زكـي طـه
بيروت 14 نيسان 2023
تمر الذكرى الثامنة والأربعون لإنفجار الحرب الأهلية اللبنانية، وسط موسم غير مسبوق من القلق والخوف من مضاعفات الانهيار المريع على الصعد السياسية والاقتصادية والمالية، بالتزامن مع تحلل الدولة ومؤسساتها وأجهزتها ومرافقها الخدماتية، مترافقاً مع خطر الانفجار مجدداً في ظل اندفاعة البلد نحو مصير مجهول. وهو ما ليس معزولاً عن أسباب تلك الحرب ومساراتها ونتائجها ومضاعفاتها التي لم تزل تتوالى فصولاً حتى الآن. وهي الحرب التي بدأت جولاتها الأولى في 13 نيسان 1975، على وقع شعارات الدفاع عن السيادة والصيغة والنظام، في مقابل شعارات الاصلاح والتغيير وعروبة لبنان. وهي الشعارات عينها التي لم تزل تظلل أزمات الكيان والنظام الآن، رغم تبدل المعطيات والوقائع، وتباين المواقع واختلاف طبيعة القوى واصطفافاتها. ما يعني أن معضلات لبنان الكيان والنظام والبنية المجتمعية اللبنانية وعلاقته مع محيطه، لم تجد حلولاً جادة لها، ولا تزال منتجة للأزمات على غير انقطاع.
إنغلاق القيمين على الكيان
من المؤكد أن تفاعل البنية الطائفية والعشائرية الموروثة، مع الانقسام الاهلي الذي رافق تأسيس الكيان، حول هويته الوطنية وعلاقته بمحيطه، قد أسر بالتباساته وقيوده الطائفية قوى النظام بسائر أجنحتها. ولم تنجُ منه تشكيلات قوى المعارضة وتياراتها المختلفة. وهذا ما دفعها جميعاً للتحصن بمواقعها الطائفية وعلاقاتها الخارجية في مواجهة الآخر، وجاهزة للاندفاع في مغامراتها الانتحارية، يحدوها أمل الفوز عما تدافع عنه أو تطمح لتحقيقه ولو قاد ذلك إلى المزيد من الأزمات والانهيارات.
صحيح، أن القيّمين على الكيان والنظام بأجنحتهم كافة، كانوا قد اقفلوا أبواب الاصلاح، وأن الطرف المهيمن استسهل خوض معركة الدفاع عن نظام كرّس له امتيازات طائفية، كان لها سياقها التاريخي، مستعملاً كل الاسلحة الرسمية والأهلية. بما فيه التحصن بمعادلة الانفتاح الاقتصادي على محيطه العربي، وإدارة الظهر لقضاياه وخاصة القضية الفلسطينية في أعقاب هزيمة العام 1967.
وصحيح أيضاً، أن طموحات وحاجات شرائح واسعة من اللبنانيين، دفعت بهم إلى ميادين النضال المطلبي، عبر تحركات شعبية احتجاجية، شاركت فيها مختلف المناطق والقطاعات والفئات الاجتماعية، تحولت لاحقاً حركة سياسية نادت بإصلاح النظام الطائفي، ورفعت مطالب المشاركة وحقوق الطوائف المحرومة. قبل أن تتشكل جبهة سياسية من الاحزاب القومية واليسارية، طرحت قضية التغيير وتحديث النظام السياسي، في موازاة دعم القضية الفلسطينية والاستقواء بقواها المسلحة.
أما النتيجة فقد كانت مسلسلاً لا ينتهي من القتل والدمار، وتحوّل البلد ساحة مفتوحة لصراعات اقليمية ـ دولية وحروب كارثية، اختلط فيها الداخل بالخارج وتشابك الحلفاء والاصدقاء بالأعداء.
لقد وصف البعض ما جرى بأنه “حروب الآخرين على أرضنا” لتبرئة اللبنانيين من المسؤولية عنها. علَّ ذلك يساهم في تمكينهم من معالجة نتائجها والتخفيف من حدة خلافاتهم وانقساماتهم. وحاول آخرون التعمية على أسبابها عبر شعار “تنذكر وما تنعاد”. علّهم يتقون شر عودتها. لكن ذلك لم يشكل مصدر حصانة للبلد، أو مدخلاً لمعالجة المعضلات التي أنتجتها أو تسببت بها.
فدرالية أحزاب الطوائف وسؤال: أي لبنان نريد؟
ولذلك سرعان ما وجد اللبنانيون أنفسهم أسرى مسارٍ متمادٍ من النزاعات التي تتمظهر في صيغ واشكال لا نهاية لها، ولا تقل خطورة عما كان، من حيث نتائجها ومفاعيلها التدميرية على كل المستويات. لأن تطبيق دستور الطائف وإدارة شؤون البلد وقضاياه ومعالجة نتائجه آل إلى منظومة القوى المتحدرة منها. وهي التي وبحكم طبيعتها الميليشياوية وبُنيتها الطائفية والفئوية، لم تكن مؤهلة لقيادة البلد، على نحو يسمح بالسيطرة على أسباب الحرب ومعضلات الكيان والمجتمع، والحد من مفاعيلها على نحو متدرج يؤدي إلى فتح آفاق الوحدة والتقدم والتطور. بقدر ما كانت جاهزة لاستغلال ما لم تدمره الحرب من بُنى الدولة والاقتصاد والمجتمع، والاستثمار في الأزمات القائمة والمستمرة، بما فيها ما أنتجته الحرب الاهلية. والهدف تبرير تغطية مواسم صراعاتها لتعزيز مواقعها وتبرير سياساتها الفئوية. وعليه بات اللبنانيون محكومين من فدرالية أحزاب وتيارات طائفية، ابقتهم أسرى مسار طويل من الصراعات المدمرة. تشابكت فيها العوامل الداخلية بالعناصر الخارجية، وقادت البلد إلى الخراب السياسي والفوضى الاهلية والدمار الاقتصادي الذي بدأ يخنق اللبنانيين ويطبق على أنفاسهم.
إنه الواقع المستدام من الأزمات التي لا تنتهي، حيث يتجدد السؤال المزمن الذي ما فتىء يتكرر على ألسنة اللبنانيين جميعاً، من مواقعهم المختلفة وعبر لهجاتهم المتعددة: أي لبنان نريد؟ لكن الخطورة في تكرار السؤال أنه يستخدم للتعمية والتضليل حول إدمان الهروب والاستقالة من المسؤولية عن مواجهة المعضلات التي تبقيه ملازماً لها، منذ تأسيس الكيان وبعد الاستقلال وفي سائر المحطات.
يؤكد ذلك قصور الأجوبة التي تصدر من مواقع الانقسام الأهلي سواء من أجنحة السلطة أو خصومها، عن الاحاطة بمصالح الغالبية الساحقة من اللبنانيين، الذين غاب عنهم وعي تحديات العملية التاريخية التأسيسية على حقيقتها، بما هي بناء وطن وتوحيد شعب في اطار نظام ودولة ديمقراطية يتساوى مواطنوها في الحقوق والواجبات. وهي عملية تاريخية مديدة ومتعرجة، لا يمكن لها أن تقوم وتستمر وتتقدم إلا من خلال مغالبة المسار الطوائفي المتحكم بالبنية المجتمعية وانقساماتها الأهلية، وعبر أشكال من التعاون والعمل المشترك بين الفئات التي تشكل أكثرية اللبنانيين، لتحقيق ومراكمة إنجازات متلاحقة.
ولذلك كان من الطبيعي أن تتناسل المشاريع الطائفية وتتوالى المغامرات الانتحارية، على وقع ما يوازيها من خطابات وشعارات شعبوية، وأن يستمر ويتجدد الاستقواء بالخارج من قبل سائر الاطراف، في السلطة والمعارضة على السواء. وصولاً إلى الاستهانة بمصير الكيان، والتنافس على إلحاقه بمحاور الصراع في المنطقة خلافاً لمصالحه. بما فيه استسهال تعريضه على نحو دائم لمخاطر الاشتباك مع العدو الاسرائيلي وخوض الحروب معه، وفق استراتيجيات أو رهانات لم يجن منها لبنان سوى الدمار والخراب، ولم تنل منها القضية الفلسطينية أي مكاسب، بما فيها فصل الصواريخ الأخير قبل ايام. والذي شكل مخرجاً للحكومة الاسرائيلية، سواء من أزمتها مع مجتمعها الذي ملأ الشوارع رفضاً لسياستها وتوجهاتها، أو من مأزق سياسة الاستيطان و تحديات مواجهة الصمود الفلسطيني على ارضه دفاعاً عن وجوده وحقوقه.
غير أن الخطورة الأشد أن سؤال أي لبنان نريد، يتجدد الآن على ألسنة اللبنانيين، فيما الكيان، يندفع حثيثاً نحو الموت السياسي والاقتصادي، والفوضى الاهلية المرشحة للانفجار على نحو مدمر، وخارج قدرة اللبنانيين في السيطرة عليه. بما فيهم قوى السلطة التي تتشكل من فدرالية أحزاب الطوائف التي تحكمه على نحو يبرر التلاعب بمصيره والاستخفاف بوجوده ووحدته.
صحيح أن التاريخ لا يمكن تصويبه. لكن الصحيح أن العودة له وحسن قراءته ومراجعته هي السبيل الوحيد لعدم تكرار ما كان من خيارات ومغامرات انتحارية، وما رافقها من أخطاء وخطايا، بغض النظر عن اسباب أو مبررات تجددها، أو تغطية الهروب من مواجهتها والتعمية حول المسؤولية عنها، لمواصلة الاقامة بين المهزلة والمأساة وأوهام الفوز بالمستحيل.
ولا يختلف عنها استعادة طروحات لا تبني وطناَ، ولا يمكن لها أن تؤسس للمستقبل الذي ينشده اللبنانيون، والذي عبروا عنه في انتفاضتهم خلال عام 2019. وهو الطموح الذي يستحق بذل الجهد والعمل من أجله، باعتباره الخيار الوحيد الذي يعبر عن مصالح وحقوق الفئات الاجتماعية الاوسع صاحبة المصلحة الحقيقية في بقاء البلد وإعادة النهوض به، وفي طليعتهم الاجيال الشابة منهم الذين باستطاعتهم إنقاذه، رغم تراكم أنقاض الحاضر والماضي. والذين يرون بأم العيون مدى الإستهانة بطموحاتهم وأحلامهم التي تتعرض للوأد صبح مساء على أيدي هذه الطبقة السياسية ـ المالية الفاجرة، التي تستهين بعذاباتهم اليومية مقابل تلاعبها اليومي بما تبقى من مقومات حياة ديمقراطية ومؤسسات.
Leave a Comment