فارس يواكيم*
بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ. تنشر “العربي الجديد” كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم.
لا تكفي أصابع اليدين العشرة لعدّ المجالات الموسيقية المختلفة التي خاضها الياس الرحباني. كما لا تكفي لإحصاء عدد المطربات والمطربين الذين أنشدوا ألحانه. جَمَعَ سائر المواهب الممكنة، ورحل عن دنيانا وحيداً في أوج انتشار جائحة كورونا، وحال ذلك الوباء دون مشاركة أهل الفن والجمهور الغفير في تشييع الفنان الذي أحبّوه وأعجبتهم ألحانه وموسيقاه واستظرفوا شخصيته وحضوره البهيج، وهؤلاء أجمعوا على التعبير عن مشاعر الحزن على غيابه.
في مجال الموسيقى تواجد الياس الرحباني في كل الفروع: ملحن، وموزّع موسيقى، وقائد أوركسترا، ومؤلف موسيقى تصويرية، ومؤلف مقطوعات موسيقية، وعازف، وناظم كلمات أغان، ومؤلف مسرحيات غنائية، وملحن وناظم كلمات إعلانات، ومخرج إذاعي، ومنشئ استوديو لتسجيل الموسيقى… وعضو لجان تحكيم فنيّة!
ولد في أنطلياس سنة 1938 ونشأ في بيت موسيقي. في طفولته سمع ألحان أخويه الكبيرين عاصي ومنصور الرحباني، وأراد أن يسلك الدرب ذاته. وأتيحت له فرصة الدراسة في الأكاديمية اللبنانية وفي المعهد الوطني للموسيقى، مع دروس خصوصية من أستاذ فرنسي.
في العشرين من عمره تعاقد مع هيئة الإذاعة البريطانية BBC لتلحين أغان وبرامج موسيقية، وكان ذلك أول عمل رسمي مدفوع الأجر. ثم التحق بالإذاعة اللبنانية سنة 1962 وبدأ عمله فيها عازفا على الأكورديون في فرقة الإذاعة الموسيقية، ثم أصبح مخرج البرامج الغنائية، واستقال بعد عشر سنوات وتفرّغ لإبداعه الموسيقي. وفي أروقة الإذاعة في تلك الفترة عرفتُ الياس الرحباني، ومع الأيام تطوّرت المعرفة إلى صداقة، ثم سنحت الظروف لأتعاون معه في أعمال مشتركة.
وكما كان منتظرا، انضم الياس الرحباني إلى أخويه عاصي ومنصور. بدأ عازفاً على الأكورديون في الفرقة الموسيقية في المسرحية الغنائية “بياع الخواتم” (وهو يجيد العزف على البيانو أيضا). ثم كُلّف التوزيع الموسيقي لأغنية “ليل ليل ضوّي يا ليل” في مسرحية “جبال الصوان” (1969)، ومن بعد حلّ ضيفاً في كل مسرحية، ملحّنًا لأغنية على الأقل. وبرضا الطرفين ظل محتفظاً باسمه، وتُنسَب إليه ألحانه، فيما عاصي ومنصور يوقّعان الأعمال بالاسم المشترك “الأخوين رحباني”. وحين أصيب عاصي الرحباني سنة 1972 بالنزيف في الدماغ، لم يتمكن من مواصلة المشاركة في إبداع مسرحية “المحطة” وكان قد بدأ المشوار فيها، فاستعان منصور بأخيه الياس، فشارك في غير لحن ووضع موسيقى افتتاحية المسرحية.
حتى بعد وفاة عاصي الرحباني حرص منصور، الذي أصبح مبدع المسرحيات الرحبانية منفردًا، على استضافة الياس مشاركاً بلحن واحد أو باثنين. على سبيل المثال: في مسرحية “أبو الطيب المتنبي” لحن قصيدة رثاء المتنبي لجدته “أحنّ إلى الكأس التي شربتْ بها” وأغنية “على بابك يا صفيّة”. وفي مسرحية “ملوك الطوائف” لحن أغنية “لا جاي تعشق ولا جاي تغار” التي أنشدها غسان صليبا.
في البداية، قبل التعاون مع أخويه، حين احترف الياس الرحباني الموسيقى، قدّم أول لحن لمطرب معروف، هو نصري شمس الدين في أغنية “ما أحلاها”. ثم اجتمعا في أعمال مشتركة: في مسرحيات الأخوين رحباني، ومن أشهر ألحانه فيها التي أدّاها نصري شمس الدين “يا مارق ع الطواحين” كما في المسرحيات التي كتبها ولحنها الياس الرحباني بمفرده، وشارك في بطولتها نصري شمس الدين، ومن أبرز أغانيه فيها “لما شفتها عشقتها”
ومن البداهة القول إن ألحان الياس الرحباني التي غنتها فيروز هي الأبرز في أعماله، والأوسع انتشاراً. أول أغنية لحّنها للمطربة الكبيرة، هي “بليل وأوضة منسية”. وتبقى في ذاكرة عشاق الموسيقى وأغاني فيروز باقةٌ من الأنغام الجميلة: “طير الوروار”، و”كان عنّا طاحون”، و”كنا نتلاقى من عشيّة”، و”لا تجي اليوم”، و”خلص الزرع”، و”جينا الدار”، و”حنا السكران”، والأخيرة غنّاها ملحم بركات فيما بعد.
ولالياس الرحباني ألحان غنّتها أصوات مختلفة، مثل “بيني وبينك يا هالليل” وقد غنتها جورجيت صايغ وهدى حداد. وكانت صباح في مسيرتها الغنائية المطربة التي غنّت ما يزيد عن ستين لحناً من وضع الياس الرحباني، أشهرها: “كيف حالك يا أسمر”، و”شفته بالقناطر”، و”وعدوني ونطروني”، و”مجدك باقي”، و”يا حبيب القلب حبيتك”، و”رقصني هيك” و”يا سارق مني مكاتيبي”. وفي مسرحية “الفنون جنون” كلّفته المطربة صباح إعداد أغنية قصيرة تؤديها في ختام المسرحية لتحية الجمهور، فابتكر أغنية طريفة كتبها ولحّنها وأدّتها صباح، جمع فيها أسماء الذين شاركوا في المسرحية، مع شكر الجمهور.
ومن أبرز الألحان التي خصّ بها وديع الصافي: “قتلوني عيونها السود”، و”يا قمر الدار”، و”طاير قلبي صوبك” و” زهّر يا صيف”. وتطول القائمة التي سُجّلت فيها أسماء اللواتي والذين غنّوا ألحانه. ولكثرة هذه الأسماء يُخَيّل للمرء أنه أهدى ألحانا للجميع. سأتذكّر أغنية واحدة من أغاني المطربات والمطربين وسأكتفي بها كمثال لألحان الياس الرحباني بمختلف الحناجر: “لا يسمعنا حدا” (هدى حداد)، و”يا ناسيني” (جورجيت صايغ)، و”يا حبيبي دوبني الهوا” (ملحم بركات)، و”لاقيني عشية”(عصام رجي)، و”عم بحلمك يا لبنان” (ماجدة الرومي، وكانت من أولى أغانيها)، و”حِبّ يا قلبي” (هاني شاكر)، و”ضووا الليل” (جوليا بطرس)، و”بتذكّر يا أمي” (راغب علامة)، و”خدني يا حبيبي” (مادونا)، و”لوين بدي سافر” (جوزيف ناصيف)، و”يا حلوة يا ست الدار” (مروان محفوظ)، و”لو فيّي” (إليسّا)، و”ما تتعب دخلك” (نوال الزغبي) و”بدّي عيش” (هيفاء وهبي). كما طرق الياس الرحباني باب الأغاني الفكاهية الشعبية مثل “برّات البيت عامل لي عنتر” التي غنّتها فريال كريم.
كان الياس الرحباني غزير العطاء. ومن الطبيعي ألا تكون ألحانه جميعها بالقدر ذاته من الإبداع الجميل. في الباقة السابقة التي عرضتها، روائع وأغان جميلة، وأغان عادية. بيد أن جميعها يتميّز بالحد الأدنى من جودة الصنعة، وبالبساطة التي تجعلها تعبر بيسر إلى آذان الجمهور، ويسهل على عامة الناس تردادها، الأمر الذي يجعل لها شعبية ملحوظة.
لم يكتف بالأغاني اللبنانية، بل عبر الحدود إلى فضاء الأغنيات الأجنبية. وهو الذي أطلق سامي كلارك الذي اشتهر بأداء أغان بالإنكليزية والفرنسية. واسمه الحقيقي سامي حبيقة، وقد نصح له الياس الرحباني أن يتخذ اسماً فنياً سهل النطق باللغات الأجنبية. ومن ألحانه له أغنية “موري موري” Mory Mory التي نالت الجائزة الأولى في مهرجان روستوك بألمانيا، وأغنية Take Me With You. وقدّم له ألحانا لأغان لبنانية مثل “آه على ها الإيام”. وحاز الياس الرحباني جائزة أثينا عن أغنية La Guerre Est Finie وهذه أدّاها إيمانويل (الأرمني اللبناني) غنى أيضا بالفرنسية Allah Que Je T’aime.
وفي مجال الموسيقى التصويرية ألّف الياس الرحباني افتتاحيات في مسرحيات للأخوين رحباني، تارة افتتاحية الفصل الأول، وتارة مقدمة الفصل الثاني الموسيقية، في “المحطة” و”ميس الريم” و”بترا”، فضلاً عن المسرحيات الغنائية التي كتبها ووضع ألحانها بمفرده. وفي “بترا” كتب موسيقى “لوحة رحيل القوافل” و”يا نجمة ليلية”، وألحان أغنيات مشتركة مثل “يا بنيّة صغيرة” التي غناها نصري شمس الدين مع المجموعة، أو “بعدا القناديل سهرانة” وأدّاها نصري شمس الدين أيضا مع هدى.
ولشارات المسلسلات التلفزيونية ذكريات مع الياس الرحباني واضع موسيقاها. منها المسلسلات اللبنانية مثل “ديالا” و”حياتي” و”عازف الليل” و”لا تقولي وداعا” و”حكاية أمل”.. كما المقدمة الموسيقية للمسلسل السعودي “القصر” والمسلسل السوري “جواهر”.
وبعد قيامه بوضع الموسيقى التصويرية لأفلام لبنانية، ألّف موسيقى الفيلم السوري “الشريدان” الذي أخرجه رضا ميسر في لبنان سنة 1965، وكان من بطولة دريد لحام ونهاد قلعي. وانتبه إليه منتجو الأفلام المصرية، وأيقنوا أن موسيقاه تضيف إلى الفيلم ورقة رابحة. سنة 1973 أخبرني المنتج المصري الشهير رمسيس نجيب، وباعتزاز، أنه تعاقد مع الياس الرحباني لتأليف موسيقى فيلم “دمي ودموعي وابتسامتي” الذي أخرجه حسين كمال، ومثّلت أدوار البطولة فيه نجلاء فتحي ونور الشريف. وفي السنة التالية كلّفه المخرج بركات تأليف موسيقى فيلمين: “حبيبتي” (فاتن حمامة ومحمود ياسين) و”أجمل أيام حياتي” (نجلاء فتحي وحسين فهمي). وتبع المخرج حسن الإمام خطى زملائه فاستعان بموسيقى الياس الرحباني في فيلم “هذا أحبه، هذا أريده” (نورا وهاني شاكر).
فضلا عن حلوله ضيفا في مسرحيات أخويه، كتب الياس الرحباني ولحن مسرحيات غنائية منفردا، مثل “أيام الصيف”: غناء وتمثيل وديع الصافي ونصري شمس الدين وجورجيت صايغ وملحم بركات ومروان محفوظ. ومسرحية “وادي شمسين” من بطولة صباح، قُدمت سنة 1983 لكن توقف عرضها بسبب الحروب الناشبة، وأعيد إنتاجها بعد سنتين وكانت من بطولة باسكال صقر التي غنّت أغاني صباح. ومسرحية “سفرة الأحلام” بطولة مادونا.
وله مساهمات موسيقية في “مسرح شوشو” للكبار كما للأطفال الصغار. في هذا الموقع كنت وثيق الصلة به كوني مؤلف مسرحيات الكبار ومعظم مسرحيات الأطفال. لن ينسى الناس “شحادين يا بلدنا” أغنية مسرحية “آخ يا بلدنا” من بطولة نجم الكوميديا الرائع شوشو ومن إخراج روجيه عساف. وفي هذه المسرحية غنّى شوشو أيضاً مع الفرقة “شوشو معلمنا شوشو” وأغنية “إيه إيه يا تفاحة”. وكل هذه الأغاني هي من كلمات ميشال طعمة كمثل سائر الأغنيات الأخرى التي لحنها الياس الرحباني لمسرح شوشو. في مسرحية “خيمة كراكوز” أغنية “علي بابا”، وفي مسرحية “الدنيا دولاب” أغنيتان أدّتهما الممثلة المصرية نيللي، إحداهما “نعنع بلدي”. وكان الياس يحب أن يشترك بالغناء مع الكورس، وفي “شحادين يا بلدنا” أدّى بصوته “ضمايرنا للبيع” و”مين بدو يشتري مين”.
كما لحّن جميع أغاني مسرحيات الأطفال التي قدمها شوشو، وأبرزها “ألف بي بوباية” و”إنغا أبّا أبّا” و”نانا الحلوة نانا”. (ما عدا أغنيتين لحنهما عصام رجي). وفي سنة 1976 لحن عدة أغانٍ أداها ولداه غسان وجاد الرحباني، ومنها “كلن عندن سيارات” و”عمي بو مسعود” و”في عنّا شجرة” و”عينك يا ماما” و”يللا نعمر” و”طِلِع الضو ع الواوي”.
وفي مجال الإعلانات، كانت له إنجازات. كان يكتبها ويلحنها. ودائماً بلحن يحفظه الناس، وبكلمات طريفة سهلة يرددونها. وعن بعض الإعلانات نال عنها جوائز دولية: شهادة السينما في المهرجان الدولي للفيلم الإعلاني سنة 1977 في البندقية، والجائزة الثانية في مهرجان لندن الدولي للإعلان سنة 1995.
ولا يفوتني أن أذكر أنه كان عضو لجنة تحكيم في برامج تلفزيونية، منها “ستار أكاديمي” و”سوبر ستار”. وفيها تميّز بالنقد التوضيحي وبالروح المرحة. كما أذكر استوديو التسجيلات الموسيقية الذي أنشأه، وساهم فيه ولداه غسان وجاد في هندسة الصوت.
أتعبته الحروب المتتالية ببلده الحبيب لبنان، وأتيحت له فرص العمل في عدة بلدان، لكنه آثر البقاء حيث مسقط رأسه. كنتُ عندما ألتقيه أسمع عبارات النقد المرير والحسرة على الأوضاع المتردية، النقد الحافل بالسخرية اللاذعة وسرعة الخاطر. عاش ثلاثة وثمانين عاماً، لم يتعب خلالها من العمل. بيد أن رواسب الحروب، وقساوة المرض في أواخر الأيام، أرهقته نفسيّا وجسديا، ولم يعد عودُه يتحمّل، فانقطع الوتر في اليوم الرابع من سنة 2021.
*نشرت في العربي الجديد في 10 نيسان/ ابريل 2023
Leave a Comment