المهندس طلال عبدو
خلافاً لما كان من قبل، لم يعد يستمع الى خطابات السيد حسن نصرالله سوى جمهور المقاومة. يضم جمهور المقاومة بالإضافة الى حزب الله حركة أمل والتيار الوطني الحر وحلفاء الحزب الآخرين المُلحقين به. والسيد نصرالله يقصد أساساً أن يوجّه كلامه لجمهوره، خاصة وأننا على أبواب انتخابات المقيمين، وبعد أن أصابت مشاهد ونسبة انتخاب المغتربين الحزب وحلفاءه بالهلع. لطالما استمتعت بالاستماع الى خطابات السيد بكل عقل منفتح، فأخال كلماته تدخل الى عقلي دون أن تمر في أذنيْ. هو ذلك الخطيب المميّز الذي لا نظير له. يأخذ المستمع الى الفكرة التي يريد إرساءها بسهولة، وبتراتب أفكار وتفاوت نبرات مُلفِت حقّاً.
لا أعتقد أن إنساناً يستطيع أن يلقي خطابات كهذه دون أن يكون مقتنعاً تماماً فيما يقول، وأستثني هنا الأحداث التي قد توجِب تشويه الحقيقة كتفجير المرفأ والإغتيالات والتغطية على فساد حلفائه. ما يهمني هنا هو كلامه في الأمور الداخلية اللبنانية التي يبدو أنه يقولها عن اقتناع، وهو مخطيء فيها الى حد الخطيئة. حبّذا لو يقرأ السيد ما أقول وبعقل منفتح تماماً كما أستمع اليه!
يقول السيد إن “بلدنا هيك مجموعة طوائف”، ويدافع عن فكرة التوافق الوطني في ممارسة الشأن العام وإدارة أمور البلد، وهو يريد استمرار السير بحكومات التوافق التي ألغت دور المجلس النيابي وأخذتنا الى الهاوية، التي ما زلنا نحفر في قعر قعرها ونكتوي بنارها. وهو من هذا المنطلق يؤكّد استحالة إدارة البلد من طرف واحد، وهو مقتنع أنه هو وحده الذي يواجه اسرائيل، وان مشروعه في مواجهة اسرائيل المُقتصر على مراكمة السلاح والخبرات القتالية هو المشروع الأوحد الصحيح. يعترف السيد بأنه أعلن عن مواجهة الفساد منذ سنوات، ويذكًر بأنه عندما أعلن عن هذه المواجهة، قال بأن مواجهة الفساد أصعب من مواجهة اسرائيل، ثم يأتي على ذكر “الرؤوس الكبيرة”، وهي الكلمة التي قالها نائبه حسن فضل الله وكانت وما زالت محل تعليقات ساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي. ويتوقّف طويلاً عند موضوع أموال المودعين فيطالب بإقرار قانون في مجلس النواب يمنع أي جهة من المس بها. ويقول بأن مجالس إدارة المصارف هي المسؤول الأول عن ضياع أموال الناس.
أتّفق مع سماحة السيّد تماماً في موضوع تحميل المصارف المسؤولية الأكبر في موضوع أموال المودعين، وأسأله عن قانون الكابيتال كونترول الذي حوّلته حكومتُه، التي له فيها اليد الطُولى، والتي لا يوجد فيها لا القوات اللبنانية ولا أحزاب أو مجموعات 17 تشرين، الى المجلس النيابي. كيف يا سماحة السيد يصل الى المجلس النيابي قانون بين بنوده إبراء لمجالس إدارة البنوك، ومنع للمودعين من ملاحقتهم أمام القضاء اللبناني وأمام أي قضاء آخر؟ كيف يصل الى المجلس النيابي قانون يحصر البت في كل أمور الأموال المودعة بلجنة مصغّرة، تضم متهمين بإضاعة أموال وتعب الناس بينهم حاكم مصرف لبنان؟ ماذا يفعل وزراؤك ووزراء حلفائك داخل مجلس الوزراء؟ أنت لم تأتِ على ذكر كل هذا لجمهور المقاومة. وطبعاً لم تأتِ على ذكر أن من واجه هذا القانون المجرم هم أحزاب ومجموعات من 17 تشرين، ووسائل التواصل الإجتماعي تشهد على تناديها لمنع وصول النواب الى جلسة المجلس النيابي المخصّصة لإقرار هذا القانون. أحزاب 17 تشرين أجهضت جلسة مجلس نوابكم التي كانت تريد إقرار قانون حكومتكم وأحزاب 17 تشرين لتحمي أموال المودعين من عصابات الحكومة والمجلس، ولم يحمِها حزب الله وتأتي مناداتك بحماية اموال المودعين، ومن منطلق ديني كما قلت في خطابك، إقراراً بما قامت به أحزاب 17 تشرين في مواجهة وزرائكم ونوابكم. ثم أليست تلك الودائع ثروة وطنية كالثروة النفطية تستحق الدفاع عنها قبل وعدم استسهال التفريط بها وهدرها.
لا تتّفق مباديء 17 تشرين ومعظم أحزابها ومجموعاتها مع سماحة السيّد أبداً في الاستسلام الى مقولة أن “بلدنا هيك”، وأنه لا يجب أن يُحكم إلّا بالتوافق، لأن هذا بالذات هو الإطار الذي يسمح بنهب حقوق اللبنانيين دون محاسبة. وهذه هي الوصفة السحرية التي تتمسك بها جميع أحزاب السلطة لتضييع المسؤولية، واتهام بعضها البعض أمام جماهيرها، وتنصّل كل منهم من المسؤولية. بعد كل الذي جرى تعود فتؤكّد على تمسّكك بنفس الوصفة التي دمّرت اقتصاد لبنان. ومن الواضح أنك مقتنع بأن هذا الطريق هو الوحيد الممكن وأحزاب 17 تشرين تقول بأن هذا الطريق دمّر اقتصاد لبنان، وهذا الطريق منع الكهرباء عن لبنان، وهذا الطريق حرم اللبنانيين من وظائفهم ودوائهم وأولادهم وتعويضاتهم وأبسط حقوقهم، وحوّلَهم الى متسوّلين لمالهم في المصارف، ولليتر البنزين لتنقّلهم، ولليتر المازوت لتدفئة صغارهم. ولا بد أن نسأل ماذا أنجزتم خلال سنتين ونصف من الكارثة التي نحن فيها؟ ولماذا ضيّعتم أشهراً وأشهراً في تأليف الحكومات أنتم وحلفائكم؟ ولماذا تركضون الآن لكسب ود صندوق النقد الدولي للحصول على 3 مليار دولار، وحكومتكم برئاسة حسان دياب والإدارة “الحكيمة” في وزارة الإقتصاد كان لديها أكثر من 30 مليار دولار أضاعتها في دعم تجار المواد الغذائية، فدعمت تجار أكثر من 300 صنف بينها أصناف الدايت والكاجو. نقول لجمهور المقاومة وبكل ثقة طالما أن هناك حكومات توافق طالما أن تحاصص الدولة مستمر. وطالما أن الفساد مستشرٍ، وطالما أن ايداعات اللبنانيين في الإغتراب ضائعة، وحقوق الناس منهوبة، ولا مجال لكسر ذلك إلّا بأن تؤلّف حكومة إنقاذ من فريق واحد موثوق، يحمل المعرفة والخبرة والحكمة اللازمة من خارج مفهوم التحاصص المعتمد من المنظومة الظالمة المذنبة.
المسؤول عن الكارثة التي نحن فيها ليس السياسة النقدية، ولا الحصار الاقتصادي المزعوم، المسؤول هو سوء ادارتكم أنتم وخصومكم أنتم المتحصنون جميعاً بمنطق أن “بلدنا هيك”، وتصمّون آذانكم عن سماع صراخ الشباب اللبناني في النوادي العلمانية، والمجموعات والاحزاب العلمانية التي تنادي بالعلمانية، من منطلق رفض مقولة أن “بلدنا هيك”، ومن منطلق حصول الناس على حقوقهم كاملة بمعزل عن انتمائهم الطائفي، ومن منطلق القناعة التامة وبالدليل القاطع أن استمرار لبنان بالسير على طريقتكم، إنما يؤدي الى مزيد من الدمار الإقتصادي، ومزيد من هجرة الشباب، ومزيد من الآلام. من غير المقبول يا سماحة السيّد أن تدافع عن حليفك جبران باسيل دون أن تسمّيه، واللبنانيون غارقون في العتمة ينزفون جنى أعمارهم فواتير لأصحاب المولّدات، ودون أن تخبرنا كيف أن وزارة الطاقة ترفض عروضاً كمثل عرض ال BOTمن شركة سيمنز الالمانية بكلفة 8 سنت للكيلوواط الواحد خالص مخلص ومدة تنفيذ 18 شهراً؟ كيف تدافع عن هذا الحليف الذي أهدرت مؤسسة كهرباء لبنان تحت وصايته عشرات مليارات الدولارات؟
إن طلبكم من اللبنانيين في إطار “حربكم” ضد الفساد أن يتحمّلوا خمس سنوات اضافية، كان على الأقل يجب أن يستند الى أدلة أو إشارة، أن لبنان تقدم ولو قليلاً في الاتجاه الصحيح، منذ أن اعلنتم عن حربكم ضد الفساد. غير أن لبنان يستمر بتراجعه في هذا الاطار فهو تراجع من المرتبة 63 على مؤشر الفساد العالمي في العام 2006 الى المرتبة 149 في العام 2020 وكان قد وصل الى المرتبة 143 في العام 2016 (وهو العام الذي رضخ فيه الجميع الى فرضكم ميشال عون رئيساً للجمهورية متخطّياً حتى مفهوم التوافق الذي تؤكّد عليه في خطاباتك)، وهذا يؤكّد أننا نسير في الاتجاه الغلط، ولن نصل الى ربح المعركة بعد خمس سنوات كما تعدنا.
أتمنى عليك سماحة السيد أن تستمع الى أمثالنا للخروج من هذه الكارثة المدمّرة التي نحن فيها، وأعتقد أنك تعلم أن مواجهة اسرائيل بالسلاح بمواطنين وبلد مدمّريْن اقتصادياً لا معنى لها، وأن بلداً حجم اقتصاده الذي تراجع من أكثر من 50 مليار دولار الى أقل من 20 مليار دولار في وقت يشارف فيه حجم الاقتصاد الاسرائيلي على 500 مليار دولار هو حتماً يسير في اتجاه الهزيمة الساحقة. ولا بد أنك تعلم أن تحقيق دولة المُواطِنة القوية في لبنان والعادلة التي لا تميّز بين مواطنيها الذين يخضعون جميعاً للقانون، والسير في اتجاه التخلّص من توافقية الطوائف لصالح المصلحة العامة هو السلاح الأمضى في وجه اسرائيل التي تسعى الى اعتراف عربي و دولي بيهودية الدولة الإسرائيلية. من هنا نقول إن معركتنا هي في الداخل، وأنتم فشلتم في إدارة هذه المعركة، ونحن نريدكم أن تربحوها معنا. ولكن الخطوة الأولى هي في أن تعترفوا بهذه الخسارة، فهل تخرجون من برجكم العالي الى حيث نحن فقراء الشعب اللبناني المحرومين المظلومين؟
وأخيراً اسمح لنفسي سماحة السيد أن أؤكد على دعوتكم اللبنانيين بتحمّل المسؤولية التاريخية والإقتراع بكثافة في صناديق الإقتراع، ولكن دعماً للتغيير، وليس دعماً للنهج الذي دمّر اقتصاد الدولة وفشل فشلاً مدوّياً في إدارتها.
Leave a Comment