ثقافة صحف وآراء

ضفاف عيسى مخلوف: واسعة ومتنوعة ومٌلهمة

مها حسن*

من الأشياء الجميلة التي تجعلني أمتن لفرنسا أنني التقيت فيها أشخاصًا مختلفين ما كان لي أن ألتقيهم لو بقيت في سورية. من بين هؤلاء الشاعر والمترجم والصحافي والكاتب عيسى مخلوف، فهو بمثابة هدية باريس لي.

هذا النموذج النادر للمثقف يعيدنا إلى زمن الفروسية الثقافية: جيل بسام حجار، إيتيل عدنان، عبد الفتاح كيليطو، الطاهر بن جلون…

حين يكافئك الحظ فتجلس مع عيسى مخلوف، عليك أن تُنصت، فهذا الرجل التقى بورخيس، وفوكو، ورولان بارت، وإيف بونفوا، وفيليب جاكوتيه، وجمال الدين بن شيخ، ودومنيك إده، وأدونيس، وصلاح ستيتية، وألبرتو مورافيا، ومحمود درويش، وأوكتافيو باث، وأنسي الحاج، وكثيرين غيرهم… يمتلك مخزونًا معرفيًا من الثقافة الأكاديمية، حيث اشتغل على نفسه باكرًا، منذ مغادرته شابًا يافعًا بيروت، ثم سفره إلى فنزويلا، ودراسته الأنثربولوجيا الاجتماعية والثقافية في جامعة السوربون في باريس، وحضوره كثير من المحاضرات، في عصر فرنسا الذهبي الآفل، في كوليج دو فرانس…

في كتاب “ضفاف أخرى”، الذي قام علي محمد خضير بإعداده، نصادف حوارات مطولة مع عيسى مخلوف، عبر سنوات طويلة، بدأت في عام 2018، حين كان خضير يضع اللمسات الأخيرة لكتاب بسام حجار “الأعمال الشعرية الكاملة”، الذي صدر نهاية العام ذاته عن دار الرافدين، ومنشورات تكوين. عيسى، وبسام، صديقان جمعتهما الحياة والكتابة والهمّ الإنساني المشترك، وجمعهما أيضًا الانكفاء عن الأضواء، ونبذ الاشتباك الدعائي، وكلاهما يمثّل، مع قلة من الآخرين، حداثة أخرى في نسيج التجربة الشعرية العربية، إلى الآن لم يُسبَر غورها بما تستحق من عناية نقدية، منحت حداثة الشكل الشعري أفقًا متفردًا يستفيد من تواشج الكتابة الأخرى، حيث تلتمع اللغة الشعرية والسرد والسيرة والتأمل والتحقيق الأدبي والتراث في سماء واحدة… (ص 12).

ينقسم الكتاب إلى فصول، تليه ثلاثة ملاحق مهمة: نصوص ومقالات لعيسى مخلوف لها صلة بما جاء في الحوار على امتداد هذا الكتاب، ثم رسائل ووقفات “أمجد ناصر، بسام حجار، نبيل الأظن، عباس بيضون، إلياس حنّا، وديع سعادة، أدونيس… مع صور هذه الرسائل بخط يد أصحابها، أما الملحق الثالث فيحتوي على أعمال فنية واكبت قصائد ونصوصًا أدبية لعيسى مخلوف، وتجسدت في رسوم ولوحات: لبنى الأمير، أسادور، جورج البهجوري، آدم حنين، كوليت دوبليه، وغيرهم..

تكمن أهمية هذا الكتاب، كما قال عنه علي محمود خضير في نهاية كلمة الغلاف: ليس هذا الحوار حياة عيسى مخلوف فحسب، بل هو، على نحو ما، حياتنا جميعًا.

تعدّد الأمكنة

من بيروت، في سن التاسعة عشرة، غادر عيسى هاربًا من جحيم الحرب، لينطلق صوب العالم. لكن تلك السنوات التي كبر فيها عيسى في بيروت أسّست لعالمه الفني القادم، وصنعت خياله، حيث: أمضيتُ سنوات الطفولة في مدرسة راهبات المحبة (اللّعازاريّة) في زغرتا، ثم انتقلتُ، في السادسة من عمري، إلى مدرسة “الفرير” (التابعة للإرساليات الفرنسية) في مدينة طرابلس (ص29).

بدأ عيسى بالكتابة والنشر في بيروت، حين كان أنسي الحاج يشرف على ملحق النهار الثقافي، وهذا ما شجع عيسى على الكتابة. في تلك المدينة، بيروت، أسّس مخلوف مع بعض الأصدقاء تجمّعًا صغيرًا باسم “حلقة الفن والأدب”، ومن هذا التجمع صدرت مجلة “تحولات”، التي ساهم في صوغها الشاعر جورج يمين، وسمير الدويهي. وكذلك نظّم هؤلاء الأصدقاء سلسلة نشاطات ثقافية: ندوات وأمسيات ولقاءات.

كانت بيروت غنية بالحراك الثقافي والفني: أعمال الرحابنة وفيروز التي كانت تُعرض على خشبة مسرح “البيكاديلي”، وعروض سينمائية، وسجالات فكرية، ومجلات أدبية: مواقف، شعر، الآداب.

بعد بيروت، وبسبب الهجرة، وانطلاقًا من حادثة “عين الرمانة”، حيث كان عيسى في بيته في زغرتا، وسمع بالمجزرة، بدأ التحضير لمغادرة البلد، إذ دفعته العائلة إلى اتخاذ ذلك القرار: قال لي والدي، كأنني أسمع صوته الآن: “اذهب بضعة أسابيع ريثما تنتهي المعارك”. سافرتُ واستمرت الحرب خمس عشرة سنة” (ص43).

وصل عيسى إلى فنزويلا، ثم حدث التحول الأكبر، حين جاء إلى باريس لمتابعة دراسته، وفتحت له باريس أبواب اللقاء بأشخاص كان يقرأ لهم، ويسمع بهم، من دون أن يتخيل أنه سوف يجلس ويتحدث معهم، حيث اللقاء الأهم، من وجهة نظري الشخصية، مع بورخيس.في نيويورك، أيضًا، أمضى عيسى تجربة مهمة، حين عمل في منظمة الأمم المتحدة كمستشار للشؤون الثقافية، وخصص الكتاب فصلًا جميلًا عن هذا المكان، وهذه التجربة الملهمة.

تنوع الأشخاص وتعدّد الجنسيات والمنابع المعرفية

في باريس، شارك عيسى في تأسيس المجلة الشعرية الفرنسية “كونفلويانس بويتيك”، التي صدر منها أعداد، وجمعت شعراء من جنسيات مختلفة: ميشيل دوغي، جاك درّاس، أندريه فيليتر، بيار أوستر، جان ميشيل مولبوا، ليونيل راي، أدونيس، عبد اللطيف اللعبي، عباس بيضون، بول شاوول، بسام حجار، وديع سعادة، وكثيرون غيرهم.

في باريس، التقى عيسى كثيرًا من المشتغلين في الوسط الفني: الفنان التشكيلي اللبناني شفيق عبود، والمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، والكاتبة الفرنسية إيلين سيكسو، والشاعر اللبناني باللغة الفرنسية جورج شحادة، والمفكر الجزائري محمد أركون، والشاعر المغربي باللغة الفرنسية عبد اللطيف اللعبي، وعازف البيانو اللبناني عبد الرحمن الباشا، والكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا، والفنان التشكيلي اللبناني أسادور، والشاعر الفلسطيني محمود درويش، والشاعرة والفنانة التشكيلية إيتيل عدنان، والشاعر اللبناني باللغة الفرنسية صلاح ستيتيّة، والشاعر والباحث الأكاديمي الجزائري جمال الدين بن شيخ، والشاعر الفرنسي إيف بونفوا.

يُفرد المحاور صفحات تفصيلية لكل لقاء جمع بين عيسى وهذه الشخصيات المذكورة، ليظهر أثر المكان في توسيع دائرة احتمالات مصادفة أشخاص من بلدان وجنسيات عدة يحملون الهاجس المعرفي والفكري والإنساني ذاته، ليحقق مقولة مهمة في هذا الكتاب: الانطلاق من التجربة الشخصية لعيسى مخلوف، ومن همّه الفردي، إلى الشأن العام: يبدأ بحياته ليسافر منها إلى حياة الجميع (ص19).

حدائق متنوعة ومتشعبة من دون نهاية

من يقرأ هذا الكتاب لن يستطيع التخلص منه بسهولة. فهو يدوّن بطريقة ما لحقبة زمنية طويلة، تمتد على مساحة جغرافية متنوعة. قراءة هذا الكتاب بالنسبة لي، ووفق تجربتي الشخصية، تشبه أن تدخل حديقة مرتّبة، لكنها في الوقت نفسه تحتفظ بروح الغابة التلقائية. أي رغم الهندسة والتصميم والدقة، هنالك جولات مباغتة، واكتشافات فردية لكل قارئ وفق مذاقه الخاص ومزاجه الشخصي وميوله الأدبية.

في الكتاب إشباع لمحبي تتّبع قصص الآخرين، ولمحبي الترجمة، ولمحبي الأدب الخالص، ولمحبي الحراك الثقافي، ولمحبي الحوارات والنقاشات… كتاب غني جدًا، يشعر أحدنا بضرورة امتلاكه قربه، ليعود إليه من حين إلى آخر.

أعتقد أن هذا الكتاب هو من نوع الكتب التي يصعب تصنيفها، حتى وإن كُتب على الغلاف: حوار وتقديم. لكنه في الداخل يحاول الإحاطة بتجربة غنية لشخص متعدّد المواهب، فهو شاعر قبل كل شيء، ثم محاور وصحافي، ثم مترجم، ثم باحث… والأهم من كل ذلك هو هذه الشعلة من الشغف المعرفي، وملاحقة الهمّ الفكري والنقدي والتحليلي والإنساني الذي لا يكف عن التفكير والكتابة والتأمل والحلم… كل هذا بلغة هادئة بعيدة عن الاستعراض وفرض التواجد… بأناقة مثقف يعيش في عصر آخر غير هذا العصر.

كتاب “عيسى مخلوف: ضفاف أخرى” لا يمكن أن نفيَه حقّه في مقال واحد، حيث تتوالد التأويلات في كل قراءة له.

*نشر في العربي الجديد في  23 تموز / يوليه 2023

Leave a Comment