عمر قدور*
انفضّ الاجتماع الرباعي بلا نتائج معلنة، باستثناء الاتفاق على استمرار المشاورات، والتي يُفترض أن تنقلها إلى مستوى وزراء الخارجية من مستوى نوابهم الذين اجتمعوا يوم الثلاثاء في موسكو. التزمت أنقرة الصمت في ما يتعلق بتفاصيل المباحثات، وتجاهلت على نحو خاص تصريحات نائب وزير خارجية الأسد أيمن سوسان، وفيها طالب بإعلان صريح عن نية أنقرة سحب قواتها من الأراضي السورية، وربط التطبيع بين الجانبين بالبدء بالانسحاب الذي يريد الأسد أن يبدأ خلال ستة شهور.
تجاهُلُ أنقرة تصريحات مندوب الأسد لا يحتاج شروحات مطوَّلة، بما أنها تنتظر المواقف والإشارات من موسكو وطهران؛ صاحبتَي القرار النهائي. لكن هذا فيه قدر غير قليل من التبسيط، وكذلك هو حال التبسيط في الفكرة الرائجة عن سعي أردوغان للتطبيع مع الأسد لحصد مكاسب انتخابية، مع التركيز على كون المكاسب متعلقة خاصة بأخذ موافقته على إعادة اللاجئين السوريين إلى بيوتهم وأراضيهم، بالإضافة إلى مقايضات تتعلق بالإدارة الذاتية وقسد خارج المظلة الأمريكية.
ربطاً بالعامل الأخير، من الملاحظ “والصادم حينها لأوساط معارضة” إعلان أنقرة عن أن وجودها في سوريا متعلق فقط بخطر حزب العمال الكردستاني وجناحه السوري، بمعنى أنه غير متصل بالصراع السوري، أو بمساندة المعارضة ضمن هذا الصراع. هذا الإعلان في الواقع متعدد الوجهات، فقَبْل أن يكون رسالة إلى المعارضة كان رسالة إلى الداخل التركي الذي لم يعد يريد انخراطاً غير اضطراري في الشأن السوري، وهو رسالة إلى الأسد فحواها أن القوات التركية باقية ما بقي التهديد الكردي من وجهة نظر أنقرة. وهذا يتضمن بقاء أي جزء من قوات قسد، أو بقاء أي مظهر من مظاهر الإدارة الذاتية، بما فيها ما لا يستطيع الأسد وحلفاؤها التصرف إزاءه بسبب الدعم الأمريكي.
قبل أسبوع أعلن سنان أوغان، مرشّح تحالف “أتا” إلى الانتخابات الرئاسية التركية، عن استعداده للقاء الأسد في حال فوزه. وقال أوغان في مقابلة مع وكالة سبوتنيك الروسية، تعليقاً على شروط الأسد لتطبيع العلاقات مع تركيا: “يجب على الأسد اتخاذ بعض الخطوات قبل أن يضع شروطا لتطبيع العلاقات مع أنقرة، فوجود القوات التركية في سوريا ليس احتلالاً”. وأردف بالقول: “على الأسد أن يعرض علينا التعاون لإنهاء وجود حزب العمال الكردستاني، بدلا من اشتراط انسحاب القوات التركية من سوريا. وبعد القضاء عليه ستنسحب القوات التركية من شمال سوريا”.
في أقوال أوغان توضيحات لما لا يعلنه أردوغان ومسؤولوه صراحة، فشروط الأسد للقبول بالتطبيع هي ردٌّ على طلب أنقرة التطبيع معه على قاعدة الاعتراف المتبادل: أي أن تعترف أنقرة بشرعيته مقابل اعترافه “ولو ضمناً بموجب تفاهمات التطبيع” بشرعية الوجود التركي في سوريا. الوعد بانسحاب تركي لاحق “عندما تنتفي مبررات وجوده المتعلقة بالأكراد” لا يكفي الأسد، لا لعدم الثقة بالوعود التركية، ولكن لأن السقف الزمني للوعود لن يكون أدنى من انسحاب القوات الأمريكية، والأخيرة قد تبقى ما لم تكن هناك تسوية نهائية في سوريا.
عملياً ليس هناك ما تقدّمه أنقرة مباشرة سوى رمزية اعترافها بشرعية الأسد، وهذا مطلب روسي أكثر من كونه مطلباً لبشار نفسه، خاصة مع الأخذ في الحسبان سعي موسكو لإعادته إلى الجامعة العربية. الثمن الذي لا يريد الأسد دفعه، ومن المحتمل جداً أن تؤيده طهران في رفضه ولو سراً، التفريط بالورقة الكردية تماماً. فما تطلبه أنقرة لقاء انسحاب قواتها هو عزل حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري عن الدعم الإقليمي. حسابات موسكو مختلفة على هذا الصعيد، فهي لم تستثمر في الورقة الكردية كما فعلت سلطة الأسد وسلطة الملالي ضد أنقرة تحديداً.
عطفاً على أقوال المرشّح سنان أوغان، من المرجّح أن مطالب أردوغان هي مطالب تحظى بغالبية تركية كبيرة، ودعم حزب الشعوب الديموقراطي مرشّحَ الطاولة السداسية وحزب الشعب كمال كليتشدار أوغلو لا يعني أن الأخير في حال فوزه سيكون أكثر تساهلاً فيما تتفق الأغلبية على اعتباره أمناً قومياً. وبهذا المعنى فإن أهمية التطبيع مع الأسد انتخابياً بالنسبة لأردوغان هي في تحصيل اعتراف بشرعية الوجود التركي، وإلى أن يزول ما تعتبره نسبة كبيرة من جمهور الناخبين تهديداً كردياً، وهو ما يتقدّم على وعود إعادة اللاجئين السوريين رغم بروز المتاجرة بهم في الدعاية الانتخابية. في حال موافقة بشار على الاعتراف المتبادل سيُصوَّر ذلك إنجازاً حصل عليه أردوغان من أجل تركيا، بخلاف الفكرة الشائعة عن أنه ذاهب لتقديم التنازلات.
لبوتين مصالح مع أردوغان تتجاوز الملف السوري، وفي رأسها حالياً الدور التركي على خلفية حربه في أوكرانيا، ولا يُستبعد أن يرغب بوتين في تقديم خدمة انتخابية لأردوغان. رفْضُ بشار الأسد الصفقة حتى الآن حقيقي على الأغلب، وليس من ضمن تقاسم أدوار بينه وبين موسكو. هو على الأقل يريد كسب الوقت حتى تُجرى الانتخابات التركية ويُعرف الفائز فيها، وقد لا يُمانع بعدها في تقديم التنازلات المطلوبة للفائز، وإن كان يفضّل خسارة أردوغان بعدما تمت شيطنته لدى جمهور موالاته.
في ما يخص المعارضة فإن مجرد انعقاد الاجتماع الرباعي يُعتبر خطوة عديمة الرأفة بها من راعيها الأكبر، فحضور وفد الأسد في موسكو مختلف عن تأويل الاجتماعات المخابراتية التركية-الأسدية على أنها تدابير أمنية تتعلق بالأكراد فقط. الاعتراف المتبادل ينطوي أيضاً على المقايضة: يتخلى بشار تماماً عن الورقة الكردية وتتخلى أنقرة “عندما يفعل ذلك” عن ورقة المعارضة. الخلاف بين الطرفين هو على التوقيت، إذا يطالب الأسد أنقرة بهذه الخطوة قبل الانسحاب الأمريكي من سوريا، وألا تكون مرتبطة به.
من المؤكد حتى الآن أن زخم الحديث عن التطبيع قد تراجع بعد تأجيل اجتماع وزراء الخارجية، ودعوة طهران ليكون اللقاء رباعياً لها حدّان، فهي قد تكون مفيدة لجهة أن حضورها المباشر أفضل من حضورها في كواليس الأسد، لكن هذا الفائدة قد لا تغطّي على أنها صارت جزءاً أساسياً من المسار. لذا قد تعطّل طهران اللقاء الرباعي المقبل بين وزراء الخارجية، ولو بذرائع تقنية تتعلق بالتوقيت المناسب لها، وقد يكون التعطيل الإيراني-الأسدي مدعوماً هذه المرة من دول عربية ذاهبة إلى التطبيع مع طهران والأسد.
*نشرت في المدن الالكترونية يوم السبت الموافق 2023/04/08
Leave a Comment