مالك سمارة*
لا يمكن حسم أي مواجهة كبرى من دون جبهة داخلية قوية. لم تهزم ألمانيا في الحرب العالمية الأولى من نقص عتاد أو عزيمة، وإنما في لحظة ضربت فيها الإضرابات والاحتجاجات ضد الحرب البلاد، بمواكبة بروباغندا إعلامية بريطانية قوية كانت تبشّر الألمان بعهد ليبرالي جديد. ولم ينتصر الاتحاد السوفييتي، في الحرب العالمية الثانية، إلا لأن كل طاقاته البشرية تجنّدت للحرب، ولأن ربات البيوت كنّ يحتضرن في المصانع الحربية. لكن اليوم، وفي لحظة بدأ فيها الروس يتنفسون الصعداء ويتأهبون لاستثمار تعثّر الهجوم الأوكراني المضاد، اتخذت الحرب منعطفًا لم يكن في بال المخططين الاستراتيجيين الروس، وانفتحت جبهة جديدة في عقر الديار؛ وصار بإمكان الأوكرانيين، كما قال نائب وزير الدفاع الروسي أونوس بيك أوفكوروف اليوم، أن يقرعوا زجاجات الشامبانيا في كييف.
لماذا إذًا، بعد كل تلك “الانتصارات” التي سطّرتها مليشيا “فاغنر” في الميدان، عادت لتضع بلادها في موقف الهزيمة؟ وهل نحن أمام أول انقلاب عسكري في تاريخ روسيا بصفتها وريثة الاتحاد السوفييتي؟ وما الذي يحرّك زعيمها يفغيني بريغوجين، الذي لا تعوزه الفطنة ربّما لإدراك أن هذه لحظة مفصلية في تاريخ بلاده؟ هل هو الطموح الشخصي؟ الصراع مع قائد الجيش (تصحيح وزير الدفاع) سيرغي شويغو؟ أم أن للغرب يدًا في كل ذلك؟
الشرارة الأولى.. هل قصف الجيش مواقع “فاغنر” حقّاً؟
بدأ بريغوجين تمرّده بإعلان مفاجئ عن قصف تعرّضت له الخطوط الخلفية لمليشياته، وعن خسائر كبيرة في الأرواح. لكن هذا استدعى ردًّا نادرًا من وزارة الدفاع الروسية -التي تجنّبت حتّى وقت قريب الدخول في أي مساجلة كلامية معه- نافية بشكل قاطع حدوث مثل هذا الأمر، ومتهمة بريغوجين بـ”الاستفزاز الإعلامي”. العديد من المعلّقين العسكريين تقاطعوا في تعليقاتهم مع ما ذهبت إليه وزارة الدفاع، وأشهرهم يوري بودولياكا، الذي قال إنه “حسب المعلومات المتوفّرة، لم يطلق أحد النار على أحد”. مصدر آخر ذهب إلى القول، في حديث لصحيفة “ميدوزا” الروسية، إن “بريغوجين فقد عقله، ويطلق تصريحات لا يمكن لشخص نظامي أن يفكر فيها”.
في ظلّ غموض المعطيات الأولى، يمكن البحث عن مسبّبات أخرى قد لا يجد بريغوجين أمامها بدًّا من حمل السلاح ضد الجيش، وآخرها كان هذا الشهر فقط. فقبل نحو أسبوعين، وبعدما انسحبت “فاغنر” من الجبهة تاركة باخموت للقوات الشيشانية، أصدرت وزارة الدفاع قرارًا مفاجئًا يقضي بإدراج كافة المجموعات غير النظامية ضمن مرتباتها، ما يعني عمليًّا أن بريغوجين ومقاتليه سيصبحان تحت إمرة خصمه الأوّل، شويغو. رفض بريغوجين الامتثال للقرار بحجّة أن شويغو “غير مؤهل لقيادة قوات في الميدان”، ثمّ كرر الرفض حتى في وجه القائد الأعلى، وعرّابه الأول، الرئيس فلاديمير بوتين، بعدما تدخّل هذا الأخير ليؤيد فرمان وزارة الدفاع.
لكن تحت طائلة الرفض، كانت ثمّة تبعات مهمّة. هذا القرار التنظيمي جعل انضواء المجموعات المسلّحة الطريق الوحيد لضمان أمرين حيويين لاستمراريتها: تزويدها بالذخيرة، وإرساء وضعها القانوني. بمعنى آخر، كان بريغوجين وجنوده تحت طائلة قطع إمدادات السلاح، ومن ثم استنزاف المليشيا تمامًا، وكذلك أن تجد نفسها، في أية لحظة، جماعة مسلّحة “خارجة عن القانون”، ما يجعل تفكيكها، وربّما ملاحقة عناصرها، حتى زعيمهم، قرارًا مؤجلًا في انتظار اللحظة المناسبة.
كان الموعد النهائي الذي حدده قرار “التأميم” الصادر عن وزارة الدفاع هو الأول من يوليو/تموز المقبل؛ أسبوعٌ بالتمام قبل التمرّد الذي أشعله بريغوجين.
ضدّ شويغو.. أم ضدّ بوتين.. أم ضد الحرب؟
حتى في أشطّ نزواته الكلامية، حرص بريغوجين على تركيز انتقاداته في دائرة وزير الدفاع ومعاونيه، لكن رغم ذلك، انفلتت منه بعض اللمزات للرئيس الروسي، وإن لم يأت على ذكره بالاسم. ففي مايو/أيار الماضي، غمز بريغوجين من قناة بوتين حين قال: “الجد السعيد كان مقتنعا بأن الغزو الروسي لأوكرانيا سينتهي بنصر محقق لموسكو؛ إذا تبين أنه على حق، فليبارك الله الجميع. لكن ما الذي ينبغي أن تفعله الدولة إذا اتضح أن هذا الجد أحمق تمامًا؟”.
كانت هذه أقرب إشارة من لسان زعيم “فاغنر” السليط إلى بوتين، رغم أنه، كما نفهم من صولاته الكلامية، لا يحبّذ لغة التلميح. لكن يمكن القول إن في كثير من تصريحات بريغوجين تعريضًا مباشرًا ببوتين، وتسفيهًا لإدارته وقراراته أمام الروس. ففي الشهر الماضي أيضًا، أفصح زعيم “فاغنر” عما يخشى أي روسي، حتى من ألدّ المعارضين للكرملين، الإفصاح عنه، حينما شكك في جدوى قرار الحرب من أساسه، وألمح إلى عبثيته. ظهر بريغوجين حينها في مقابلة مع إحدى قنوات “تليغرام” المقرّبة من مليشيا “فاغنر” متسائلًا: “دخلنا الحرب بحجة نزع سلاح الأوكرانيين، والآن أوكرانيا لديها أحد أقوى الجيوش في العالم؛ دخلنا الحرب بحجة العصبوية الأوكرانية، والآن الأوكرانيون يشعرون بأوكرانيتهم أكثر من أي وقت مضى، وقد صارت بلادهم معروفة على الخريطة.. ألم يكن الأجدر بنا أن نذهب ونرشو البعض في كييف؟”.
لكن هذا الخيط الدقيق، الذي حافظ عليه بريغوجين مع صديقه القديم بوتين، انقطع الآن تمامًا، بعدما خرج اليوم وسمّاه بالاسم، وقال إنه “أخطأ” حينما اتهمه بالتمرّد، متوعّدًا بالقتال دون استسلام. حاصل الأمر أن الصراع وصل الآن، بدرجة كبيرة، إلى نقطة اللاعودة، لأن الذهاب بعيدًا حدّ تحدي رأس النظام وحاميته العسكرية يعني القتال من أجل البقاء على قيد الحياة بالدرجة الأولى، وهكذا، حتى وإن سوّي الأمر مؤقتًا، لا يمكن لبريغوجين أن يعيش مطمئنًّا للكرملين بعد هذه اللحظة، ولا العكس.
ماذا عن الطموح الشخصي؟
لا يحبّ السلطويّون الرجال الأقوياء، لذا فقد يبحثون عن الأدنى منزلة ليكبروا تحت جناح الطاعة المطلقة. ومن هؤلاء صنفان: أولئك الذين يدينون لوليّهم حدّ التبعية، ويحملون عنه صنائعه القذرة (وقد كان هذا الدور المرسوم لفاغنر وزعيمها)، وأولئك الذين يعتدّون بالقوة والنفوذ ويطلبون المزيد. يمكن القول إن بريغوجين من هذا الصنف. بلغ الرجل من القوة والتسليح، والانتشار عبر الخريطة، من أفريقيا حتى أميركا الجنوبية، ما لم يعد يرضى عنده بدور التابع، وقد منحته حرب أوكرانيا، والهشاشة التي أحدثتها في الجبهة الداخلية، والإخفاقات في الميدان للجيش الروسي، ثم الانتصارات التي حققتها “فاغنر” في المقابل، فرصة ليظهر في ثوب الزعامة.
رغم ذلك، ظلّ سلوك بريغوجين مثار سؤال حتى للمتابعين والمحللين في الغرب، ماذا يمكن أن تكون نواياه حقًّا؟ ومن أين يستمدّ كل تلك الجرأة؟ تذهب المؤسسة الأميركية لدراسة الحرب، على سبيل المثال، إلى استنتاج مفاده أن بريغوجين يتطلّع لدور قيادي في مستقبل ما بعد الحرب، وأن تصريحاته موجّهة لعموم الروس، وكثير منهم يكتم اليأس والسخط على أداء جيشه وقيادته.
هذا السعي المحموم وراء صورة “البطل” ظهر، في أوضح صوره، في مناوشة افتعلها مع رئيس الشيشان رمضان قديروف، وهو منافس رئيسيّ له في النجاحات الميدانية. أعلن قديروف، في وقت سابق هذا الشهر، أن كتائبه المسمّاة على اسم أبيه “أحمد”، التي يعدّها لتعمل عمل “فاغنر” في المستقبل”، ستنتشر في إقليم دونباس لتمسك بالمناطق المحررة هناك. ورغم أن ذلك الإقليم بعيد عن نشاط “فاغنر” الميداني، فقد خرج زعيمها ليطعن في إعلان قديروف، ويقلل من قدرات “كتائب أحمد”؛ ما استتبع سجالًا كلاميًّا وصل إلى حد التلويح بحرب الشيشان. حدث هذا بعد أيام من تسليم باخموت للقوات الشيشانية، الذي لم تكن قد مضت عليه ساعات أصلًا، حتى خرج بريغوجين ليعيّرها باستعادة القوات الأوكرانية السيطرة على بعض المناطق هناك. حينما أطلق بريغوجين نكتة “الجد السعيد” الشهيرة، كان يسأل بشكل واضح عمّا سيحلّ ببوتين بعد الحرب في حالة الإخفاق. اليوم، مع الساعات الأولى للتمرد، كانت القنوات القريبة من “فاغنر” تنشر على “تليغرام” بشكل واضح: “سيكون هناك رئيس جديد لروسيا”.
هل الغرب بريء مما يحدث؟
مع بداية التعثّرات الروسية في أوكرانيا، حينما كانت الحملة مركّزة على كييف، بدأت بعض التقارير الغربية تطرح فرضية الانقلاب على بوتين، إن عبر الخط المتشدد في الجيش، الذي سيمضي بالحرب إلى حدودها القصوى، أو أولئك المتنفذين الخاسرين منها، الذين يريدون استباق لحظة التداعي الشامل، ويتمثّلون في طبقة الأوليغارش الأثرياء بالأساس. عادت هذه الفرضيات لتطفو على السطح بقوّة مع الهجوم الأوكراني المضاد الأوّل، والذي انكفأت فيه القوات الروسية أمام الزحف السريع لنظيرتها الأوكرانية، وفي خضمّه بدأ بريغوجين يظهر تحت دائرة الضوء.
وبمعزل عمّا إذا كانت هذه مجرّد سيناريوهات تطرح عرضًا، أو أحاييل ضمن حرب الدعاية، فقد صدرت أيضًا عن شخصيّات وجهات وازنة. مسؤول ملف روسيا السابق في “سي آي إيه”، دانيال هوفمان، أثار هذه الفرضية أيضًا، وقال إن ذلك سيحدث “سرًّا”، وسمّى وزير الدفاع الحالي، شويغو، كأحد “المتآمرين” والخلفاء المحتملين لبوتين. كاتب الخطابات السابق لهذا الأخير، عباس غاليموف، ردّد هذا الاحتمال كثيرًا في خرجاته الإعلامية.
أبعد من ذلك، لوّحت المخابرات الأوكرانية بهذا السيناريو في مارس/آذار الماضي، حينما أشارت إلى أن “انقلابًا يجرى تدبيره” في روسيا: “ضمن النخبة الاقتصادية والسياسية الروسية، تظهر مجموعة من الأشخاص المؤثرين المعارضين لفلاديمير بوتين؛ هدفهم هو إطاحته في أقرب وقت ممكن واستعادة العلاقات الاقتصادية مع الغرب التي دمرت نتيجة الحرب”. بعد ذلك بنحو شهرين، خرج رئيس الاستخبارات الأوكرانية، الجنرال كيريلو بوندانوف، ليؤكّد في مقابلة مع “سكاي نيوز” أنّ “الانقلاب ضدّ بوتين من المستحيل إيقافه”: “إنه في الطريق، العملية أطلقت بالفعل، وستفضي في النهاية إلى تغيير في قيادة الاتحاد الروسي”. وفي فبراير/شباط العام الفائت، عيّنت وثيقة استخبارية أميركية، ضمن الأوراق التي سرّبت لاحقًا عبر “ديسكورد”، مقتل بوتين كأحد السيناريوهات المحتملة لإنهاء الحرب.
لكن تلك التسريبات كشفت عمّا هو أهم: اتصال قائد “فاغنر” بالقوات الأوكرانية بعرض لـ”الخيانة”. اقترح بريغوجين على الاستخبارات الأوكرانية سحب جنودها من منطقة باخموت، حيث تقاتل مليشياته، مقابل إبلاغها بمواقع القوات الروسية. دافع الكرملين، في حينها، عن “طباخ بوتين”، ووصم الصحف الأجنبية –التي نشرت مضمون الوثائق- بالكذب.
لكن أوكرانيا، ومن ورائها الغرب، برهنت على مخاتلة كبيرة في إدارة “الحرب الرمادية” ضدّ روسيا، أي حرب الاستخبارات والدسائس والضرب في الخفاء. كان الروس أنفسهم، في الواقع، التهديد الأخطر الذي واجهته الدولة الروسية خلال الحرب. ثمّة فيلقان من المقاتلين الروس، يعملان بشكل مموّه مع القوات الأوكرانية، يقاتلان الآن بشكل يومي في عمق الأراضي الروسية؛ وثمّة عملاء روس آخرون، كما كشفت “سي أن أن”، يحرّكون هجمات الطائرات المسيّرة من داخل أراضي بلادهم، والكرملين في عين الهدف. قد تمسّ الخسارات الميدانية في أوكرانيا، في أسوأ الأحوال، بسمعة الدولة الروسية، وقد تستنزف مقدّراتها؛ لكن لن تفككها من الداخل، دولة ومنظومة وجبهة داخلية، كما قد يفعل هؤلاء.
زيادة على ذلك، فإن ما يؤشر إلى أن ما يحدث ربّما يكون أبعد بكثير من فورة لزعيم مليشيا طائش، هو السؤال عن الاستمرارية: كيف ستدير “فاغنر” حربًا ضد دولة هي في الأساس من كان يموّلها ويذخّرها؟ ومن أين ستأتي بالسلاح الآن؟ كل هذا العتاد، الذي يصل إلى الطائرات المروحية والمضادات الجوية، يحتاج إلى ممول بحجم دولة. وفي الأثناء، تتوالى التصريحات من عواصم الغرب، ومن كييف أيضًا، بأنها “تتابع ما يحدث عن كثب”. الآن، بعد أشهر من الشكوى من نقص الذخيرة، ربما يجد بريغوجين من يحلّ له هذه المشكلة.
الوحش الذي عض صاحبه
وُلدت “فاغنر” باستلهام من “بلاك ووتر” والسمعة الدامية التي سطّرتها في حرب العراق. يبدو أن زعيم الكرملين استأنس شركة عسكرية تكون بمثابة “واجهة تغطية” لمصالح الدولة الخفيّة، وتعيد تدوير السجناء وأصحاب السوابق في أعمالها القذرة. لم تكن لـ”فاغنر” صفة قانونية في روسيا، وكان مرتزقتها، تقنيًّا، خارجين عن القانون، لكنها كانت تدير مصالح روسيا على امتداد 3 قارات.
في خضمّ سجاله مع قائد الجيش، خرج بريغوجين لـ”يفضح”، عن قصد أو غير قصد، أدوار “فاغنر” والمهام الموكلة إليها من الدولة الروسية. كان الزعيم المتمرّد يطرح، في مقطع مصوّر على “تليغرام”، شروط عصابته للانضمام إلى وزارة الدفاع، ثمّ أخذ يعدد المهام التي “ستواصل” المليشيا تأديتها ضمن التزاماتها للدولة الروسية، وهكذا ذكر، من ضمن أمور أخرى، “إجراء عمليات خاصة لمصلحة الدولة على أراضي الدول الأخرى.. قلب أنظمة وحكومات البلدان لصالح البلاد”.
الآن، بعد سنوات من العبث ببلدان بعيدة، والاستثمار في نزاعاتها، ونهب مقدّراتها، من سورية إلى ليبيا فالسودان، على بوتين أن يواجه انقلابًا آخر داخل الديار، بالوحش الذي كبر على عينه.
*نشرت في العربي الجديد في 24 حزيران / يونيو 2023
Leave a Comment