سياسة مجتمع

عرسال الحدودية تعيش أزماتها بإيقاعها الخاص: الممانعة تستثمر في غياب المستقبل وقوى اليسار

ليلى مروة

بعلبك ـ 31 تموز 2023 ـ بيروت الحرية

غابت عرسال عن وسائل الاعلام منذ سنوات مع هدوء الاحوال وخروج مسلحي النصرة وداعش  السوريين، وكذلك مقاتلي حزب الله من محيطها، بعد عملية فجرالجرود التي نفذها الجيش اللبناني مع كل ما رافقها من ملابسات سياسية معروفة. ومنذ ذلك الحين  يحكم الحيش قبضته على البلدة وجرودها ويتابع الناس فيها حياتهم العادية، رغم أن موقع واقتصاد والحياة  السياسية فيها له بصماته الخاصة التي تجعلها تختلف عن أي مدينة لبنانية ثانية، بما فيها الهرمل القريبة منها، حيث نبع ومجرى نهر العاصي يمثل موقعاً سياحياً جاذباً بما يحويه من منتزهات ومطاعم.

يعتمد اقتصاد المدينة على الارض التي تعود إلى أهلها، ويستثمرونها في الزراعة والرعي والمحاجر أو مقالع الصخر. أما الهجرة منها إلى الخارج أو النزوح في الداخل فهو محدود، ويكاد ينحصر في البيئة البقاعية وبعض أحياء العاصمة. فالزراعة في عرسال تعتبر مصدر العيش الرئيسي وتتراوح بين الأشجار المثمرة ولا سيما المشمش والكرز وزراعة الحبوب البعلية، خصوصاً القمح والشعير والحمص وما شابه من حبوب. وتعتبر هذه الزراعة ذات مردود متدنٍ بالمقارنة مع سواها. فالقمح مثلاً في معظمه يخصص للاستهلاك المنزلي بما هو تأمين مونة الشتاء من الطحين للخبز وصناعة البرغل والكشك. وبالنظر إلى مردودية الارض المحدودة لا تتمتع زراعات الحبوب البعلية بحضور في الدورة التجارية. الكرز والمشمش هو عماد الاقتصاد الزراعي. وتشهد المدينة اهتماماً متصاعداً بهاتين الشجرتين وتتوسع بساتينهما،  كما يتم استصلاح مساحات لزراعة الحبوب.

المورد الثاني في حياة المدينة هو  مقالع الحجر. فالحجر العرسالي معروف لدى اللبنانيين في سائر المناطق. ونظراً لجودته ترتفع أسعاره عن سواه بالنظر إلى نوعيته الممتازة. ويكاد العمل في المقالع يستقطب القوى العاملة الشابة، حتى أن الكثير من الطلاب الذين يتسربون من مراحل التعليم يتجهون نحوها، وليس إلى الهجرة والبحث عن وظيفة أو الدخول في السلك العسكري وغيره. ولا يتعرض العاملون في الزراعة أو المحاجر لمنافسة من اليد العاملة السورية. فبساتين الكرز والمشمش تتواجد في جرود البلدة، وعلى الطرقات إليها حواجز للجيش اللبناني، ما يحول دون قيام العمالة السورية بالوصول إليها. ويبدو العمل في مقالع الصخر وقصْبه بمثابة عمل عائلي يجيده أكثر العرساليين ويتناقلون المهنة بينهم. الكتلة السكانية السورية اللاجئة تعمل في الورش الحرفية والعمالة اليدوية التي لا تتطلب خبرات، وقد أدت كثافتها إلى تخفيض أجور العمال والحرفيين اللبنانيين، باعتبار أن المنافسة قائمة، وإن لم تكن حادة كما في باقي المناطق. ثم إن السوريين افتتحوا محالا تجارية يشتري منها اللبنانيون والسوريون على حد سواء مثلهم مثل المحال التجارية للبنانيين. أما الرعي فيمثل نشاطاً اقتصادياً محدوداً بالنظر إلى كلفة العلف المرتفعة خارج مواسم الرعي. لكن القطاع يظل قائماً ويلبي جزءاً من الحاجات للأجبان والالبان واللحوم.

بالطبع تعاني عرسال وأهاليها مثلهم مثل أبناء المناطق اللبنانية كافة من مضاعفات الانهيار المالي والنقدي وانعدام الخدمات العامة وضآلة إمكانيات البلدية، والحاجة الماسة إلى دعم الأسر المفقرة التي تناضل من أجل تدبير أمورها الحياتية اليومية.

عرسال في الجغرافيا والإنماء

الموقع الجغرافي الحدودي للمدينة مع سوريا، جعلها تتأثر بكل التطورات والأحداث التي حصلت وكانت تحصل فيها، سواء في مرحلة النهوض القومي الذي تمثّل بالوحدة بين سوريا ومصر أو خلال الأحداث التي حصلت منذ مطلع عام ٢٠١١، واندلاع الثورة السورية والى حين خروج المسلحين السوريين وحزب الله من جرودها نتيجة التسوية بين النظام السوري وحلفائه من جهة و بين النصرة و داعش من جهة اخرى، حيث استعادت المدينة الاستقرار، وتراجعت حدّة المشاكل الأمنية مع البلدات والقرى اللبنانية القريبة منها، والواقعة على الطرق التي تربط عرسال بمدينة بعلبك، ممّا عرّض الوضع الأمني والاجتماعي للخطر والانقسام الاهلي – الطائفي بفعل التحريض عليها، نتيجة احتضان أهالي عرسال ودعمهم للثورة السورية والنازحين إليها الذين فاق عددهم الـ ٧٠ ألفاً.

ومن المعروف أن العرساليين انخرطوا في صفوف الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية وقدموا مئات الشهداء والجرحى على مختلف الجبهات في الداخل اللبناني، وفي الصراع مع العدو الصهيوني في الجنوب. ونظرا لدور عرسال الوطني وموقعها الطرفي،عانت من الحرمان من كل حدب وصوب من قبل السلطات السياسية المتعاقبة، حيث انعدمت المشاريع التنموية والخدمات، خلال عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات،لا سيما خلال سنوات الحرب الأهلية.

أما معظم المشاريع التي نفذت فكانت تقوم على مبادرات من الأهالي، مثل توسيع الطرقات، لا سيّما الطريق الرئيسي بين اللبوة والبلدة، إضافة إلى مشاريع جرّ مياه الشفة وبناء بعض المدارس، التي تأمن لها الدعم من الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. كما ساهمت حكومات الحريري بتنفيذ بعض المشاريع منها: ترميم المدارس الرسمية وتوسيع الطرقات ودعم المزارعين. وبمبادرة من الرئيس رفيق الحريري تم تسجيل معظم العائلات المكتومة القيد في سجلات النفوس، وعددها بالالاف. كما تم إنشاء ثانوية جديدة ووضع الحجر الأساس لإقامة مستشفى في البلدة.

كما انصب جهد الرئيس سعد الحريري على حماية عرسال خلال فترة الحصار التي تعرضت لها من المحيط الداخلي والخارجي، ونجحت هذه الجهود في إفشال مساعي بعض أطراف السلطة والقوى الطائفية لجرها إلى الاقتتال الاهلي – الطائفي أو إدخال الجيش في معركة دموية مع أبنائها.

صورة وخريطة القوى السياسية

بعد دخول الجيش إلى عرسال وإحكام السيطرة على المنافذ الحدودية، ساد الأمن في البلدة وفي مخيمات اللاجئين السوريين، وذلك بفضل التفاف ودعم الأهالي للجيش اللبناني، مما ساعد الجمعيات المدنية على تنفيذ برامجها بين اوساط النازحين. ومن المعروف أن هذه الجمعيات ترتبط بمعظمها مع الجهات المانحة الدولية، وميدان عملها الأساسي وسط النازحين السوريين، ويستفيد من بعض خدماتها الاهالي، لاسيما على مستوى الخدمات الطبية.

اما الأحزاب المتواجدة في عرسال والتي كان لبعضها دور ونشاط  بارز ويمكن الحديث عنها فهي على النحو التالي:

ـ تيار المستقبل:  مع بدء تطبيق اتفاق الطائف والتأييد الواسع للرئيس رفيق الحريري في البيئة السنية  احتل تياره السياسي موقعاً أساسياً بين أهالي عرسال. وكان للعراسلة دور بارز في الحضور والمشاركة في كل المناسبات السياسية التي أطلقها التيار منذ اطلاقه، وبعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري،  بقيادة الرئيس سعد الحريري، وصولاً إلى تعليقه العمل السياسي لتيار المستقبل.  ورغم انكفاء  hgتيار عن ممارسة ايّ دور، لكن معظم الناس ما تزال على مواقفها الداعمه له. وقد تجلى ذلك في الانتخابات النيابية الاخيرة، حيث تراجع عدد المقترعين من ٩٠٠٠ مقترع إلى ٦٠٠٠ مقترع تقريباً، نتيجة موقف التيار الداعي إلى عدم المشاركة في محافظة بعلبك/ الهرمل. أما الحديث عن انتهاء التيار في عرسال، فكلام غير دقيق لأنه ما يزال يحتل الموقع الأول بين سائر المكونات السياسية المتواجدة في البلدة.

ـ الجماعة الاسلامية: يعتبر التنظيم الأكثر حضوراً بين التنظيمات الإسلامية، وقد استطاعت عبر أحد أعضائها من احتلال موقع رئيس البلدية الأخيرة، كما كان لها بعض المرشحين في الانتخابات النيابية. لكن لم تستطع الجماعة الإسلامية تكوين تيار سياسي فاعل في عرسال.

ـ جمعية المشاريع الخيرية: لا تمتلك قاعدة شعبية، و تواجدها ضعيف ويغلب عليه الطابع الفردي، لأن العراسلة يعتبرون الأحباش جهازاً حزبياً أمنياً تابعاً للمخابرات السورية وحليفاً لحزب الله.

ـ الأحزاب العلمانية:

  • الحزب الشيوعي اللبناني: كان له قاعدة واسعة في بيئة العراسلة، وقدم الشهداء في المعارك الداخلية وفي الجنوب، وكان له حضور شعبي واسع، لا سيما بين المهندسين والأطباء الذين أوفدهم من خلال المنح التي قدمها إلى الاتحاد السوفياتي ودول الكتلة الاشتراكية وتخرجوا منها يحملون شهادات عليا لكن دور الحزب تراجع وبات محدودا، مع ذلك استطاع ايصال إحدى عضواته إلى مركز نائب رئيس البلدية (ريما كرنبي) بدعم من الشيوعيين السابقين، لكن وضعه الحالي، أقرب إلى الوجود المبدئي، حيث يفتقر إلى الفاعلية والقدرة على التجديد والحضور الجدي.
  • منظمة العمل الشيوعي: تأتي في المرتبة الثانية لجهة القوة التنظيمية والحضور بعد الحزب الشيوعي. وكان حضورها وازناً خلال مرحلة الحركة الوطنية والثورة الفلسطينية، وكان كادر المنظمة يتمتع بالمصداقية في مواقفه وتحالفاته ومبادراته، ما اكسبها سمعة طيبة و احتراماً في اوساط الناس، بالإضافة إلى ممارساتها النضالية، وقدمت المنظمة بدورها شهداء منهم الرفيق علي الفليطي، الذي استشهد في الكحالة، وكان الشهيد الاول في البقاع. وقد شارك في تشييعه وفود من معظم المناطق البقاعية، واستقبل جثمانه في كل قرية من بعلبك الى عرسال بالزغاريد و نثر الورود، و تحولت البلدة إلى محجة للوفود والمعزين، وتراجع دور المنظمة بعد سياسة الانكفاء التي اعتمدتها في مرحلة الوصاية السورية على لبنان. أما الأعضاء المنضوون حالياً  في اطار منظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني بعد هذا التجديد والنقد لفكرها وتجربتها وممارستها، فلا يشكلون على الصعيد الشعبي سوى خميرة ، يمكنهم أن يلعبوا دوراً تأسيسياً في حال نجاحهم في الانحراط في قضايا المدينة وأهلها من المداخل الاجتماعية والمطلبية والنقابية. وهذه مهمة شاقة تتطلب الكثير من المتابعة والصبر.

ـ قوى التغيير: كان للمرشح محمد الحجيري دور بارز بالنسبة لقوى التغيير قبل الانتخابات النيابية، لكن تراجع دوره وحضوره بعد ذلك، بالرغم من أنه حصل على ١٠٠٠ صوت تفضيلي في المدينة، وهو رقم مهم بالنسبة للمرشحين الآخرين، و يُبنى عليه فيما اذا حمل قضية فعلية تستحق أن يناضل من أجلها.

ومن الملفت ان معظم قوى ومجموعات الاعتراض والراغبة في التغيير،لا يجمعها اي رابط، ولا تلتقي حول قضايا المدينة على الأقل في المرحلة الراهنة. وهذا يطرح سؤالاً: لماذا لا تتواصل هذه القوى والمجموعات مع بعضها وتعمل على تشكيل إطار محدد يحمل مهاماً محلية تتعلق بالبلدة ومطالبها الحياتية الملحة .

أحزاب الممانعة

  • حزب البعث العربي الاشتراكي (السوري): استعاد نشاطه بعد انتهاء تواجد المسلحين في الجرود، وعاد إلى عرسال، حيث افتتح أكثر من مركز مستفيداً من التحولات السياسية والعسكرية داخل سوريا ولبنان. ويقوم الحزب بحملة تنسيب للشباب وتزويدهم بالبطاقات لاستخدامها على الحواجز، أو في التنقل من وإلى سوريا، كما يعمل على إطلاق سراح بعض المعتقلين من السجون السورية، بهدف كسب ود الأهالي والقبول به، بعد أن تم طرد أعضائه من عرسال خلال الفترة السابقة.
  • سرايا المقاومة: ينشط حزب الله من خلال سرايا المقاومة برعاية النائب ملحم الحجيري، ويعزز حضوره بالتقديمات التي يدعم فيها أنصاره، كبطاقة سجاد، والمساعدات الطبية والمحروقات، وتزويد الأعضاء بالبطاقات الحزبية وبالسلاح. واستطاع الحزب تحقيق خرق في الجدار العرسالي تمثّل بنسبة الأصوات التي حصل عليها نوابه في الانتخابات الأخيرة، حيث نال ملحم الحجيري حوالي ١٠٠٠ صوت تفضيلي، وحسين الحج حسن حوالي ٦٠٠ صوت تفضيلي، وهذه الأصوات تشارك في جمعها كل من حزب البعث وسرايا المقاومة واقارب ملحم الحجيري. وقد أفاد الحزب وباقي قوى ما يسمى بـ “الممانعة ” من تراجع تيار المستقبل والمنسقية في المنطقة وضعف دور أحزاب اليسار الأخرى.

الوضع الاجتماعي

لا شك أن الوجود السوري الكثيف والاختلاط مع الأهالي، ترك بعض الأثر على الصعيد الاجتماعي، من حيث الزواج والطلاق وتعدد الزوجات، بحيث ازداد عدد الزيجات بين العراسلة والنازحين و كثر الطلاق.

وعلى صعيد دور المرأة شهدت عرسال تحركات نسائية عديدة قبل الأزمة السورية، من خلال وجود تنظيمات نسوية كالتجمع النسائي الديمقراطي ولجنة حقوق المرأة. ولكن مع تراجع دور اليسار اللبناني توقف  تقريباً نشاط هذه الجمعيات.

الا ان عرسال تشهد نمواً وحضوراً للمراة من خلال الاقبال على القطاع التعليمي في  المدارس والجامعات والانخراط في سوق العمل، وظهور فئة متعلمة من طبيبات ومهندسات ومعلمات وانخراط في الجمعيات. وجملة هذه التحولات التي تجري في مجتمع محافظ تبشر لاحقا بدور فاعل للمراة في عرسال. ولعل وجود امرأة في بلدية عرسال نائبة للرئيس (ريما كرنبي) هو خير دليل على مكانة المرأة ودورها المرشح للتصاعد، خصوصاً مع ملاحظة إقبالها على التعليم خلاف الذكور الذين يتجهون نحو العمل في المحاجر والحرف بعد أن يتسربوا من المدارس.

العمران في عرسال

شهدت عرسال خلال السنوات الماضية حركة عمران واسعة، حيث توسعت رقعتها العمرانية والجغرافية في كل الاتجاهات، حتى أصبحت المخيمات جزءاً من الأحياء الجديدة، وتداخلت معها، والسبب في ذلك رخص اليد العاملة السورية والخبرة في التعامل مع الحجر.

ولعل العامل الثاني يتعلق بالنزوح السوري وما حمله من توسيع الحركة التجارية، بحيث تم استحداث اسواق جديدة ومهن جديدة لم تكن عرسال تعرفها سابقا. وقد شهدت البلدة توسعا ونمواً للمطاعم ومحال الحلويات والافران، إضافة إلى محلات الأقمشة والاحذية، ومعظم محتوياتها مستوردة من الداخل السوري. بهذا المعنى كان للنزوح السوري  أثر إيجابي على الصعيد الاقتصادي والعمراني.

علماً أن اليد العاملة السورية لم تكن في موقع المنافسة مع العمالة اللبنانية لأن قطاع المرامل و الكسارات والأراضي الزراعية تعمل فيها الأسر العرسالية، وأصحابها ليسوا بحاجة إلى اليد العاملة السورية، لأن معظم العاملين فيها هم من الأسرة والأقارب لأصحابها ومالكيها، ونادرا ما تستخدم العمالة السورية لان ميدان عملها الفعلي في البناء.

تبقى قضية الموقوفين من شباب عرسال وهم بالعشرات دون محاكمة  في السجون اللبنانية بذريعة الإرهاب، وهذه قضية تستحق التوقف امامها والعمل من أجل إنهائها عبر محاكمتهم واطلاق سراحهم بما يعيدهم إلى ذويهم ومجتمعهم.

Leave a Comment