صحف وآراء

اللامركزيَّة الإداريَّة الموسّعة بين اتّفاق الطائف والواقع

إعداد أمين الياس*

تمهيد

وسط الصخب السياسي الحالي والذي تختلط فيه المفاهيم السياسيَّة، لا بدّ من التأكيد أن التطرّق إلى مسألة “اللامركزية الإداريَّة الموسّعة” ليس بأيّ شكلٍ من الأشكال تمهيدًا للفدراليَّة أو للتقسيم، وهي تأتي ضمن إطار تعزيز الدولة المركزيَّة وتحسين الحوكمة فيها وإدارتها. مع العلم أنَّ الفدراليًّة (أي الاتحاديَّة) إنّما تُعتبر من أرقى النظم السياسية في العالم، وهي من أفضل الصيغ لإدارة التعدديَّة ضمن الدولة الواحدة المتّحدة، وهي تقوم على إرادة العيش معًا ضمن احترام خصوصيّات المكوّنات كافّة لهذه الدولة أو تلك. أمّا التقسيم فهو أيضًا إجراء يتمّ اعتماده عند توصّل أبناء البلد الواحد أو الإمبراطوريَّة الواحدة أو الإقليم الواحد لقناعة بأنّ عيشهم معًا لا يخدم مصالحهم ولا تطلّعاتهم، وإنّهم يريدون عن وعي فضّ عقدهم الاجتماعي النزاعي الذي يمنعهم من بناء السلام الدائم. هنا، إذا كان التقسيم سبيلًا للخروج من حالة الانقسام والتفكّك والتخلّف والعنف، فإنَّه يكون أفضل بكثير من وحدة فاشلة بين مكوّنات تتكاذب بينها، فيما خصّ التعايش والمصالح المشتركة، وحيث بعضها، أو كلّ منها يستقوي على الآخر من خلال عقد تحالفات مع قوى خارجيَّة بما لا يتلاءم والمصلحة العامّة المشتركة فيما بينهم، وبما يؤدي إلى حالة من النزاع والعنف الدائمين، وعدم القدرة على بناء الدولة الراعية لإرادة عيشهم معًا. فالتقسيم المتفق عليه هو أفضل بأشواط من التكاذب والخيانة المتبادلة بين أطراف العقد الاجتماعي، خاصّة إذا ما أدّت عملية التكاذب والخيانة هذه إلى النزاع العنيف المستدام.

ورقتنا هذه لن تتطرّق إذًا إلّا إلى مسألة اللامركزيَّة الإداريَّة الموسّعة كما اقترحتها وثيقة الوفاق الوطني (المعروفة باتّفاق الطائف)، وهي تأتي ضمن إطار التفكّر المشترك في إمكانيَّة تطبيق هذه اللامركزيَّة وفعاليّتها في الوقت الحالي في لبنان.

أولًا- لامركزيَّة في سبيل تعزيز المركزيَّة

يأتي بند اللامركزيَّة الإداريَّة تحت النقطة الثالثة من الإصلاحات المبوبّة “الإصلاحات الأخرى”. واضح من بداية هذه النقطة أنَّ منطلق من وضع ووقّع على وثيقة الوفاق الوطني إنّما هو المبدأ الآتي: “الدولة اللبنانيَّة دولة واحدة موحّدة ذات سلطة مركزيَّة قويَّة”. يبدو واضحًا من هذا المبدأ أنَّ وحدة الدولَّة اللبنانيَّة ومركزيَّة سلطتها إنّما تحكمان شكل “اللامركزيَّة الإداريَّة” المقترحة.

في تفصيلها، نجد أفكاراً ثلاثة:

1- توسيع صلاحيات المحافظين والقائمقامين (الذين يبقون معيّنين من قبل السلطة المركزيَّة طبعًا)، وتمثيل إدارات الدولة في المنطق الإداريَّة تسهيلًا لخدمة المواطنين.

2- إعادة النظر في التقسيم الإداري بما يؤمّن الانصهار الوطني والعيش المشترك، ووحدة الأرض والشعب والمؤسّسات.

3- اِعتماد اللامركزيَّة الإداريَّة الموسّعة على مستوى الوحدات الإداريَّة الصغرى (أي القضاء وما دون)، وذلك عن طريق انتخاب مجلس لكل قضاء يرأسه القائمقام.

قد تكون فكرة “انتخاب مجلس لكلّ قضاء” هي الأكثر تقدّمًا ضمن صيغة هذه اللامركزيَّة الإداريَّة الموسّعة، غير أنّه من اللافت أنّ وثيقة الوفاق الوطني تصرّ على ربط هذا التجديد اللامركزي بسلطة أعلى منها معيّنة من السلطة المركزيَّة والممثّلة بالقائمقام. كما يبدو واضحًا أن فكرة التعدديَّة لا تزال غير واضحة ومقبولة من قبل وثيقة الوفاق الوطني. وهي ليست قادرة على رؤية إدارة التنوّع اللبناني إلّا من باب الانصهار، وليس من باب الاعتراف بالبنيَّة المجتمعيَّة اللبنانيَّة المركّبة والتعدديَّة، والسعي بالتالي إلى حسن إداراتها ضمن هذه اللامركزيَّة الإداريَّة الموسّعة. الخلاصة هنا: إن العقليَّة الحاكمة للوثيقة، لا تقبل واقع التعدديَّة اللبناني، وتصرّ على صهر اللبنانيّين كمخرج لتنوّعهم، وليس الإدارة الرشيدة لهذا التنوّع.

وعليه، لسنا في وارد أي شكل من أشكال إدارة التعدديَّة، بل إنَّ الهدف من هذه اللامركزيَّة الإداريَّة الموسّعة شيء من السعي لتسهيل حياة اللبنانيّين لا أكثر. حتى أنّ هذه الصيغة لا تقترب البتّة من صيغة “المناطقيَّة” أو الريجيوناليسم (Régionalisme) الفرنسي، حيث تتمتّع البلديَّة بصلاحيات وسلطات كبيرة جدًا إداريَّة وماليَّة وإنمائيَّة، يخوّلها إدارة نطاقها البلدي باستقلاليَّة كبيرة عن الحكومة المركزيَّة الفرنسيَّة المعروفة بأنّها أكثر الأشكال مركزيَّة في أوروبا.

ثانيًا- اللامركزية كإصلاحٍ مرتبط بالإصلاحات الأخرى

لا يمكننا أن نفهم منطق وثيقة الوفاق الوطني الإصلاحي، واقتراحه اللامركزيَّة الإداريَّة الموسّعة من دون ربط هذا الإصلاح بالإصلاحات الأخرى الواردة والتي يأتي على رأسها أولويّتَين: “إلغاء الطائفيَّة” وصولًا لالغاء “الطائفيَّة السياسيَّة”، واستعادة الدولة سيادتها الكاملة على كلّ أراضيها وحلّ جميع الميليشيات في لبنان وتسليم أسلحة هذه الأخيرة إلى الدولة.

من حيث إلغاء الطائفيَّة كوسيلةٍ لإلغاء الطائفيَّة السياسيَّة نصّت وثيقة الوفاق الوطني في النقطة “ز” على الآتي: “إلغاء الطائفية السياسيَّة هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحليَّة، وعلى مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق هذا الهدف وتشكيل هيئة وطنيَّة برئاسة رئيس الجمهوريَّة، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيَّات سياسيَّة وفكريَّة واجتماعيَّة. مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفيَّة وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية”. عدّة أمور يمكن استخلاصها من هذه النقطة المحوريَّة من إصلاحات الطائف:

1- إنَّ الغاء الطائفيَّة السياسيَّة هو هدف وطني أساسي يقتضي العمل له وفق مسار يجب أنْ يكون نتيجة تفكّر وعمل مشترك وعام، ويأتي هذا الإلغاء ضمن مسار كبير يسعى لإلغاء الطائفيَّة بكلّ أشكالها، وبحيث يأتي ألغاء الطائفيَّة السياسيَّة من ضمن هذه السلّة، من إلغاء كلّ أشكال الطائفيَّة في لبنان من مجتمعيَّة، ووظيفيَّة، وإداريَّة إلخ.

2-  إن هذا المسار لا يمكن إطلاقه إلّا من قبل مجلس نوّاب يمثّل مناصفة كلّ من طرفي العقد الاجتماعي اللبناني وهم المسيحيّون والمسلمون. وبالتالي لا يمكن لأحد أن يفرض إلغاء الطائفيَّة بكلّ مندرجاتها على الآخر، بل إنَّ العمليَّة يجب أن تكون تعبيرًا مستدامًا عن إرادة العيش معًا، وتعزيز علمانيَّة الدولة من خلال إيجاد مساحات للمساواة المدنيَّة والقانونيَّة والمعنويَّة بين كلّ اللبنانيّين.

3- إن هذا المسار يجب أن يكون محكومًا من لجنة حكماء لا يشارك فيها فقط سياسيّون من رئيس جمهوريَّة وحكومة ومجلس نيابي، بل شخصيات فكريَّة واجتماعيَّة، بحيث تكون خطوات هذا المسار تعبيرًا حقيقيًّا عن الإرادة الواعية اللبنانيَّة وليس اجراءً اعتباطيًّا. وما يعزّز هذا الجزء الأوّل من النقطة “ز” هو الجزء الآخر منها حيث يتمّ إلغاء جزئي للطائفيَّة الإداريَّة وإبقائها فقط على مستوى موظفي الفئة الأولى، وذلك بما يتلائم مع “مقتضيات الوفاق الوطني” والمقصود به الاتفاق المسيحي الإسلامي. وعليه، يمكننا أن نفهم أنَّ مسار إلغاء الطائفيَّة في لبنان يجب أنْ يكون دومًا ضمن إطار الاتفاق – الميثاق المسيحي المسلم وتحت سقفه.

هكذا تأتي اللامركزيَّة الإداريَّة الموسّعة لتتكامل مع هذا التوجّه الإرادي الميثاق المسيحي المسلم بالعيش معًا، والتوجّه لتعزيز علمانيَّة دولتهم، بما يتلاءم مع واقع بنيتهم المجتمعية وتطلعاتهم المشتركة.

أمّا من حيث استعادة الدولة لسيادتها الكاملة على أراضيها، فإنّه ليس من المنطق ولا من المعقول ولا من الممكن تطبيق اللامركزيَّة الإداريَّة الموسّعة إلّا من باب تكاملها مع سيادة الدولة بشكلٍ كامل على أراضيها كافّة، وعدم مشاركتها هذه السيادة مع أي من الميليشيات المحليَّة أو الأجنبيَّة. إذ في القسم الثاني “بسط سيادة الدولة اللبنانيَّة على كامل الأراضي اللبنانيَّة” من الوثيقة نجد الآتي: ” بما أنَّه تمّ الاتّفاق بين الأطراف اللبنانيَّة على قيام الدولة القويَّة القادرة المبنيَّة على أساس الوفاق الوطني. تقوم حكومة الوفاق الوطني بوضع خطّة أمنيَّة مفصّلة مدّتها سنة، هدفها بسط سلطة الدولة اللبنانيَّة تدريجيًّا على كامل الأراضي اللبنانيَّة بواسطة قوَّاتها الذاتيَّة، وتتَّسم خطوطها العريضة بالآتي: الإعلان عن حل جميع الميليشيات اللبنانيَّة وغير اللبنانيَّة وتسليم أسلحتها إلى الدولة اللبنانيَّة […]”. فلا إمكانيَّة لإقامة لامركزيَّة إداريَّة موسّعة ضمن إقليم تتنازع سيادته ميليشيات وجماعات مسلّحة لبنانيَّة وغير لبنانيَّة. من هنا أهميَّة سيادة الدولة والحكومة المركزيَّة على كلّ أراضي لبنان كحجر زاوية لإطلاق لامركزيَّة إداريَّة تكون على تنسيق وعلاقة مباشرة مع الحكومة المركزيَّة. إنَّ مبدأ سيادة الدولة على أراضيها كافّة نجده معزّزًا حتى في القسم الثالث من الوثيقة “تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي” التي تنيط عمليَّة التحرير فقط بالدولة اللبنانيَّة من خلال الجيش اللبناني، ومرجعيَّة الأمم المتّحدة وقراراتها الدوليَّة وقوات الطوارئ الدوليَّة في الجنوب اللبناني. ولا تذكر الوثيقة أبدًا أي “مقاومة” أو أي فصيل لبناني أو غير لبناني من مهمته تحرير لبنان من الاحتلال المذكور.

ثالثًا- أسئلة لتعميق التفكّر والنقاش

لا بدّ لنا ونحن نتطرّق للامركزيَّة الإداريَّة الموسّعة من طرح الأسئلة التالية:

– هل يجب النظر إلى اللامركزيَّة الإداريَّة فقط من باب الانصهار، أم أنّه يجب تغيير النظرة إلى المجتمع اللبناني وأخذه بواقعيته التعدديَّة، وبالتالي العمل على إدارة وحفظ هذه التعدديَّة من خلال اللامركزيَّة؟

– هل يمكن الذهاب باتجاه هذه اللامركزيَّة من دون إعطائها بُعدًا ماليًّا، بما يعزّز التوازن بين الحكومة والبلديَّات، وبين المركز والمناطق المحيطة به؟

– هل يمكن تطوير عقدنا الاجتماعي بما يتضمّنه من علاقة جديدة بين الحكومة المركزيَّة والمناطق اللبنانيَّة في ظلّ الخروج الفاضح الذي يقوم به بعض الأطراف اللبنانيّين والأجانب من حمل غير شرعي للسلاح، وإقامة التحالفات الخارجيَّة، والتعامل والعمل العلني لمصالح خارجيَّة على حساب لبنان وسيادته ووفاق أبنائه، واستغلال مافيوي للسلطة، وممارسات لا تعدّ ولا تحصى مما يخالف منطق الدولة ويعزّز المنطق الفئوي والطائفي-الديني؟

– هل يمكن أن نعيد قراءة ميثاقنا على أساس قبول واقعنا التعددي ومصالحته مع علمانيَّة من عندنا، يتمّ فيها الموافقة بين حقّ المواطن الفرد في أن يكون قيمة بحدّ ذاته، وحقّ الجماعة بالوجود والطمأنينة؟

– هل يمكن اعتماد هذه الإصلاحات من دون اعتماد سياسة خارجيَّة لبنانيَّة تقوم على “الحياد الفاعل”، والذي لا يمت بصلة إلى صيغ من مثل “النأي بالنفس” و”الحياد التام”، بل المقصود به الحياد الذي يعبّر فيه لبنان عن سياسة خارجيَّة فاعلة هجوميَّة تقوم على العمل بشكل ديناميكي وفاعل ومستدام على إرساء التوازنات في المحيط وفي العالم؟

إنَّ الوقت بات ملحًّا للذهاب باتّجاه حوار كبير وواسع وجريء وصريح ومحبّ في آن بين كل المكوّنات اللبنانيَّة، لإعادة التفكّر بحالهم ومأساتهم، والاعتبار من تجاربهم بكل ما تحمله من إمكانات وإخفاقات، وتجديد عقدهم الاجتماعي وإرادتهم بالعيش معًا (إن رغبوا بذلك)، أو الاتفاق على صيغة عقلانيَّة للانفصال (إن لم يعد يرغبون بالعيش معًا) تنهي نزاعهم المستدام، وتسمح لهم بعدم هدر أيامهم وطاقاتهم في عالم متسارع التطوّر. فالعيش معًا، وبالتالي بناء الدولة إنّما هو عمل يومي شاق وإرادي يقوم على العقل والعلم. وعلى اللبنانيّين أنْ يقتنعوا بهذا الأمر، ويكفّوا عن التذاكي الفارغ بأنّه يمكنهم أنْ يسخروا من أنفسهم ومن العالم بالقول إنَّهم نموذج ورسالة في الوقت الذي لا يستطيعون التفكير والعمل سويّا من أجل إيجاد الحلول لأبسط المشكلات.

فإلى العمل معًا لبلورة وصياغة عقد اجتماعي جديد على أساس إرادة العيش معًا، والدولة التعدديّة العلمانيّة، والحياد الفاعل.

*نشرت يوم الأربعاء الموافق 5 نيسان 2023

Leave a Comment