بول طبر
عندما نقارب موضوع الطبقة والعلاقة بين الطبقات، تواجهنا مسألة أساسية وهي الوعي المتعلق بالموقع الطبقي، أكان وعياً فردياً أم جماعياً. وعندما نتفحص هذا الوعي، نجد أنه متنوع ومتناقض في بعض الأحيان، منه ما يتقبل ويشرِّع الموقع الذي يحتله الفرد والجماعة، رغم كونه موقعاً يجيز الإستغلال والتحكم بصاحبه، ومنه ما يكتفي صاحبه بمطالب تتعلق بمستوى الأجور وشروط العمل التي يخضع لها، كساعات العمل في اليوم الواحد، وسلامة العمال والعطل والإجازات المرضية إلخ. نجد أيضاً أن هذا الوعي قد يصنِّف التعاطي مع كل ما يتعلق بالموقع الطبقي في درجة متدنية في سلم الأولويات التي يهتم بها صاحب هذا التصنيف، كمن يقول مثلاً إن الإهتمام بالموقع السياسي لطائفتي هو الأجدى والأهم قياساً مع الأجر والأمور المعيشية القاسية التي أختبرها. هذا إلى جانب عدم الإكتراث عند البعض الآخر بمسألة العلاقة بين المصلحة الطبقية والقضايا المطروحة، كموقع الطائفة في الدولة والسلطة التي تمتلكها، إلخ.
إن دلَّ هذا التحليل على شيء، فهو يدل على أن الموقع الطبقي كواقع موضوعي لا يفرز بالضرورة وحتماً وعياً مطابقاً له، وكذلك لا يدفع بالفرد ليعي بوضوح علاقة هذا الواقع بالمواقع غير الطبقية التي قد يحتلها الفرد مع غيره من أفراد المجتمع، كالموقع في السلطة السياسية والمكانة الإجتماعية المرافقة للمواقع الإجتماعية والثقافية والسياسية.
وعليه فإن فهم الواقع الإجتماعي المركَّب والمتداخل يتطلب امتلاك القدرة على التمييز، أي الفصل وإعادة الوصل، بين مختلف المستويات والنُظم التي يتكوَّن منها المجتمع اللبناني (أو أي مجتمع آخر)، والإبتعاد عن المنهج الإختزالي في تفسير هذا الواقع، على سبيل المثال، إختزال المشكلة في لبنان بعوامل ذاتية ، كفقدان الوعي والثقافة المتخلِّفة (أي النزعة الثقافوية)، أو إختزال مختلف أنواع المشاكل بمشكلة النظام الإقتصادي الرأسمالي القائم على الإستغلال وتقديس مبدأ الربحية في النشاط الإقتصادي (أي النزعة الإقتصادوية)، أو غياب “المستبد العادل” أو دولة القانون والنظام السياسي العادل (النزعة السياسوية).
المطلوب إذن هو أولاً، الإقرار بأن المجتمع في لبنان، كما في البلدان الأخرى في عصرنا الراهن، هو مجتمع مركَّب من بُنى وعلاقات وممارسات، ولكل بنْية بمفردها آلية عمل ومصالح ورهانات خاصة بها (مثلاً بنية الدولة والسياسة وبنية الطوائف والبنية الإقتصادية وما تشمله من علاقات الملكية والعمل المأجور، وما إلى ذلك). وبناءً على ذلك، فإن أي عمل يهدف إلى تغيير المجتمع يتوقف على فهم خصوصية كل بنية بمفردها، ومن ثمَّ فهم علاقة التنافس بين المتحكمين في مجال كل بنية (مثلاً تنافس رجال الحكم والسياسيين في بنية الدولة والعمل السياسي عموماً مع مالكي الثروة ووسائل الإنتاج في المجال الإقتصادي، إلخ.) لتحقيق السيطرة وزيادة نفوذهم في المجتمع عموماً. وفي خضم هذا الصراع، يسعى المتحكمون والمتنفذون في أي بنية من بُنى المجتمع لإخضاع نظائرهم في البنى الأخرى لخدمة مصالحهم (أنظر مثلاً الصراع بين زعماء الطوائف من جهة، ومالكي الثروة ووسائل الإنتاج في المشهد اللبناني، من جهة ثانية. بالطبع، لا يعني ذلك غياب الإندماج أو التعاون فيما بينهم أحياناً أخرى).
بكلام آخر، فإن تعدد المصالح والقوى التي تمثلها تفرز ضحاياها لأسباب مختلفة ومتمايزة (سياسية واجتماعية واقتصادية ولاعتبارات لها علاقة بالمكانة الإجتماعية، إلخ.)، الأمر الذي يستدعي انتاج خطاب سياسي يأخذ هذا الواقع بعين الإعتبار، ولا ينزلق نحو تجاهل أو اختزال المشاكل التي تعاني منها فئات واسعة من أبناء المجتمع تحت عناوين أوسرديات أحادية تتصف بأنها إما إقتصادوية أو سياسوية أو ثقافوية. إن الإقرار بالتنوع والتفاعل في الوقت نفسه بين مكونات المجتمع، أكان تفاعلاً نزاعياً أم أنه يقوم على التعاضد والتكافل، يشكل أساساً متيناً لإنتاج خطاب سياسي يحمل في طياته مشروعاً تغييريأً فعلياً للمجتمع. وكما أن النزاع والتعاضد يمكن أن يحدث بين الفئات المتنفذة والمسيطرة في كل بنية (أو حقل بلغة بورديو) من البُنى التي يتشكل منها المجتمع اللبناني، كذلك يمكن لذلك أن يحدث بين الفئات المحكومة والمُسْتَغَّلة المنخرطة في تلك البنى.
ختاماً، الكلام السابق هو مثال واضح على مدى ارتباط التحليل العلمي للواقع بانتاج الخطاب السياسي الكفيل بارشاد مسار التغيير الفعلي للنظام القائم. فمن دون الفهم العلمي للواقع الملموس، والعمل على نشره بين أصحاب المواقع المستغَّلة والخاضعة لمالكي الثروة والنفوذ السياسي والوجاهة الإجتماعية، يستحيل إنتاج لا الوعي المطابق لمن يحتل هذه المواقع، ولا الخطاب السياسي المعبِّر عن مصالحهم في تغييرهذا الواقع نحو الأفضل.
Leave a Comment