المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات*
تسبّبت مساعي حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لإجراء تعديلات واسعة على النظام القضائي الإسرائيلي، في خلاف علني نادر مع الولايات المتحدة، حيث دخلت إدارة الرئيس جو بايدن على خط الأزمة، مطالبةً بدايةً بتحقيق قدر من التوافق على التعديلات المقترحة، قبل أن تدعو صراحة إلى التخلي عن الخطة برمّتها. وعلى الرغم من إعلان نتنياهو تأجيل النظر في القوانين المقترحة التي أثارت احتجاجات واسعة في إسرائيل، وهو الأمر الذي رحّبت به واشنطن، فإن تأكيد إدارة بايدن لموقفها الداعي إلى التخلي كلياً عن التعديلات في مقابل تمسّك نتنياهو بها ينذر بمزيد من التوتر بين الطرفين.
أولاً: الموقف الأميركي
بذلت إدارة بايدن، منذ مطلع عام 2023، محاولاتٍ لثني نتنياهو عن المضي قُدماً فيما يسمّيه خطة “الإصلاح القضائي”، جاءت بداية على شكل نصائح خاصة في اجتماعات مع المسؤولين الإسرائيليين، ثم تلميحات ضمنية كانت توجّهها من حين إلى آخر، قبل أن تنتقل إلى العلن في مرحلة لاحقة مع إصرار نتنياهو على المضي في خطته. وفي أواخر كانون الثاني/ يناير 2023، وخلال مؤتمر صحافي مشترك في القدس، أعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، موقفاً يتضمن نقداً لنتنياهو حين قال إن علاقة البلدين قائمة على التزام مشترك بـ”المبادئ والمؤسسات الديمقراطية الأساسية”. ومع تصاعد الاحتجاجات الشعبية وانتقال الجدل إلى داخل المؤسستين العسكرية والأمنية الإسرائيليتين، تدخّل الرئيس بايدن شخصياً في اتصالٍ مع نتنياهو في 19 آذار/ مارس. وعلى الرغم من “كلمات بايدن الحازمة” بشأن ضرورة “متابعة التغييرات الأساسية (للنظام القضائي) بأوسع قاعدة ممكنة من الدعم الشعبي”، فإن نتنياهو اختار تجاهلها. ولم تجد تحذيراتُ عددٍ من قادة اليهود الأميركيين من تداعيات سياسة نتنياهو على الوضع الداخلي الإسرائيلي وعلى العلاقة التحالفية مع الولايات المتحدة لدى نتنياهو آذانًا صاغية.
وتسبّب قرار نتنياهو إقالة وزير الدفاع يوآف غالانت، أواخر آذار/ مارس، بعد أن دعا إلى تعليق التشريعات المتعلقة بالتعديلات القضائية لأنها “أحدثت خلافاً داخلياً يمثّل تهديداً واضحاً وفورياً للأمن القومي الإسرائيلي”، في أزمة كبيرة في العلاقات بالبيت الأبيض. وكما يبدو، خشيت إدارة بايدن أن يؤدي طرد غالانت إلى إخراج الشخص الذي في مقدورها التحاور معه داخل حكومة نتنياهو في سياق وجود وزراء متطرفين، مثل وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي دعا مؤخراً إلى محو قرية حوارة الفلسطينية في الضفة الغربية. وقد عقّب مجلس الأمن القومي الأميركي على إقالة غالانت بالقول: “إننا نشعر بقلق عميق إزاء التطورات الجارية في إسرائيل، بما في ذلك تأثيرها المحتمل في الجاهزية العسكرية التي أشار إليها الوزير غالانت، ما يؤكد الحاجة الملحّة إلى التوصل إلى حل وسط”.
وعلى الرغم من اضطرار نتنياهو، تحت وطأة الضغوط الداخلية والخارجية، إلى الإعلان، في 27 آذار/ مارس، عن تأجيل النظر في خطة التعديلات إلى ما بعد عطلة عيد الفصح في الكنيست في نيسان/ أبريل، “لإعطاء فرصة حقيقية لإجراء نقاش حقيقي”، فإن ذلك لم يُوقف الاحتجاجات في الشارع الإسرائيلي، ولم يُرضِ إدارة بايدن التي استخدمت نبرة أكثر حدة في مطالبتها الحكومة الإسرائيلية بالتخلي كلياً عن هذا المسار. وذهب بايدن أبعد من ذلك عندما أعلن أنه لن يوجّه دعوة إلى نتنياهو لزيارة البيت الأبيض “في المدى القريب”، مناقضاً السفير الأميركي لدى إسرائيل، توم نايدز، الذي كان قد عبّر عن تفاؤله باحتمال دعوة نتنياهو لزيارة البيت الأبيض قريباً بعد دخوله في محادثات تسوية حول التعديلات القضائية.
ثانياً: الرد الإسرائيلي
جاء رد حكومة نتنياهو على الموقف الأميركي من خطة الإصلاح القضائي شديداً، إذ كتب نتنياهو على حسابه على “تويتر”: “إسرائيل دولة ذات سيادة، تتخذ قراراتها بإرادة شعبها وليس بناءً على ضغوط من الخارج، بما في ذلك من أفضل الأصدقاء”. لكن مسؤولين إسرائيليين آخرين كانوا أقل دبلوماسية، فقد انتقد بن غفير بايدن وإدارتَه قائلاً إن عليهم “أن يفهموا أن إسرائيل دولة مستقلة، وليست نجمة أخرى في علم الولايات المتحدة”. أما نائب رئيس الكنيست، نسيم فاتوري، وهو نائب عن حزب الليكود، فزعم أن الأميركيين مسؤولون عن مقتل جنود إسرائيليين بسبب حظر أسلحة مزعوم فُرض على إسرائيل خلال حرب 2014 (عندما كان بايدن نائباً للرئيس في إدارة باراك أوباما) مع فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة. في حين اتّهم مقربون من نتنياهو إدارة بايدن بتمويل الاحتجاجات ضد حكومته. ومع تزايد التوتر في علاقة نتنياهو وحكومته بالإدارة الأميركية، خاصة بعد اتّهام المعارضة الإسرائيلية له بالإضرار بالعلاقة مع “الحليف” الأميركي، سارع نتنياهو إلى محاولة احتواء الموقف، وأعلن أنه “من حين إلى آخر، كانت هناك خلافات بين إسرائيل والولايات المتحدة، لكنني أريد أن أؤكد لكم أن التحالف بين أعظم ديمقراطية في العالم […] وإسرائيل لا يتزعزع”. وحرص نتنياهو على أن ينوّه، في خطابه عبر الأقمار الصناعية أمام “قمة الديمقراطية” التي استضافتها الخارجية الأميركية في 29 آذار/ مارس، بأن بايدن “صديقه منذ 40 عاماً”. وعموماً، يواجه نتنياهو وضعاً صعباً، إذ يسعى من ناحية للحفاظ على العلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة، لكنه يحاول في الوقت نفسه أن يبدو قوياً أمام ائتلافه اليميني الهشّ في مواجهة الضغوط الأميركية.
ثالثاً: خلفيات الموقف الأميركي
وإضافةً إلى الصراع عموماً بين الشعبوية التي تتخذ أشكالاً شوفينية إثنية من جهة، والليبرالية من جهة أخرى، داخل المعسكر الأميركي، ومن ضمنه إسرائيل، يمكن فهم موقف إدارة بايدن من خطة الإصلاح القضائي لحكومة نتنياهو انطلاقاً من أربعة محددات، هي: 1. الموقف من نتنياهو وائتلافه اليميني المتطرف، 2. موقف اليهود الأميركيين من الحكومة الإسرائيلية ومخاوفهم من الانقسام المجتمعي في إسرائيل، 3. التحولات الجارية في الحزب الديمقراطي نحو إسرائيل، 4. الاتساق مع موقف إدارة بايدن الرافض لمحاولة دونالد ترامب الانقلاب على النظام الدستوري الأميركي. وفيما يلي تفصيل لهذه المحددات.
1. موقف إدارة بايدن من نتنياهو وحكومته
في ظل تاريخ من التوتر بين نتنياهو والحزب الديمقراطي الأميركي، لم يكن خافياً أن إدارة بايدن لم تحبّذ عودة نتنياهو إلى رئاسة الوزراء في إسرائيل بعد انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر 2022. وقد برز التوتر خصوصاً بين الطرفين في عهد إدارة أوباما (2009-2017)، حين كان بايدن نائباً للرئيس، حول قضايا مثل الاتفاق النووي الإيراني وتوسيع الاستيطان، إلى درجة تجميد عملية السلام مع الفلسطينيين، وتدخّل نتنياهو في الخلافات الحزبية الأميركية، ومخاطبته الكونغرس الأميركي من دون موافقة أوباما. وفي عهد ترامب (2017-2021)، لم يُخفِ نتنياهو انحيازه إليه، وهو أمر انتقده بايدن شخصياً. وقد كافأه ترامب على موقفه هذا بالاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، والاعتراف، أيضاً، بسيادتها على مرتفعات الجولان السورية المحتلة، وبذل جهوداً للتطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية بمعزل عن حل القضية الفلسطينية. وقد وصف بايدن نتنياهو خلال حملته الرئاسية بأنه “زعيم يميني متطرف”، وأن وجوده “غير مفيد”، ولم يبادر إلى الاتصال به إلا بعد نحو شهر من تسلّمه الرئاسة. ويرى مسؤولون في إدارة بايدن أن نتنياهو سعى منذ وصول بايدن إلى الرئاسة إلى إحراجه من خلال مُضيه في بناء المستوطنات اليهودية وتوسيعها في الضفة الغربية، واستمرار الاعتداءات في القدس الشرقية التي قادت إلى عدوان واسع على قطاع غزة في أيار/ مايو 2021، لم يتوقف إلّا بعد تدخّل شخصي من الرئيس الأميركي. وعندما سقطت حكومة نتنياهو في حزيران/ يونيو 2021، لم يتأخر بايدن في الاتصال برئيس الوزراء الجديد نفتالي بينيت، مهنئاً إياه خلال ساعتين فقط من أدائه اليمين الدستورية، ولم يمضِ شهر ونصف الشهر على تولّيه منصبه حتى التقى الرئيس الأميركي في البيت الأبيض. أما نتنياهو، فلم يحظَ بدعوة من البيت الأبيض منذ تولّيه رئاسة الحكومة.
ومع تشكيل نتنياهو، أواخر 2022، حكومته السادسة من أحزاب قومية ودينية متطرفة، تبنّت إدارة بايدن قاعدة مفادها أنها لن تتعامل مع الوزراء المتطرفين فيها، أمثال بن غفير وسموتريتش، بل إنها ستعتبر نتنياهو مسؤولاً عن أفعالهم. ويبدو، بحسب مصادر أميركية، أنه، أول مرة منذ 75 عاماً، تكاد تكون الثقة معدومة بين واشنطن والحكومة الإسرائيلية، وتُساور إدارة بايدن الشكوك في أن نتنياهو هو صاحب القرار في الحكومة الإسرائيلية، وأن لديه القدرة على السيطرة على ائتلافه. وفوق ذلك، تثير علاقات نتنياهو ببوتين وتجنّبه اتخاذ موقفٍ من العدوان الروسي على أوكرانيا حنق الولايات المتحدة التي تسعى، كما يدّعي البيت الأبيض، إلى إقامة “تحالف ديمقراطي” ضد الدكتاتوريات في الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران.
2. موقف اليهود الأميركيين من حكومة نتنياهو والانقسام المجتمعي الإسرائيلي
لم تكن إدارة بايدن، على الأرجح، لتتدخّل في قضية داخلية إسرائيلية لولا وجود انقسام مجتمعي وسياسي إسرائيلي عميق حول المشاريع القانونية التي تريد حكومة نتنياهو فرضها، والتي تتعدى التعديلات القضائية إلى المنظومة القيمية والاجتماعية والثقافية في إسرائيل، ومحاولة فرض آراء دينية محددة، وغير ذلك. وعلى الرغم من أن المنظمات اليهودية الأميركية حريصة على التحالف الأميركي – الإسرائيلي، فإن كثيراً منها يعارض حكومة نتنياهو وسياساتها، ويرى أنها تضرّ بالعلاقة بالولايات المتحدة، وهو الأمر الذي أتاح لإدارة بايدن مساحةً للتدخل. فضلًا عن أن العديد من اليهود الأميركيين المؤثّرين يقفون في المعسكر الليبرالي ضد تحالف ترامب – نتنياهو، ويرفضون الإملاءات الدينية على نمط حياتهم، ويرفضون سيطرة القوى الدينية في إسرائيل. وإضافةً إلى ذلك، سهّل دخول المؤسستين العسكرية والأمنية الإسرائيليتين على خط الأزمة، وتحذيرهما من المشاريع القانونية المقترحة، وتوسيع صلاحيات وزراء متطرفين أمنياً، من مهمة إدارة بايدن.
3. التحولات الجارية في الحزب الديمقراطي نحو إسرائيل
لا يمكن التقليل من أهمية التحولات الجارية في الحزب الديمقراطي، الذي أصبح أكثر ميلاً إلى انتقاد إسرائيل والتعاطف مع الفلسطينيين، في تحديد موقف إدارة بايدن من حكومة نتنياهو وسياساتها. وفي هذا الصدد، بعث أكثر من 90 عضواً ديمقراطياً في مجلس النواب الأميركي رسالةً إلى بايدن، في آذار/ مارس، حثّوه فيها على إدانة التشريعات القضائية التي تقترحها حكومة نتنياهو، ورفض أيّ سعي منها لضمّ أجزاء من الضفة الغربية. ودعوا إلى “استخدام جميع الأدوات الدبلوماسية المتاحة لمعالجة هذا الوضع الخطير”. وساهم صعود حركة العدالة الاجتماعية في الولايات المتحدة، التي تشمل الحقوق الفلسطينية، وتنامي الوعي بين الأجيال الشابة والتيارات التقدمية والليبرالية الأميركية في تحول تدريجي في الموقف الديمقراطي والأميركي العام من إسرائيل.
وقد أظهر استطلاع للرأي، أجرته مؤسسة “غالوب” ونشرت نتائجه منتصف آذار/ مارس، أن نسبة الديمقراطيين الذين يتعاطفون مع الفلسطينيين قد تجاوزت نسبة الذين يتعاطفون مع إسرائيل (49 في المئة في مقابل 38 في المئة، على التوالي)، وذلك لأول مرة في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي. وأظهر الاستطلاع أيضاً أن نسبة المتعاطفين مع الفلسطينيين بين مواليد جيل الألفية (1981–1996) وجيل (Z) (1997–2013) بين عموم الأميركيين تتجاوز نسبة المتعاطفين مع إسرائيل (42 في المئة في مقابل 40 في المئة، على التوالي). أما بين المستقلين، فقد ارتفعت نسبة التعاطف مع الفلسطينيين إلى 32 في المئة، في مقابل 49 في المئة مع إسرائيل. وبلغ التعاطف بين البالغين الأميركيين مع الفلسطينيين 31 في المئة، في مقابل 55 في المئة مع إسرائيل. إلّا أنه لم تتغير آراء الجمهوريين، إذ ظل 78 في المئة منهم يتعاطفون مع إسرائيل، في مقابل 11 في المئة مع الفلسطينيين، وهو ما ينذر بتحوّل إسرائيل إلى قضية حزبية في الولايات المتحدة بعد أن ظلّت عقوداً تحظى بإجماع سياسي أميركي. وإلى جانب ذلك، وجد استطلاع رأي آخر نُشر في عام 2021 أن للديمقراطيين اليهود، وخاصة جيل الشباب، مستويات أقل من الدعم والارتباط بإسرائيل.
4. الاتساق مع الموقف الرافض لمحاولة ترامب الانقلاب على النظام الدستوري الأميركي
بحسب وسائل إعلام أميركية، حذّر بايدن نتنياهو خلال المكالمة الهاتفية الأخيرة بينهما من أن “العديد من الأميركيين الذين تجاوزوا الانقسام السياسي قلقون بشأن الإصلاحات المقترحة”، وذلك في إشارة واضحة إلى رفض ترامب الإقرار بخسارة انتخابات 2020 الرئاسية، ومحاولته الانقلاب على النتيجة والدستور. وبناءً عليه، فإن إدارة بايدن ترى في محاولات نتنياهو وحكومته فرض تشريعات قانونية جذرية من دون تحقيق توافق سياسي بمنزلة انقلاب شبيه بما سعى إليه ترامب.
خاتمة
تدرك إدارة بايدن أن أدوات الضغط التي تملكها ضد الحكومة الإسرائيلية محدودة، خصوصاً في ظل تأكيدها أنه لن تكون هناك تداعيات جوهرية على العلاقة بين البلدين في حال مضت حكومة نتنياهو بفرض تشريعاتها القانونية. ومع ذلك، تراهن واشنطن على استمرار الضغط الشعبي والسياسي الإسرائيلي، مدعوماً بتحفّظ أمني وعسكري، فضلاً عن موقف اليهود الأميركيين لإرغام حكومة نتنياهو على اجتراح صفقة تحقق قدرًا أعلى من التوافق، أو ربما تأمل في انهيار الحكومة من داخلها في ظل خلافات أقطابها حول كيفية التعامل مع المسألة.
*نشرت في المدن الالكترونية يوم الخميس الموافق في 2023/04/06
Leave a Comment