصّصتها في حينه عصبة الأمم وطنا قوميا لليهود”، مع العلم أن عصبة الأمم لم تعد مرجعية دولية يُعتدّ بها منذ قيام الأمم المتحدة في العام 1945.
وما قال به قال الحاخام اليهودي، أليعازر ميلاميد، أخيرا، عن حدود دولتهم التي تمتدّ من النيل إلى الفرات، يعكس مطامع صهيونية لا تتعرّض للنفي أو النقد لدى أوسع الشرائح الإسرائيلية التي تؤمن بأن إسرائيل قوية بما يكفي لتحقيق مزيد من المطامح. وبما أن الدستور يعكس حال الدول المستقرّة وذات الحدود الواضحة والمعترف بها داخليا ودوليا، فإن هذا الأمر لا ينطبق على الدولة العبرية، حتى أن اتفاقيات التطبيع العربية مع هذه الدولة قد زادت، في واقع الحال، من شهية التوسّع. وبينما كان نتنياهو يتحدّث، قبل أعوام، وفي ذروة موجة التطبيع، عن عدم وجود مشاريع للضم، بات يتحدّث حاليا، بكل صلافة، عن خطته لاقتلاع أمل قيام دولة مستقلّة من نفوس الفلسطينيين.
ويلفت الانتباه أن جمهرة المحتجّين على نتنياهو وتعديلات ائتلافه الحكومي لا تثير الحاجة إلى وضع دستور لدولتهم، فهم، من هذه الناحية، يريدون استمرار الوضع القائم قبل طرح التعديلات لا غير، بما في ذلك استمرار احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة ومواصلة الغزو الاستيطاني (غير العشوائي)، هذا رغم الإدراك أن هناك أقلية ضئيلة في صفوف هؤلاء تؤمن بحقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم على أرضهم، غير أن صوت تلك الأقلية مقموع، حتى من أوساط المحتجّين في شوارع تل أبيب. وبهذا لا يكون غريبا أن تبقى الدولة الصهيونية بلا دستور، فيما تتبلور هويتها أكثر فأكثر دولة تمييز وفصل عنصري ومعادية للسلام.
في مثل هذه الأيام قبل خمسة أعوام، صدر قانون القومية، تضمّن بنودا تُعلي من شأن كل ما هو يهودي على حساب ما هو غير يهودي، مع وضع الاعتبارات القومية اليهودية فوق المقتضيات القانونية. وهذا القانون هو أحد قوانين الأساس التي تنطوي على وزن دستوري، وتعوّض عن غياب الدستور في أنظار الغالبية الغالبة بمن فيهم المحتجّون الهادرون.
لا يعنينا، في واقع الحال، أن تعمل الدولة الإسرائيلية على تجميل وجودها بوضع دستور “متطوّر” مثلا يخفي سوءاتها وخطيئة قيامها على حساب الشعب صاحب الأرض، فما يستحقّ الاهتمام، قبل ذلك وبعده، إدراك المطامع الصهيونية التي لا يحدّها حدّ جغرافي أو قانوني، والتي تسوّغ في أنظارهم، وتملي عدم الاندفاع إلى وضع وثيقةٍ دستورية، والتريّث في هذا الأمر إلى بضعة عقود مقبلة تتحدّد معها حدود دولتهم.
*نشرت في العربي الجديد في 29 تموز / يوليو 2023
Leave a Comment