ثقافة

١٢ رجلًا غاضبًا.. بوصلة تدرَّس في فنّ نحت السيناريو و الحبكة

يوسف اللقيس

  • نظرة عميقة:

الشهادة … يمكننا جميعًا أن نشهد نفس الحدث ومن ثم نجلس لنرويه بروايات مختلفة، يحدث هذا دائمًا .

ولكن هل تصورت أن تكون روايتك هذه سيفًا على رقبة أحدهم؟ روايتك دائمًا ما تحمل دون أن تدري مجموعة من الأفكار والقناعات التي كونت عقلك على مدار حياتك ومجموعة من العوامل والتأثيرات التي شكلت رؤيتك إلى جانب بعض من الهوى الإنساني .

قل لي يا صاح، ماذا تعرف عن اليقين؟ هل يملك أحد منا يقينًا قطعيًا على ما ترى عينه حتى يدعي التوصل ليقين كليّ فيما لم يرَ؟

علمتنا الرياضيات أنه لا وجود في الواقع بنسبة 100%، وعلمتنا الفلسفة ان كل إجابة هي في الحقيقة سؤال لإجابة ستأتي فيما بعد، درسنا في الكيمياء أنه لا يوجد نقاء تام في الطبيعة، أما في الفيزياء فقد أصرّوا علينا ألا ننسى قيمة المفقود من الكمية فلا شيء يتم رحلته كاملًا، يبدو أن هناك إجماعًا على النقصان .

فكيف نصدر حكمًا ندعي أننا امتلكنا الحقيقة الكاملة وراءه؟ .

  • لمحة تاريخية عن نظام المحلفين (أحد ركائز نصّنا الحالي):

بدأ ظهور نظام المحلّفين إبان الحكم الملكي في إنجلترا بهدف كفّ جماح الملك عن التمادي في الظلم أثناء الحكم في القضايا على المدنيين، كانت الفكرة حينها أن يشترك مدنيون في نظر الحُكم مع الملك، لإمداده برأيهم الحاسم في القضية، وهكذا، حتى تبلورت صورة هيئة المحلّفين في صورتها المعروفة الآن، وانتقلت إلى الولايات المتحدة الأميركية وتم إقرارها في دستور 1787م. وجرى العمل على كون المشاركة في هيئة المحلفين تعدّ نوعًا من الخدمة الإلزامية، بل ويتمّ تعويض المواطن عن فترة عمله كمحلّف في قضيّة ما، في حال غاب عن عمله، باعتبارها أجازة مدفوعة الأجر. وغدا الأمر ثقافة منتشرة، فمن المعتاد جدًا انتشار كتب في المجتمع الأميركي تهتم بتثقيف أعضاء هيئة المحلفين وتدربهم على التفكير المنطقي وموازنة الحجج وما شابه، هذا بخلاف كتيّبات المبادئ والتوجيهات والقواعد القانونية التي تُسَلّم لأعضاء هيئة المحلفين قانونيًا.

أحببت أن أبدأ معكم اصدقائي بمقدمة من وحي ما سنتطرق له لاحقًا …

في السنوات الأولى لظهور السينما كاختراع تقني، وفي بداية فترة عرض الاشرطة الفيلمية القصيرة لم يكن هناك سيناريو يكتب للافلام، من حيث ان الافلام التي كانت تصور لم تكن أفلامًا بالمعنى المعروف حاليًا لها، وانما كانت لقطات قصيرة متقطعة.

لكن حينما بدأت الشركات السينمائية الناشئة إنتاج أفلام طويلة نسبيًا تستمر لدقائق ولاحقًا لساعات، اضطر المخرجون لايجاد (حبكة) للمشهد الفيلمي، فبدأ البحث عن (خطة) وقد سميت هذه الخطة مع الوقت بالسيناريو، الذي يمسك بدفة العمل السينمائي، ويترجمه بشكل معروض على الشاشة الكبيرة .

من هنا انطلقت فكرة السيناريو واهميتها في السينما، و ظهرت مدى قوتها في نجاح العمل والتعويل عليه من قبل المخرجين، وكأنه خشبة خلاص تم اكتشافها لرسم خارطة مستقبلية لهذا الفن الذي سمي لاحقًا بالفن السابع .

أما حاليًا وبالعودة للوقت الحاضر الذي شهد طفرة في التكنولوجيا التي لم تكن هذه الأخيرة بخيلة أبدًا على الشاشة الكبيرة (ولادة المؤثرات البصرية و الشاشة الخضراء)، فارتسمت في أذهان الكثيرين أن مرادف “سينما” عمومًا وهوليوود خصوصًا هو الـ “blockbuster” اي الأعمال التي تتصف بتكلفة انتاجية ضخمة.

ولكم يسعدني هنا، أن أقدم لكم مقالًا توضيحيًا شارحًا فيه أين تكمن نواة العمل السينمائي أو الورقة الاقوى التي يلعب بها الفيلم.

في أحدى المقابلات التي أُجرِيت مع المخرج الكبير “الفريد هيتشكوك” عندما سُئِل ما هو معيار الفيلم الجيد بنظرك؟ فكانت إجابته بكل بساطة: “نحتاج ثلاثة أشياء لصنع فيلم جيد، السيناريو و السيناريو ومن ثم السيناريو”.

إن إجابة “هيتشكوك” هنا لم تكن استعراضية، بل كانت تنم عن فكر عميق، و يقين بأن السيناريو هو سفينة النجاة الوحيدة لمستقبل السينما، ومن شأنه أن يرفع من مستوى العمل المعروض حتى في ظل غياب الميزانية، وفي المقابل من المحتمل أن ينقلب عليه سلبًا، وأن يدفن الفيلم في مكتبة النسيان، حتى وإن كانت مخصصة لهذا الأخير ملايين من الدولارات لانجاحه إن كان يتسم بحبكة ركيكة .

و إن طُلِب مني أن أقدم لكم دليلًا عما اقول ، لن افكر مرتين و سوف اجاهر بالتحفة الخالدة ” ١٢ رجلًا غاضبًا ” أو ” 12angry men  ” للمخرح القدير “سيدني لوميت” و من كتابة الفذ “ريجلاند روز” .

هذه التحفة الخالدة التي أبصرت النور عام ١٩٧٥ ، تروي قصة هيئة محلفين مكونة من ١٢ رجلًا يتشاورون لتحديد براءة أو ذنب متهم شاب في جريمة قتل من الدرجة الأولى . الفيلم مشهور باستخدامه موقع تصوير واحد، باستثناء افتتاحيته وبعض المشاهد القصيرة .

تقع احداث الفيلم كله داخل غرفة المحلفين، إجمالي الوقت الذي ينقضي خارج غرفة المحلفين هو ثلاث دقائق من 96 دقيقة كاملة من الفيلم .

  • نحيطكم علمًا بالقضية يا سادة :

طفل ماثل أمام المحكمة في قضية قتل والده ، طعن الوالد بالسكين بعد أن صاح به “سأقتلك”. ترك الجسم يرتطم بالأرض، و اندفع هاربًا ليشاهد فيلمًا في السينما ثم يعود بعده ليسترجع السكين الذي نسيه في صدر والده . هكذا كانت شهادة ذاك العجوز الذي ينام مباشرة أسفل مسرح الجريمة، و تلك الأربعينية المصابة بالأرق في الجهة المقابلة التي يفصل بينها و بين الواقعة قطار يمر بين الحين و الآخر.

أن ترى عملًا يعتمد على الحوار فقط كنقطة محورية له، و يبني عليها آماله و كامل ثقله في غرفة لا تحتوي الا على اثني عشر رجلًا فقط ، وكل هذا ضمن الامكانيات المتواضعة التي كانت متواجدة حينها ، مشكلًا ثورة في الفن السابع، و دليلًا حيًّا على القيمة السينمائية التي تتواجد في الفكرة و الحوار و ليس فقط في التكلفة الانتاجية ، لهو أمر ليس بالسهل أبدًا.

أن تجلس ساعة و نصف الساعة و انت تراقب هذه الغرفة و من فيها، و لا تستطيع ان تحرك ساكنًا مسمَّرًا أمام شاشتك ، باحثًا عن مفاتيح هذه الحبكة التي تمتحن ذكاءك و تأخذ عقلك على محمل الجد ، فهذا يعني أننا نعاين روح السينما و نواتها.

أن يتم جذب كل حواسك ضمن هذا الحوار الدقيق بعد أن تم انتقاؤه بعناية ، ينتزعك من زمنك لتصبح غير عالم بمرور الوقت من حولك، لا تعرف عندها معنى الملل و لو لبرهة واحدة في هذه الغرفة ، فدعني اقل لك بأن هذه قوة النص و القلم يا صاح .

فمن الصعب أن ترى فيلمًا في خمسينيات القرن الماضي ضمن محيط ضيق لا تنتقل فيه عدسة التصوير الا بضعة اشبار ، قد تكلل بالنجاح و استحسان آراء جميع المشاهدين و النقاد، مشكّلًا محطة مفصلية في هذه الفئة من الاعمال التي تعتبر صعبة التنفيذ، تستلزم مجهودًا فكريًا و حواريًا عميقًا .

عمل أضحى منارة لكل من أتى من بعده وانتهج قوة السيناريو و النص في تكوين فكرة خالدة في ذاكرتنا السينمائية لا تشيخ .

١٢ رجلا غاضبًا يعد واحدًا من أعظم الأفلام على الإطلاق،  و في عام 2007 اختير الفيلم للحفظ ضمن الأرشيف الوطني السينمائي من قبل مكتبة الكونغرس، لكونه إرثًا “حضاريًا وتاريخيًا و جماليًا “.

Leave a Comment