بشير مصطفى*
تناقض كبير تعيشه العاصمة اللبنانية بيروت بين الحاضر والماضي، حيث بات ملحوظاً تمدد مظاهر الفوضى من الضواحي إلى قلب المدينة، في موازاة تراجع نوعية الخدمات العامة وجودة الحياة، مقابل ارتفاع معدلات التلوث والغلاء الفاحش الذي يعانيه عامة الناس.
ما يجري في العاصمة من تعميق للفروق الاجتماعية والاقتصادية بين من يملكون ومن يجهدون لستر أبدانهم وسد رمقهم، هو النموذج الواقعي لما آلت إليه الأمور بفعل الانهيار المالي وغياب الخدمات من كهرباء ومياه ونقل واستشفاء وأمن، لتأتي فوضى الإجراءات الحكومية لتعمق المعاناة اليومية، فبعد رفع تعرفة الاتصالات، وإنهاء دعم المحروقات، جاء نقص حليب الأطفال واختفاء أدوية الأمراض السرطانية، كما بات تحرير سعر طحين الخبز مسألة وقت.
وتزداد الأعباء إذا ما أضيفت إليها سلسلة من الملفات التي استعصى حلها بفعل المحاصصة وغياب الحوكمة الرشيدة، على غرار الفشل في معالجة ملف النفايات الصلبة، وعدم الحفاظ على سلامة الغذاء، وسوء البنية التحتية لجميع المرافق العامة في البلاد التي كانت تشكل أيقونة الثراء والتقدم والأمان.
وهج بيروت يتراجع
أسطورية هي الصورة التي تملكها بيروت في الوجدان، فهي بالنسبة إلى المواطن اللبناني تختزل كل جميل، وبالنسبة إلى الزائر العربي تختزن ذاكرة التنوير والحياة المتحررة، وللأجانب هي أحجية التعايش بين العصور والأفكار المتصارعة التي تثير العقل والحواس. لكن هذه الصورة آخذة بالتبدل، فقد أرخى الانهيار بظلاله على المدينة.
يستند كارلوس نفاع، وهو متخصص في التنمية المستدامة، إلى مجموعة من المعايير الموضوعية الدولية ليشير إلى أن نوعية الحياة على مستوى بيروت ولبنان في تراجع مستمر، لافتاً إلى أنه “بحسب آخر الدراسات تحتل بيروت المرتبة 184 من ضمن 231 مدينة في نوعية الحياة، كما تأتي في المرتبة 46 ضمن المدن الـ540 الأكثر غلاء”.
يتطرق نفاع إلى المعايير العلمية لتقييم المدن والمجتمعات التي تعتمد مؤشرات التنمية المستدامة، حيث يتم قياس الوضع الاقتصادي، وجودة التعليم، والطاقة، والبيئة، والنقد، وإدارة الكوارث، والحوكمة، والصحة، والابتكار، والأمن، والسكن، والسلامة، وإدارة النفايات الصلبة، وجودة الاتصالات، والنقليات، والتخطيط المدني، والمياه المبتذلة، ونظافة المياه. وليس من قبيل المبالغة القول، إن لبنان بأسره يعاني تدهور المرافق والخدمات العامة. فبحسب مؤشر “نومبيو” NUMBEO حول كلفة الحياة فإن بيروت حلت في المرتبة 46 بـ80.3 نقطة، متفوقة على غيرها من المدن العربية التي يتضمنها القياس، وهي دبي، والدوحة، ورام الله، وأبو ظبي، والمنامة، والدمام، وعمان، والكويت، والدار البيضاء، والجزائر، ودمشق، والإسكندرية، والجيزة.
مشكلات عميقة الأثر
“العجقة” أو الاختناق المروري من المشكلات التي يعانيها بصورة يومية كل من يقصد العاصمة اللبنانية بيروت. وليس من قبيل المبالغة وصف الطريق إليها بأنه “سبب إضافي للإرهاق النفسي والجسدي والمالي لمن يقصد المؤسسات والإدارات العامة ذات النظام المركزي”، وهو أثر من الآثار المباشرة لغياب الحكومة الإلكترونية الرقمية التي تتيح إنجاز المعاملات عبر المنصات من بعد.
يشدد نفاع على مركزية ملف النقل، متحدثاً عن “عدالة التنقل لكل الأفراد المقيمين من دون تمييز، التي تبدأ مع رؤية لربط المدن (بيروت، طرابلس، المدن الكبرى) وتأمين نقل دامج (INCLUSIVE) للجميع، الأمر الذي يتطلب وضع مخطط استراتيجي يعتمد على مبدأ النقل المشترك، ووجود منصة رقمية لربط وتنظيم وتتبع خطوط النقل الشعبي القائمة، وضرورة الحفاظ على ممرات المشاة، وتأمين المساحات العامة، وسهولة الوصول إلى المرافق الاقتصادية والاجتماعية كالمدارس والمستشفيات”، مؤكداً أن “30 في المئة من أهالي بيروت لا يمتلكون القدرة على التنقل بالسيارة الخاصة”.
يأسف نفاع لأن القدرة على اجتذاب رؤوس الأموال باتت ضئيلة للغاية، كما أن “ما يحكى عن هبات لاستقدام آلاف الباصات لن تؤدي إلى الحل المرجو لمشكلة النقل، كما لن تعود بالنفع على القطاع بشكل عام”، معولاً على الإصلاح المؤسساتي وقيام هيئة ناظمة للنقل البري والبحري والجوي لحل مشكلة القطاع الحيوي وتأمين وسائل نقل حديثة وآمنة للأفراد والبضائع.
كما يلفت نفاع إلى أثر النقل المشترك على تخفيف أزمات باقي الخدمات والقطاعات، فهو يقلل من كلفة السكن بالمدن الرئيسة ومحيطها العمراني، كما يخفف اكتظاظ الأحياء الشعبية، ناهيك بكلفة الغذاء المرتفعة وجودته المنخفضة.
ويعتبر نفاع أن “إعادة إحياء السكك الحديد في لبنان عنصر أساس في التنمية المستدامة ونهضة البلاد، بدءاً بالخط الساحلي الممتد من عكار العبودية إلى الناقورة، ومن بيروت إلى البقاع، لإعادة فتح النشاط الاقتصادي في جميع المناطق، وخفض كلفة السكن، وتقليل الضغط على المدن الكبرى وجعلها مدناً حيوية غير مختنقة”.
التلوث البيئي الأخطر
على غرار المدن المركزية في شرق المتوسط، تعاني بيروت معدلات تلوث مرتفعة بفعل الانبعاثات الكربونية، ويتحدث المتخصص في شؤون البيئة زياد أبي شاكر عن أربعة معايير لتراجع نوعية البيئة في العاصمة اللبنانية هي: مؤشر تلوث الهواء الذي فاق بنسبة 300 في المئة المعدل المقبول عالمياً، ومؤشر معالجة النفايات الصلبة حيث “نمتلك أسوأ وأغلى نظام في آن، لكنه لم يصل إلى تدوير خمسة في المئة من النفايات التي تنتجها بيروت يومياً”، ومؤشر معالجة المياه المبتذلة، فـ “في بيروت لا توجد محطة واحدة لمعالجة تلك المياه التي تصب في البحر من دون معالجة، وصولاً إلى المؤشر الرابع ويرتبط بالاختناق المروري الذي يتسبب بمستويات مرتفعة من تلوث الهواء، ناهيك بتوقف الإشارات الضوئية بسبب عدم وجود تيار كهربائي”.
يجزم زياد أبي شاكر بأن “انتشار المولدات الكهربائية الخاصة يتسبب بآثار كارثية، فقد دخلت تلك المولدات وعددها يقترب من ثلاثة آلاف مولد في بيروت وضواحيها، إلى قلب الأحياء، مع ما يصاحبها من عدم التزام أصحابها تركيب المعدات الصناعية لتخفيض الانبعاثات الضارة”، معبراً عن أسفه من “غياب أي خطط حكومية وإدارية محلية لمعالجة هذه المشكلات المتزايدة”.
ويتطرق أبي شاكر إلى الآثار المباشرة صحياً واقتصادياً للتدهور البيئي، فتلوث الهواء يتسبب في أمراض تنفسية على المدى القريب، وعلى المدى البعيد يؤدي إلى الإصابة بسرطان الرئة. أما انتشار مكبات النفايات العشوائية وإحراقها فيعمق معاناة سكان المدينة الذين يصبحون حبيسي غرفهم، وصولاً إلى الأثر السلبي لتلوث مياه البحر بنواتج الصرف ما يؤثر على نوعية الحياة البحرية في بيروت.
ويأسف المتخصص في شؤون البيئة لأن وصف “الغابة الأسمنتية” بات ينطبق على بيروت التي تراجع فيها الغطاء النباتي إلى أقصى الحدود. ويقول “البيئة في آخر اهتمامات حكام لبنان، لأنهم لا يدركون مكانتها وصلتها بمختلف نواحي الحياة، ولا بد من تخفيف الهدر والفساد وإعطاء الأولوية لحل المشكلات البيئية بصورة مستدامة بدءاً بالتدوير، ومعالجة النفايات والمياه، وتطوير شبكة النقل، إضافة إلى تأمين الكهرباء”.
*نشر في الاندبندنت العربية في 14 كانون الثاني/ يناير 2023
Leave a Comment