محمد حجيري*
“لا تقوم الساعة حتى يُحْسَر الفرات عن جبل من ذهب يقتتل الناس عليه، فيُقتل من كل مائة تسعة وتسعون، فيقول كل رجل منهم: لعلي أكون أنا أنجو” (حديث نبوي).
إذا كانت مدينة اسطنبول تحضر بقوة في روايات التركي أورهان باموق، فمضيق البوسفور الذي يصل بين البحر الأسود وبحر مرمرة، يمثل محوراً رئيسياً في مخيلته ايضاً، ويصلح بالتالي استعارة للكثير من الحكايات والسرديات. ففي روايته “الكتاب الأسود”، يكتب باموق نصاً تأملياً عن جفاف البوسفور في زمن آت، حيث يزعم الراوي أنّه قرأ في مجلة فرنسية مختصة بالجيولوجيا أن مياه البوسفور تتراجع، وأن المضيق مقبل على الجفاف بعد سنوات. ويكتب أيضاً أنّه نزل إلى المرفأ وقابل صياد سمك أخبره أن القارب بات يعلق في أماكن من البوسفور، كانت قبل زمن قصير بعيدة الغور. يقول: “من الواضح أنه بعد زمن قصير سيتحول المكان الشبيه بالجنة، والذي نسميه البوسفور، إلى مستنقع قطراني يحوي جثث السفن المطلية بالطين والمتلامعة وسطه كأشباح مكشرة عن أسنانها”. يستطيع الراوي أن ينظر إلى مياه البوسفور وهي تلمع فضية تحت نور القمر، وأن يراها تتبخر وتتلاشى وتهبط إلى أن يظهر قاع المضيق الذي يعطي اسطنبول الحياة. يجف البوسفور، فيظهر التاريخ السري لهذا العالم المكتنز بالأخبار والحكايات والحوادث المدفونة. طبقات لا تحصى من الوحل والأحذية القديمة، والهياكل العظمية والبيوت الغارقة والحيوانات والدلافين وأغطية الزجاجات الفارغة، فضلاً عن سيارة بويك. يكتب الراوي في الصحيفة أنه لطالما أراد العثور على هذه السيارة. قال إنه في ورد الشباب، أول دخوله عالم الصحافة، كان مراسلاً في الشارع يتتبع أخبار العصابات في أحياء اسطنبول وشوارعها الخلفية سيئة السمعة آنذاك. لم يكن في اسطنبول سوى ثلاث سيارات من هذا الطراز (البويك)، وتلك التي في قعر البوسفور كان يملكها رجل العصابات الأشهر وهو قفز في مياه البوسفور والى جانبه عشيقته هرباً من الشرطة.
والحياة السرية تحت مياه البحر أو حتى أسرار غرق السفن، تلاقي شغفاً لدى الكتّاب والمخرجين بسبب قصصها المثيرة. وما نسميه “زعماً” في رواية باموق يحصل في الواقع حالياً، وما تقوله الرواية عن حياة سرية تحت الماء، بات خبراً يومياً مع موجة الجفاف التي ضربت أوروبا وجعلت مياه الأنهر تنحسر. ربما تشكّل أخبار الجفاف وما نتج عنها، مفاتيح لروايات جديدة وسردية جديدة تمزج الواقع بالخيال والحاضر بالماضي، والأنهر بالموت، وهذا الجفاف لم ينج من التفسيرات الساذجة عند بعض “المتدينين” الذين يعتبرونه عقاباً إلهياً لأوروبا(الكافرة)، وعلامة من علامات ما يسمونه “يوم القيامة” أو اقتراب الساعة، ويتزامن مع مشهدية سريالية، إذ إن الأنهر الأوروبية تجف والصحراء السعودية تغرق في المياه، وهذا بحسب التفسيرات العلمية يرتبط بالاحتباس الحراري والتحول المناخي.
أما ما تحت المياه فهو حكايات وقصص، إذ كُشف عن صخور منحوتة منذ قرون قيل إنها لتحذير الأجيال القادمة من الأوقات الصعبة المقبلة، ونقلت صحيفة “ميامي هيرالد” عن سكان محليين في تشيكيا قولهم إن الصخور المعروفة باسم “أحجار الجوع”(يصلح عنواناً لديوان شعري) عادت إلى الظهور مع الجفاف وانخفاض مستوى الأنهار في أوروبا. وكانت أحجار الجوع قد ظهرت قبل سنوات، وتحديداً العام 2018 في جمهورية التشيك. وأحد هذه الأحجار يقع على ضفاف نهر “إلبه”، الذي يبدأ في تشيكيا ويتدفق عبر ألمانيا. ويعود تاريخ الصخرة إلى العام 1616، وهي محفورة مع تحذير باللغة الألمانية: “إذا رأيتني، فابكِ”. وفي دراسة أجريت العام 2013، قال فريق من الباحثين إن “هذه النقوش حفرت خلال سنوات المشقة، وهي تحذر من عواقب الجفاف”. ويحمل بعض هذه الأحجار تواريخ وأحرف أولى من أسماء بعض الأشخاص، وينظر البعض إلى ظهورها مرة أخرى على أنه تحذير وتذكير بالمصاعب التي واجهها الناس خلال فترات الجفاف السابقة. وتشمل التواريخ التي شوهدت على أحجار في “فورمس” وجنوب فرانكفورت و”رايندورف” وقرب ليفركوزن، الأعوام 1947 و1959 و2003 و2018. وهناك نقش على إحدى الصخور الأخرى يقول: “ستزدهر الحياة مرة أخرى بمجرد اختفاء هذا الحجر”. ونقش آخر: “الشخص الذي رآني ذات مرة، بكى. ومن يراني الآن سيبكي”. وفي نقش ثالث: “إذا رأيت هذا الحجر مرة أخرى، فسوف تبكي. هكذا كانت المياه ضحلة في العام 1417”.
ولا تقتصر أسرار المياه على التذكير بسنوات الجوع، فللحروب الكونية حصتها، إذ كشف الجفاف عن هياكل عشرات السفن الحربية الألمانية الهتلرية التي غرقت خلال الحرب العالمية الثانية بالقرب من مدينة “براهوفو” الصربية المطلة على نهر الدانوب. والسفن الغارقة كانت جزءاً من أسطول ألمانيا النازية في البحر الأسود العام 1944، قبل أن تنسحب بعد تقدم القوات السوفياتية حينها. وبسبب الجفاف، ظهرت أكثر من 20 سفينة على السطح، وما زال الكثير منها محملاً بالذخيرة والمتفجرات.
في إسبانيا، كان علماء الآثار سعداء بظهور دائرة حجرية من عصور ما قبل التاريخ أطلق عليها اسم “ستونهنج الإسبانية”، والتي عادة ما تغمرها مياه أحد السدود. واكتشف عالم الآثار الألماني، هوغو أوبرماير، الدائرة الحجرية في العام 1926، لكن المنطقة غُمرت في العام 1963 في مشروع تنمية ريفية أثناء حكم الجنرال فرانكو. ومنذ ذلك الحين، لم تُشاهد بالكامل سوى أربع مرات.
الكشف الأبرز والأكثر إثارة للجدل والخيال، كان عن آثار أقدام في أحد أنهار ولاية تكساس الأميركية، تعود لديناصورات عاشت قبل نحو 113 مليون سنة على الأرجح. ويبدو أن الآثار كانت مطمورة سابقاً بالماء ومليئة بالرواسب التي ساهمت في حفظها، إلا أن “ظروف الجفاف هذا الصيف أدت إلى تجفيف معظم نهر بالوكسي، ما كشف عن آثار جديدة”، بحسب مسؤولة إدارة المتنزهات والحياة البرية في تكساس، ستيفاني ساليناس غارسيا، التي قالت إن “معظم الآثار المُكتشفة أخيراً في مواقع مختلفة من النهر في الحديقة، تعود إلى ديناصور من نوع أكروكانثوصور”، وهو من وحشيات الأرجل ويمكن أن يبلغ طوله 5 أمتار ووزنه 7 أطنان، بينما تعود مجموعة أخرى إلى ديناصورات من نوع “سوروبوسيدون” التي يمكن أن يصل طولها برقبتها الطويلة إلى 18 متراً ووزنها إلى 44 طناً عند بلوغها. في كتابه “الديناصورات: مقدمة قصيرة جدًّا” يقول ديفيد نورمان “إن انبهارَنا بالديناصورات لن ينتهي؛ انبهار عزَّزته الأفلامُ السينمائية والوثائقية التي تزعمُ أنها تُجسِّد هذه الكائنات بدقةٍ وكأنها تُعِيدُها إلى الحياة. لكن إلى أي مدى يمكن الوثوق في الصورةِ التي رسمتها تلك الأفلام للديناصورات، وما مدى اقترابها من الحقيقة؟ وهل تعكس حقاً الاكتشافات الجديدة أو أحدث الأبحاث في عالم الديناصورات؟”.
هل يمكن أن نتخيّل الحياة قبل 113 مليون سنة؟ هل يمكن أن نتخيل الديناصورات؟ هل يمكن أن نحسب 113 مليون سنة من آثار أقدام في نهر؟ يقول ديفيد نورمان: “كانت الديناصورات هي التجسيد الفعلي للتنانين الموجودة في الخرافات والأساطير، وربما ضمِنَ هذا تقبُّلَ المجتمع بأكمله لها؛ حتى إنها ظهرت في أعمال الروائي تشارلز ديكنز، الذي كانت تربطه علاقة شخصية بريتشارد أوين”(عالِم التشريح البريطاني مكتشف الديناصورات).
قبل موجة الجفاف في أوروبا، اكتشف فريق من علماء الآثار الألمان والعراقيين، مدينة زاخيكو التي ورد اسمها في النصوص البابلية، تعود إلى حقبة إمبراطورية ميتاني وعمرها 3400 عام وكانت تقع على نهر دجلة. وظهرت المستوطنة في مياه خزان الموصل حين انخفض منسوبها بسرعة، بسبب الجفاف وحروب المياه في الشرق الأوسط. والمدينة المكتشفة تضم قصراً والعديد من المباني الكبيرة وتعد مركزاً مهماً في إمبراطورية ميتاني (نحو 1550-1350 قبل الميلاد) التي كانت تسيطر على أجزاء كبيرة من شمال بلاد ما بين النهرين وسوريا. ويرجح علماء الآثار أن الزلزال العنيف الذي ضرب المدينة العام 1350 قبل الميلاد، ساعد في الحفاظ على جدران المبنى عندما تعرض للتدمير، إذ يُعتقد أن الأنقاض التي سقطت ربما غطت الأجزاء السفلية من الجدران ما ساعد في الحفاظ عليها.
هي حياة تحت الماء، روايات واقعية تسبق خيالنا، وشغفنا بالإثارة، وتؤسس لسرديات جديدة مكتوبة بلغة الماء.
*نشرت في جريدة المدن الالكترونية يوم السبت 2022/08/27
Leave a Comment