ياسر هلال*
3 تموز 2023
… زف معالي وزير الطاقة اللبناني الخبر الذي تنتظره صناعة النفط العالمية، بتمديد مهلة تقديم الطلبات لدورة التراخيص الثانية في المياه البحرية حتى مطلع أكتوبر المقبل. ومع أنه لم يكشف عن سبب عدم تقدم أي شركة للمشاركة في هذه الدورة رغم التمديد المتكرر منذ إطلاقها في العام 2019. لكنه “كشف” عن “وجود أمور لا يمكنه الكشف عنها، تبشّر بالخير”.
وتداركاً لمواصلة كبار المسؤولين التهرب من مواجهة الأسباب الحقيقة، فإن الأمور التي لا يمكن كشفها هي “كلام شفهي” من قبل شركة توتال بأنها “قد” تكون مهتمة، بالبلوكين 8 و 10، إذ أثبت الحفر في البلوك 9 وجود كميات تجارية.
وذلك يقود مباشرة إلى تناول الأسباب الحقيقة لامتناع الشركات. وهي وجود نزاعات حدودية على 6 من أصل 8 بلوكات معروضة للتلزيم، مع سوريا وإسرائيل وقبرص يضاف إليها تركيا لأن البلوكات المحاذية للمياه اللبنانية هي منطقة نزاع بينها وبين قبرص. ومعروف ان الشركات الدولية لا تعمل في مناطق نزاعات. ونشير إلى أن البلوكين 8 و 10 هما موضع نزاع مع قبرص وإسرائيل. كما ان البلوكات 1 و2 و 3 و 5 هي موضع نزاع مع سوريا وقبرص (راجع الرسم).
يضاف إلى ذلك سبب لا يقل أهمية، وهو انعدام ثقة الدول والشركات بالمنظومة السياسية والإدارية المسؤولة عن ملف النفط والترسيم. ( هل يعرف أي لبناني من يدير هذا الملف؟!!!).
أما الحقائق والمسؤوليات التي يتهرب من مواجهتها كبار المسؤولين وليس وزير الطاقة فقط، والتي تهدد بوأد الثروة النفطية في مهدها؛ فتتمثل في أن ترسيم الحدود مع قبرص وسوريا يشكل معضلة جيوسياسية لا تقل تعقيداً عن ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. وإذا كان الترسيم مع إسرائيل، قد تم في لحظة تقاطع معطيات ومتغيرات متعددة ومتشابكة، أطلق عليها الوزير ياسين جابر تعبير “اصطفاف كواكب”. فإن الترسيم مع سوريا وقبرص يتطلب اصطفافاً للكواكب، أكثر انتظاماً وأطول مدة، مع إضافة كوكبين جديدين هما الروسي والتركي.
الترسيم مع قبرص
بدون مبالغة، يمكن اعتبار الترسيم مع قبرص الأكثر تعقيداً. وقد يكون أصعب بكثير من الترسيم مع إسرائيل. لأنه يرتبط بالمسألة القبرصية وتقسيم الجزيرة إلى شطرين أو دولتين. ما يعني ان جوهر المشكلة باتت مع تركيا وليس مع قبرص فقط. ومع أن جمهورية شمال قبرص لا تعترف بها أي دولة باستثناء تركيا. إلا أن الوضع القائم في المنطقة الاقتصادية الخالصة القبرصية، يتسم بقدر كبير التعقيد القانوني والجيوسياسي وربما العسكري. لأن البلوكات المحاذية للحدود اللبنانية هي موضع نزاع بين تركيا وجمهورية قبرص التركية مع «قبرص الرومية» كما يطلق عليها الأتراك. ويأتي هذا النزاع في سياق حرب شاملة تخوضها تركيا منذ سنوات طويلة لاستعادة ما تعتبره البحر التركي الذي حرمت منه لحوالي 100 عام بموجب اتفاقية لوزان 1923، وسيطرة اليونان على جزر بحر إيجه. (راجع الرسم).
وقد أعدت تركيا الميادين السياسية والقانونية والعسكرية لهذه الحرب. حيث سجلت اعتراضها على قيام جمهورية قبرص بترسيم حدود منطقتها الاقتصادية الخالصة «من دون التشاور والتفاوض مع تركيا بإعتبارها شريكاً لا يمكن تجاهله» كما أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان. وقامت تركيا في العام 2011 بترسيم حدود منطقتها الاقتصادية وجرفها القاري من جانب واحد مقتطعة مساحات شاسعة من مياه قبرص واليونان. ما جعل هذه المناطق من ناحية قانونية وبحكم الأمر الواقع مناطق نزاع. وحصنت ذلك بتاريخ 21 سبتمبر 2011 بإبرام اتفاقية مع جمهورية قبرص التركية لتحديد الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة بينهما. وحرص الرئيس أردوغان على توقيع الاتفاقية بنفسه مع رئيس جمهورية شمال قبرص التركية على هامش اجتماعات الأمم المتحدة لإضفاء “طابع قانوني دولي” عليها. وأعقب ذلك توقيع اتفاقية للتنقيب عن النفط والغاز (تقاسم إنتاج) في 2 نوفمبر 2011، بين قبرص التركية وشركة البترول التركية.
حماية الاتفاقية بالقوة العسكرية
لأن الاتفاقيات مع جمهورية شمال قبرص، تنقصها القوة القانونية بسبب وضعها الملتبس، فقد اندفعت تركيا إلى استخدام قوتها السياسية والعسكرية لحماية هذه الاتفاقيات. ولمنع جمهورية قبرص من القيام بعمليات استكشاف وانتاج في المناطق المتنازع عليها. وجاءت أخطر التطورات على لسان الرئيس أردوغان بتاريخ 20 أغسطس 2019 في ذكرى احتلال شمال قبرص، بقوله: «الجيش التركي لن يتردد في تكرار الخطوة دفاعاً عن حقوق وأمن القبارصة الأتراك، ومن يعتقد أن جزيرة قبرص وثروات المنطقة تابعة له فقط فسيواجه حزم تركيا». وتمت ترجمة هذه التهديدات بأعمال عسكرية مباشرة، كان أخطرها قيام البحرية التركية في فبراير 2018، بمنع سفينة الحفر «سايبيم» التابعة لشركة «إيني» الإيطالية من مباشرة عمليات الحفر في البلوك رقم 3 المحاذي للحدود اللبنانية. وأرسلت تركيا سفن المسح الزلزالي والحفر لتعمل في مختلف البلوكات المتنازع عليها.
ويبقى التطور الأبرز هو تبني مختلف القوى السياسية التركية “استراتيجية الوطن الأزرق” التي تستهدف زيادة مساحة المياه البحرية التركية إلى حوالي 462 ألف كلم2، وتكرس المنظور التركي لترسيم المناطق الاقتصادية الخالصة في شرق المتوسط . (راجع الرسم). وأعاد الرئيس أردوغان التأكيد على تمسكه بهذه الاستراتيجية في خطاب تنصيبه رئيساً للجمهورية مؤخراً، بقوله “سندافع عن حقوقنا وحقوق إخواننا وأخواتنا في الوطن الأزرق بشكل أقوى”. وأضاف “لن نطأطئ الرأس للعربدة في جرفنا القاري بشرق المتوسط، ولن نخطو أي خطوة للوراء. تركيا على حق وفق قانون البحار والاتفاقيات المعمول بها، وستدافع عن هذا الحق بكل ما تملك”.
المياه البحرية التركية تبعاً لاستراتيجية الوطن الأزرق
خيارات مرة أمام لبنان
هذا الوضع الذي يعرفه جيداً كبار المسؤولين اللبنانيين ويتجاهلونه، يضع لبنان أمام خيارين أحلاهما مر.
الأول: إبرام اتفاقية ترسيم الحدود مع جمهورية قبرص، والمخاطرة باستعداء تركيا. بما يحمله ذلك من تداعيات سياسية وطائفية داخلية خطيرة. وتداعيات أكثر خطورة تتعلق بالتحالفات الإقليمية والدور المركزي لتركيا. ولمن يستهسل هذه المشكلة، يجدر التذكير بأن مصر بكل قوتها ونفوذها الإقليمي،
المياه البحرية التركية تبعأ للترسيم اليوناني والقبرص
تعمدت عند توقيع اتفاقية ترسيم حدودها مع اليونان في أغسطس 2020، ترك مساحة كبيرة تطالب بها تركيا بدون ترسيم، رغم حالة العداء والقطيعة بين الدولتين في ذلك الوقت. كما يجدر التذكير بأن ذلك هو السبب في عدم مصادقة لبنان على مسودة اتفاقية ترسيم الحدود مع قبرص الموقعة عام 2007. وهو أيضاً السبب في عدم استجابة الحكومة الحالية لمطالبة قبرص بإحياء مفاوضات ترسيم الحدود، بعد توقيع اتفاقية الترسيم مع إسرائيل. ولذلك اكتفى الرئيس ميقاتي خلال زيارته الخاطفة إلى قبرص مؤخرا، بتهئنة الرئيس القبرصي، وتأكيد الاهتمام بقضية الترسيم، وقد صطحب وفداً وزارياً موسعاً للإيحاء بجدية هذا الاهتمام، دون أن تكون واضحة “الأبعاد السياسية والنفطية” ليضم الوفد وزراء البيئة والزراعة والسياحة والصناعة، ومدى علاقتهم بترسيم الحدود.
الثاني: الدخول في مفاوضات شاقة مع تركيا لتمرير الاتفاقية مع لبنان. وهو أمر يستدعي تضافر عاملين رئيسيين الأول يتعلق بالأوضاع الجيوسياسية في المنطقة. أي وجود تقاطع بين مواقف ومصالح القوى الكبرى وخاصة أميركا والاتحاد الأوروبي. والقوى الإقليمية مثل سوريا ومصر والسعودية وقطر ودولة الإمارات إضافة إلى إسرائيل وروسيا. وهو ما يبرر استخدام مصطلح «اصطفاف كواكب». والعامل الثاني هو وجود تقاطع مواقف ومصالح بين القوى السياسية اللبنانية. وتوافر توافق وطني عريض على مقاربة هذا الملف.
من يفاوض .. وعلى ماذا ؟
وعند هذا الحد، لا يستقيم أي حديث عن مفاوضات لترسيم الحدود البحرية مع الأشقاء والأصدقاء والأعداء، قبل إجراء مفاوضات جدية بين أركان الحكم او الأصح بين القوى السياسية لتحديد مسألتين هما: من يفاوض… وعلى ماذا يفاوض. وذلك بهدف تجنب تكرار الأخطاء والخطايا التي أرتكبت في ملف ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة والمفاوضات مع إسرائيل حيث تبارى كبار المسؤولين في “رسم ومحو” الخطوط من 1 إلى 29.
وليتم قبل كل شيء الاتفاق على الجهة المخولة بالتفاوض. وربما حان الوقت لتشكيل هيئة وطنية عليا برئاسة رئيس الجمهورية المخول دستورياً إبرام الاتفاقيات الدولية. وتضم في عضويتها الجهات الحكومية المعنية (مع مراعاة الانتماءات الطائفية والحزبية والسياسية طبعاً). مع تفويض الجيش اللبناني حصراً برسم الخطوط باعتباره الجهة المؤهلة والمنزهة. وليتولى المستوى السياسي مسؤولية اتخاذ القرار بتقديم التنازلات المطلوبة.
وإلى أن يتم ذلك، ربما يكون الأجدى إلغاء دورة التراخيص الثانية، بدل التمديد المتكرر وانتظار “الأمور التي تبشر بالخير”.
*نشر المقال على موقع “طاقة الشرق” تاريخ 3 تموز 2023
http://لبنان: ترسيم الحدود البحرية أسير النزاع التركي القبرصي
Leave a Comment