ثقافة

بيروت بين حدّي البحر والحرب (2)

زهير هواري*

ــ الجزء الثاني

بيروت النهايات والبدايات

… لعله من مصادفات الحظ العاثر لبيروت أن حداثتها أرَّخت للفكر النهضوي العربي منذ نهايات القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين في العديد من المجالات والحقول ، والآن عليها أن تعيش وتكتب نهايات هذه المرحلة، دون أن تجد الأكسير المفقود الذي يعيد إليها نبض الحياة والدور. اذا عدنا إلى الحلقة الأخيرة من السلسلة نجد أن ما صاغه العقل السياسي اللبناني راهناً، لا يعدو أن يكون ما أسماه التوافقيه السياسية التي آذنت شمسها بالأفول بألف دليل ودليل. علماً أن كل ما قادت إليه ليس أكثر من تقاسم الدولة والوزارات ومؤسساتها ومعهم الناس. باتت لكل طائفة الموقع الذي تحدده وتمليه التوازنات الداخلية بين قواها ومرجعياتها السياسية الطائفية معطوفاً على وزن وقوة دعمها الخارجي. ومعه تراجع كل ما هو مشترك في حياة اللبنانيين السياسية والإدارية والاجتماعية، بمساعدة ملموسة من وباء كورونا. لكن، وخلافاً لما عرفته هذه المدينة قبلاً، كانت تنتج مع كل أزمة ومأزق وجودي لها وللكيان الذي مثلت قلبه، مشروعاً ما، يحمل كما يعتقد أصحابه طريق خلاص وخروج من المستنقع (محلي، سوري، قومي عربي، يميني، يساري). الآن انتهت التوافقية لصالح هيمنة طاغية، ونتيجة الخواء العام لم ينشأ أي  أفق سياسي بديل، أو مشروع تغييري أو اصلاحي محمول من قوى مجتمعية واسعة لبنانية قادرة على الكفاح لفرضه، أو لفرض بعض بنوده على السلطة وحُماتها على الأقل. لا شك أن اليمين في لبنان حمل خلال الحرب الأهلية مشروع الدفاع عن النظام والصيغة كما اعتُمدت وتكرست منذ الاستقلال وحتى اندلاع القتال، وقاتل من أجله على الجبهات في العاصمة وفي كل الأمكنة التي وطأتها أقدامه. اليسار اللبناني المتحالف مع المقاومة الفلسطينية بدوره حمل مشروع تغيير أسماه”البرنامج المرحلي للحركة الوطنية اللبنانية ـ من أجل اصلاح ديموقراطي للنظام السياسي في لبنان “، لكن ما حدث نتيجة تلك الحرب أن اليمين خرج مهزوماً ومثله اليسار أو الحركة الوطنية . فقد اغتيل قائدها كمال جنبلاط، كما تبعه بشير الجميل بعد خمس سنوات. واجتاح النظام السوري البلد وطوَّع القوتين ، ثم مالبثت اسرائيل أن غزت لبنان واحتلت عاصمته ومزقته شرَّ ممزق، وعندما اضطرت للانكفاء، كانت البنية الطوائفية قد أطلقت كل نوابض قوتها الكامنة وسط غياب الانقسام التقليدي يمين ويسار ووسط ، ليحل محله طائفية عارية : مسلم ـ مسيحي وسني ـ شيعي ودرزي وكاثوليكي وأرثوذكسي وغيره بمسميات لتيارات وأحزاب مموَّهة. والانقسام الداخلي تعمق وجرف معه سائر مكونات المجتمع من أحزاب ونقابات عمال واتحادات مهنية ونوادٍ ومرابع ثقافية، ومعه ازداد قيد التبعية للخارج إحكاماً. المحاولات التي بذلت من أجل إعادة بناء موقع المدينة الذي لا يمكن له أن ينهض على قاعدة طائفية، واستغرقت عقدي التسعينيات وأوائل الألفية الثانية، لم تتقدم بالوضع ولو خطوة واحدة إلى الأمام. وكأن المدينة باتت أسيرة قيودها ومصيرها المحتوم.

لا يمكن قراءة بيروت بكل ما فيها دون فتح دفاتر الحرب الأهلية وما رافقها على مختلف الأصعدة والميادين. لم تكن المدينة هادئة قبل العام 1975، كما لم تكن حياتها السياسية والاقتصادية ومجتمعها مثالياً. كانت بيروت أشبه ما تكون بمرجل تغلي  فيه مختلف القضايا القومية والوطنية والاجتماعية دفعة واحدة.. حتى أنه يمكن القول بثقة إن الحرب الأهلية كانت واقعة قبل تاريخها الرسمي بسنوات. وكان مثل هذا الخليط داخل هذا المرجل بالنار التي تضطرم تحته الوصفة المثالية للانفجار الذي يغطي انفجاراً سبقه. لذلك كانت الجولات القتالية تتلاحق ومعها منوعات العنف. عنف مركب ومتداخل يضغط على ناسها وأهلها ويصل إلى شطرها شطرين . وهذا حديث يطول ، خلال الحرب الأهلية إنقسمت بيروت إلى بيروتين ، واحدة شرقية وثانية غربية . وكان هناك ما يشبه الجدار الذي يشطرها من مفرق شعرها إلى أخمص قدميها ، وله بوابات تشرف على فتحه وتسكيره الميليشيات. وكان طريق الشام هو خط التماس الممتد من المرفأ صعوداً حتى الشويفات وكفرشيما. النتؤات جرت تسويتها سواء أكانت في الفنادق أو في الكرنتينا والنبعة والدامور. وتوصل فريقا الحرب إلى ما يشبه االاتفاق على بقاء الحال على ما هو عليه، بينما قضت التوافقات العربية الدولية لاحقاً بعد الاجتياح الصهيوني وبعدما استنفذت الحرب أغراضها، وخرج المقاتلون الفلسطينيون منها، تكليف العرَّاب السوري بفرض بنود الطائف، فجرى استحضار أمراء الحرب أنفسهم لصناعة السلام مُطعمِّين هذه المرة بوعود الاستثمار المالي والعقاري.

   استفاق أهل بيروت من كابوس الحرب ليشاهدوا جرافات الإعمار تكتسح الشوارع. وتقضي على ما تبقى من ذاكرتهم المشتركة في وسط مدينتهم ، حيث جرى تدمير أحياء بأكملها، ومنع السكان من العودة إليها، وتحولت ملكياتهم فيها إلى أسهم ورقية في شركة عقارية ، وبوشر بعدها بإعمار ليس كأي إعمار. فقد تحول “البلد” كما يطلق عليه البيروتيون، أو قلب العاصمة إلى قلعة للأثرياء لا علاقة لها بمحيطها الذي جذبته إليها، ومعه كل اللبنانيين من مختلف مناطقهم ومنابتهم الاجتماعية والسياسية والطبقية. لم ينج من النسيج القديم سوى بعض المباني والأحياء لضرورات الديكور في مشهد  مدينة تزيل عنها ركام المباني دون أن تنزع عن جسدها ثياب الحرب. مجرد ديكورات ومناظر حية من المراحل العثمانية والانتداب الفرنسي … ولم يؤد مشروع الإعمار في الحقيقة سوى إلى تكريس ما أنتجته الحرب من تجزئة لحيز واجتماع وفكرة المدينة ، بل أعاد انتاج شروط اندلاع حروب جديدة عبر إنكار ذاكرتها المجروحة ومركزية وسطها وفرادته.. كان المعلن أن هذا المشروع من شأنه أن يعيد لبيروت الدور الذي فقدته كمركز تجاري ومالي وسيط بين الشرق والغرب ، بينما تسمح الهيكليات المالية بتحويله إلى ملاذ آمن للمتمولين من أثرياء البلاد العربية والعالم. ومع هذا التحول  بات قلب المدينة جسما ميتاً لا تدب فيه الحياة، إلا عندما يقصده  المتظاهرون لممارسة غضبهم، كي يُسمعوا مطالبهم للنواب في المجلس ووزراء الحكومات في السراي، وليدونوا على جدرانه المهجورة كلماتهم المستقيمة والبذيئة والفصيحة والمبهمة على حد سواء . وهكذا بات ” البلد” مكاناً  نخبوياً لا علاقة للناس به. فقط مكان تقتصر وظيفته على  النشاطات التجارية للشركات الكبرى واستقبال التظاهرات. لم يعد لهذا الوسط كما جرت صياغته علاقة بالبعد الاجتماعي للمدن، بعد أن محيت “الذاكرة المشتركة” للأهالي، وجرى تذويبها ضمن حملة من البهرجة الدعائية، بينما كانت تتشظى المساحات المشتركة وتتكرس نتائج انشطار المدينة الطائفي. وعليه، أنشأت كل طائفة إلى حد ما وسطها الخاص، بعد أن أصبحت المدينة أو بيروت القديمة مجرد  دائرة معزولة عن مداها ومحيطها الاجتماعي والسكاني. المفارق أن العديد من الأحياء الشعبية القديمة التي سلمت من تلك الحروب تطورت  إلى مراكز لحياة المدينة، بعد أن حافظت على الطابع الأصيل لعمرانها وألفتها المدينية كملتقى تواصل اجتماعي لبعض الفئات والشرائح الشبابية خصوصاً. مصدر المفارقة أن هذه الأحياء التي باتت محطة تجمع للمطاعم والمقاهي والمسارح ومعارض الرسم والنحت وغيرها، هي التي تضررت في انفجار المرفأ، وكأن هناك من يتقصد إزالة ما تبقى من ذاكرة وشخصية المدينة بتناقضاتها وتنافرها وتكاملها. وكما شهدت المرحلة الأولى من الإعمار هجوماً عقارياً بهدف استبدال الأبنية التراثية والشوارع بكتل أسمنتية دون روح، تتكرر اليوم الحالة نفسها على المناطق المنكوبة في الجميزة – مار مخايل والمدوَّر ومونو والأشرفية لتدمير ما تبقى من مجتمعها وتناسقها المعماري والمدني.

بيروت الواحة والسراب

بات مصير أعرق الجامعات في لبنان على محك الانهيار. كان نشوء الجامعتين الاميركية ( 1866) واليسوعية ( 1875) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بشيراً بانطلاقة حداثة المنطقة. الآن الجامعتان مهددتان في بقائهما كصروح علمية مفتوحة على ما تنتجه الثقافتان الانجلوفونية والفرانكوفونية من منوعات الفلسفة والأفكار والعلوم، ومع الجامعتين الجامعات: اللبنانية والعربية واللبنانية الاميركية وروح القدس واللويزة و.. عشرات الجامعات الخاصة تطرح على نفسها أسئلة البقاء أو الفناء. وفي خضم أسئلتها المقلقة وجهت أكثر من نداء وبيان طرحت فيه إشكالية بقائها واستمرارها وسط كارثة زاحفة على البلاد، وعجز عن تأمين متطلباتها التشغيلية حتى، مثلها مثل مئات المصانع والمؤسسات التجارية والخدماتية والفنادق والمطاعم ودور السينما والمسارح، والباقية منها  تحذر من أن بقايا الرمق الذي تعمل فيه على قيد النفاذ قريباً. ولم يسمع أحد صرخاتها ، وكأن نداءاتها وتحذيراتها أُطلقت في واد مقفر. أكثر من ذلك باتت المقاهي التي مثلت في مراحل معينة مسرحاً لتطارح الأفكار والفلسفات بدءاً من داروين إلى الماركسية والوجودية والقومية بوجهيها السوري والعربي وطروحات اليمين واليسار والمقاومة وتجارب الثورات في خبر كان. هذه المقاهي التي استقبلت رواداً من مختلف الاتجاهات والمشارب ومن جنسيات لبنانية وفلسطينية وعربية ومتوسطية وغربية والتي كانت دليلاً على تلك المساحات المتاحة من الحريات والجدل حول أحدث الإصدارات والاتجاهات… باتت منذ سنوات محالاً لوجبات الطعام السريعة، أو لبيع الثياب الصينية والتركية. عانت المدينة وبدت كأنها تفقد روحها وتلفظ آخر أنفاسها. ولم يقتصر الأمر على المقاهي ، تجاوزت ذلك إلى الصحف التي حملت الاتجاهات العربية والمواقف المختلفة، فاختفى البعض ومن بقي على الطريق، دور النشر التي زوَّدت العواصم العربية بأحدث إصداراتها، والشعراء والأدباء الباقين أحياءً والذين طالما تهافتوا عليها، هجروا مطابعها وصفحاتها الثقافية ومنابرها العامة. دور السينما والمسارح ومعارض الفنون ليست أفضل حالاً، تلاشى أكثرها منذ عقود، أما استمرار بعضها القليل فهدفه  تسجيل الوجود والبقاء على قيد الحياة لا أكثر، فلعل وعسى.

فصل في مشهدية لبنان 

مضى على إعلان ولادة لبنان الكبير مائة عام، وبالتالي مضى قرن على ما يمكن وصفه بأنه تاريخ هذه البلاد الصغيرة المضطربة في سلم أهلي بارد دوماً، أو ملتهب لسنوات وعقود، وغاب مشهد  الجنرال غورو بثيابه العسكرية ويده المقطوعة، ومن حوله زعماء الطوائف في مشهد احتفالي مصوَّر ومرسوم بالريشة على لوحة كبرى في قاعة قصر الصنوبر، لكن رئيس جمهورية فرنسا ماكرون حضر إلى القصر نفسه بكامل أناقته الباريسية، والتقى بزعماء الطوائف طارحاً ضرورة التوصل إلى حل للمأزق الذي يهدد الكيان والنظام بالإندثار، أو على حد وصف وزير خارجيته مؤخراً بمصير سفينة التيتانيك التي تغرق إلى قاع المحيط، بعد أن ارتطمت بجبل الجليد، ولكن من دون أن تُعزف لها سيمفونية الوداع. الرئيس الفرنسي وجد أن الطبقة السياسية تغيرت بعض الشئ ، الكبار رحلوا وحضر أبناؤهم وأحفادهم. وجوه جديدة أضيفت إلى طبقة قديمة ما تزال تمارس حساباتها وألاعيبها. بالطبع تغيرت أسماء بعض عائلات بين الذين حضروا، لكن من هرعوا إلى اللقاء لا يقلون “غرضية ” مبيَّتة في دواخلهم عن أجدادهم، وإن كانوا مثلهم جاؤا بوصفهم ممثلين مخلصين للطوائف التي تتكون منها الطبقة السياسية الحاكمة، وإن حملوا أسماء مختلفة عن سابقيهم. وكلٌ قال كلاماً طيباً بحضرة ماكرون، وأعلنوا تأييدهم لمبادرته في إنقاذ أنفسهم وإنقاذ لبنان . كان الكلام “عاطفياً” من الجميع،  بعد أن كانت في آذانهم ما تزال تسمع دوّي انفجار المرفأ ومشهد انفجاره الفطري، وما قاد إليه من موت وجراح ودمار، ولكن شيئاً فعلياً لم يتغيّر بعد. للدلالة يمكن أن ننظر إلى اللوحات التالية:

– لوحة أولى، يجتمع مجلس النواب ليناقش قانون العفو العام ثانية ، فينقسم على نفسه. أما سبب الانقسام فهو لأن المقايضة بتفاصيلها لم يتم الاتفاق عليها بين ممثلي الطوائف. الثنائي الشيعي يصر بناءً على تعهدات انتخابية سابقة له على حصول المتهمين والملاحقين من مزارعي وتجار ومدمني المخدرات في منطقة بعلبك – الهرمل على هذا العفو، وعددهم قرابة خمسين ألفاً. القوى السُنية ترى في العفو سبيلاً لإطلاق سراح الاسلاميين المتهمين بالارهاب، سواء أكانو محكومين أو غير محكومين، وقد سبق وتعهدوا لذويهم باطلاقهم. القوى المسيحية والمارونية تحديداً بدورها تلح أن يكون القانون المقترح مدخلاً لعودة من يسمونهم المُبعدين إلى اسرائيل، وعددهم عدة الآف أو أقل، وقد أكدوا لهم أن نفيهم سوف ينتهي قريباً. ينعقد المجلس ثم ينفرط عقده دون التقدم خطوة في البحث، باعتبار أن الصفقة لا تتم داخله بل في أمكنة أخرى أبعد من كواليس الكتل النيابية، بينما وباء الكورونا ينهش البلاد ومعها السجون ومن فيها.

لوحة ثانية، عندما تعلن شركة التدقيق الدولية ” الفاريز أند مارشال ” عن قرارها فسخ عقدها مع الدولة اللبنانية لتدقيق حسابات المصرف المركزي بعد أن رفض حاكمه مدعوماً من جمعية المصارف والعديد من الكتل السياسية تسليمها الوثائق التي تطالب بها، يبعث رئيس الجمهورية بعدها برسالة إلى المجلس النيابي بناءً على حقه الدستوري في توجيه الرسائل للسلطة التشريعية حول الأمر، يلتئم المجلس في جلسة لدراسة الرسالة. ويتخذ قراراً (ولا يُصدر قانوناً) أن يشمل التدقيق كل الوزارات والمؤسسات والصناديق العامة. وفي جلسة ثانية يشرِّع بإزالة السرية المصرفية عن سائر المؤسسات العامة بدءاً بالمصرف المركزي وصولاً للوزارات خلال العام المقبل. والأمر برمته مرهون بالتنفيذ باعتبار أن الوزارات التي يطالها التدقيق جرت المداورة على مسؤولياتها وعاثت كل الطوائف الحاكمة تقريباً فيها فساداً .

 – لوحة ثالثة ، يستدعي المحقق العدلي القاضي فادي صوان كلاً من رئيس الحكومة الحالي وثلاثة وزراء هم ممثليْن للثنائي الشيعي في السلطة التنفيذية، وثالث ممثل لتيار المردة الماروني، فتهتز الأرض وتتزلزل العلاقات بين الطوائف ومرجعياتها، ويتضامن رؤساء الحكومات السابقون مع دياب ويجري احتضانه بعد نبذ، مؤكدين رفضهم تجاوز الدستور وآليات القوانين، ومعتبرين أن استدعاءه يطال مقام الرئاسة الثالثة والطائفة السُنية. وعلى حذوهم يحذو رئيس المجلس النيابي في رفض حضور الوزيرين وهما عضوين في حركة أمل وفي الهيئة البرلمانية العامة، لأن هؤلاء مع الرئيس دياب يحاكمون فقط أمام هيئة محاكمة الرؤساء والنواب والوزراء غير الموجودة إلى الآن. المضمر في كل ذلك هو أن استنسابية حكمت الاستدعاءات التي يجب أن تطال مع دياب رئيس الجمهورية ووزراء آخرين لم يتم استدعاؤهم.

لوحة رابعة، يجري التعهد أمام الرئيس ماكرون في لقاء قصر الصنوبر أن تتم الموافقة على تشكيل حكومة من الاختصاصيين المحايدين لزوم إنقاذ النظام والكيان . وأن يتولى وزراء مشهود لهم بنظافة الكف والنزاهة وعدم الالتزام بأي من الأحزاب والقوى الحاكمة مسؤولية الوزارات، دون أدنى اعتبار لكون هذه الوزارة أو تلك من حصصها. يوافق الجميع على الطرح، وبعد رحيله يشرعون بدءاً من الثنائي الشيعي مروراً بالتيار الوطني الحر وصولاً إلى سواهما في نقض مبدأ عدم التمثيل السياسي المباشر أو التعيين في وزارة محددة… ثم تتشعب التعقيدات أمام الرئيس المكلف وتنعقد دزينة من اللقاءات والاجتماعات في القصر الجمهوري لتنتهي باشتباك اعلامي ـ سياسي بين رئاسة الجمهورية والمكتب الاعلامي للرئيس سعد الحريري.

– لوحة خامسة ، لم يكن حضور ماكرون يتيماً في باب التدخلات الدولية والاقليمية، إذ إن العديد من الدول سارعت بعد التفجير إلى إرسال إعانات غذائية وطبية وغيرها على عجل، دون أن يعني ذلك أن تلك الدول كانت تنطلق من موقف التضامن البرئ مع الشعب اللبناني، أو السكان المفجوعين بالتفجير فقط. إذ لكل واحدة من هذه الدول حساباتها السياسية والاقتصادية. ودون استعراض هذه الدول وطموحاتها في منطقة باتت ملعباً لخيول كل منها، يمكن القول إنها تطابقت في مصالحها مع مصالح القوى الطائفية الداخلية. وكل منهم لا مصلحة له بالوصول إلى تغيير حقيقي يُخرج البلاد من المستنقع الذي تتخبط فيه. القوى الدولية والاقليمية على حد سواء يهمها بقاء مثل هذه الطبقة ممسكة بزمام الأمور، مقابل تبادل المنافع معها. وكلٌ يؤدي الدور الذي تفرضه عليه مصالحه سواء أكانت آنية أو بعيدة المدى. فلبنان ما زال في موضعه، وللجغرافيا أو الجغراسيا والمصالح مكانتها الوازنة في عالم اليوم، كما كانت عليه بالأمس.

لوحة سادسة، تعقد حكومة تصريف الأعمال جلسة غير مكتملة النصاب كي لا تتجاوز الدستور الذي ينص على تصريفها الأعمال بالحد الأدنى لمناقشة ترشيد الدعم الذي يقدمه المصرف المركزي للأساسيات التي تدخل في الاستهلاك اليومي للمواطنين، وهي هنا: الخبز والأدوية والمحروقات. يأتي هذا في ما فقدت الليرة اللبنانية ما يقدر ب80%  من قيمتها ، وحاز لبنان على المرتبة الثانية في نسب التضخم بعد فنزويلا وقبل دولة الموزامبيق ( حوالي 400% )، وبات أكثر من 50 % من سكانه فقراء . مرد الاجتماعات التي حضرها حاكم المصرف المركزي إلحاحه على ضرورة وقف أو ترشيد الدعم، بعد أن وصل الاحتياطي الذي يملكه إلى حافة الخط الأحمر. ودون الدخول في تفاصيل الدعم وكيف ومن يهربه إلى الخارج، وبعد مداولات وبحث مستفيض يرجأ الموضوع بأكمله . ولا ضرورة للمزيد من الكوميديا السوداء في هذا الاستعراض المسموم.

ولكنها تدور 

أكد جاليلو أن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس . هذه العجالة التي تعبر عن مدى “تضلع” الطبقة السياسية الحاكمة بشؤون البلاد والعباد، ولاسيما في مرحلة يُعاد فيها رسم خرائط المنطقة، لا يعني أن الأرض قد توقفت عن الدوران . اليس غريباً أو مثار استهجان مثلاً أن العواصف الكبرى التي تشهدها الدول المحيطة منذ سنوات لم تدفع لا المجلس النيابي أو الحكومة لعقد جلسات نقاش حول ما ترتبه على لبنان ومصيره ودوره في محيطه من احتمالات ومهام وأعباء. هذا اذا لم نتحدث عن التحولات والكوارث الداخلية وآخرها تفجير المرفأ . نقاشات بمثابة مقدمات تمهيدية لإقرار ما يتطلبه ذلك من سياسات وتوجهات.

لكن المؤكد أن لبنان رغم ما أصابته به الحروب من جراحات وندوب، ما زال يلعب دوره منذ حدث قيام دولته المستقلة بحدودها المكرَّسة في الأمم المتحدة. إذ إلى جانب التاريخ السياسي “الشائن” لطبقة المتحكمين راهناً بمقاليد الأمور، هناك تاريخ آخر موازٍ له في مجالات الحضارة والفلسفة والصحافة والثقافة والأدب بفروعه والفن، وفي دورالمدرسة والجامعة والمستشفى ودار النشر والمقصد السياحي وما لا يُعد من مجالات ودروب . وقد لعبت فيها بيروت ولبنان أدواراً تجاوزت فيها الجانب المحلي أو الوطني إلى الاقليمي العربي، وكانت بمثابة دليل على طاقة متوهجة يعبر فيها الانسان العربي عن نزوعه للخوض في نهضة متجددة ومتجذرة في ترابه. لذا لم يكن غريباً أن تنشأ فيه وبداخله أعمال مخبرية سياسية وفنية باتت منطلقاً لتجارب طالت المشرق والمغرب العربي. ومثل هذا الدور نهضت بأعبائه النخب الفكرية أياً كانت اتجاهاتها، بعد أن تعالت على جماعاتها الأهلية الأصلية، وأطلقت عملية باتت نقيضاً للسائد والمألوف الطوائفي..

وعليه، لا يمكن المقارنة بين الحياة السياسية بتناقضاتها وأعطابها، وبين حيوية عبر عنها المجتمع عبر أشكال من الجدل الفكري والحضور الحضاري العصري. هذه الحيوية أكدت على دينامية المجتمع اللبناني في شتى المراحل والقطاعات. وهي بالتأكيد ما مكنت لبنان من البقاء والتفتح ومتابعة الحضور في الوجدانين العربي والعالمي الذي قدم مساعداته للناس، وليس للدولة بمؤسساتها الفاسدة والمرتهنة بعد جريمة تفجير المرفأ. ولعله ليس من قبيل المصادفات أن يلجأ السياسيون إلى التخفي ، بينما تحضر في الشوارع ومنابر الاعلام أصوات كانت حتى الأمس القريب مكمومة بالنكران والنبذ. أصوات مثقفين وصحافيين وكتاب وشعراء ونقابيين وطلاب المدارس والجامعات وعمال وربات منازل ومهنيون وحرفيون وصناعيون وعاطلون عن العمل وتجار وباعة. وأن يشهد الوسط التجاري “منابر مفتوحة” تنطلق فيها ألسنة النخب والعامة متجاوزة الانقسامات الطائفية والمذهبية، لنقض الزعامات الطائفية التي جرى وضعها سابقاً في مرتبة المقدَّس الذي لا يُمس.. وكلهم يعمل على شق طريقه في وعر مترسخ على امتداد قرون من أجل بناء مجتمع وثقافة مدنية نقيضة لانغلاقات الطوائف وأحكامها القطعية على الآخر.

تقف بيروت الآن ومعها كل لبنان على مفترق طرق خطير وبالغ التعقيد. إذ إلى جانب الخراب المقيم الذي لا يجد من يعيده إلى الحياة في المرفأ وجملة الأحياء المنكوبة، مع مضاعفات تتعدى مسرح الجريمة إلى مختلف الأنحاء اللبنانية، هناك قضية الثقافة السياسية الطوائفية التي استعادت الروح وإن بنبض ضعيف، لكنه قابل للتفعيل .وهي ثقافة تشمل جماهير الطوائف التي ما تزال حاضرة وقادرة على تأكيد وجودها متى دعا إليها داعي الزعامات السياسية – الطوائفية، التي ما تزال تمسك ليس بمفاصل الدولة ومعها جملة مصالح شرائح المجتمع الذي يتعيش من علاقته بها كزبون. يقدم ولاؤه لها مقابل تجديد سلطتها ومواقعها وإعادة انتاجها ثانية . إن ما شهدناه في الأشهر الأخيرة من شعارات طائفية ومذهبية صارخة يتغذى من غرق البلاد في لجة انهيار اقتصادي مالي بعد أن نُهبت أموال الدولة والمواطنين وودائعهم المصرفية . وبات مصير هذه الودائع مشكوكاً بتحصيل أجزاء منه ، ما يعني أن الأيام المقبلة ستكون أشد وطأة على البلاد . ولعل تأكيد المصادر المالية الدولية من صندوق النقد إلى البنك الدولي والاسكوا وغيرهم على مجاعة مقبلة أن يكون الصاعق الذي من شأن اشتعاله في ظل غياب قوى ديموقراطية منظمة ومؤطرة، أن يقود إلى احتمالات الانزلاق نحو مهاوي حروب وعنف وفوضى أهلية. يحدث هذا وسط منطقة تتمزق كياناتها الجغرافية ودولها المكرَّسة منذ ما بعد سايكس بيكو وما تلاهما من هندسة خرائط وحدود ومؤسسات وجيوش.

اخطر ما في الوضع أن المنطقة العربية برمتها باتت مسرحاً لحال مستدامة من الصراع الدولي-الإقليمي المتداخل مع الصراعات الطائفية والأثنية والمذهبية والجهوية، بمعنى أن الإنقسامات الداخلية تتغذى وتغذي هذه الصراعات وتمنحها سماتها المحلية، وتميط اللثام عن تعذر إمكانية استعادة الوحدات الكيانية السابقة والعودة إلى المكونات الأصلية، التي كانت حتى الأمس القريب طموحاً ومشروع عمل يتوجب دفعه خطوات إلى الأمام كي تستقيم وحداتها الداخلية. بينما الدول المتدخلة في المنطقة لها حسابات تكتيكية واستراتيجية مركبة، تجمع بين السياسة والنفط وأسواق المستهلكات والسلاح والطرقات والموانئ العابرة للدول والكيانات والتلاعب بالحدود القديمة و..  ..

وعلى الرغم ممن ضجت بهم شوارع بيروت وعبرت عنه الجموع من موجات غضب وما انتهت إليه من مأزق، تبقى الانتفاضة علامة مضيئة في مسيرة اللبنانيين نحو بناء دولة الحريات والمواطنية والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد والزبائنية وسيادة القانون والحقوق والواجبات. لقد قدمت الانتفاضة وجها مشرقاً للبنان واللبنانيين الذين وقفوا كمواطنين يؤكدون على حقوقهم مؤكدين مدنية حراكهم وسلميته، ورفض جرهم نحو متاهات زواريب الطوائف والمذاهب وحسابات زعمائهم الذين فقدوا الهالات التي تفيأوها طويلاً، وطويلاً جداً.

ما تزال أمواج البحر تضرب بزبدها الأبيض حافة مرفأ بيروت المدمّى، ووراء صفحة الميناء دول وشعوب وجمهوريات ومؤسسات وأمم وحداثة فائضة وصراع على النفط والغاز والثروات. في أعماق البحر ودواخل ناس المدينة تمور أمواج صاخبة تتوقع عودة حروب لم تنته بعد كي تبدأ ثانية ، باعتبار أن ركامها  باق في الصدور، وصوراً لأحبة راحلين قسراً معلقة في صالونات البيوت التي لم تدمر. يجري هذا وسط ضياع بين وهم الواحة أو تخيلات السراب، ومن شغف بإستعادة ما ضاع من أعمار ومفاتن عيش، ووعد بالآتي على أنقاض معازل الكورونا، وأوبئة الفساد والنهب والطوائف المتصارعة على بقايا مدينة ووطن. وحدهما البحر والحرب يبقيان حاضرين يرسمان صورة مدينة لا تشبه المدن.

  • نشرت هذه المقالة في الكتاب السنوي ” أفق” الصادر عن مؤسسة الفكر العربي تحت عنوانت ” المدن العربية بين العراقة والاستدامة” في طبعته الأولى نهاية العام 2021 تحت اشراف المدير العام لمؤسسة الفكر العربي البروفسور د. هنري عويط الذي قدم توطئة للعمل، وهيئة تحريره المكونة من أحمد فرحات ود. رفيف رضا صيداوي. والمساهمون في المحور الأول : “المدينة العربية : التاريخ والهوية” هم: محمد هاشم غوشه ” القدس وحكايا أسوارها عبر التاريخ “، وحسّونة مصباحي ” مراكش والقيروان بين ائتلاف الواقعي بالخيالي .. وجراح التاريخ”، وناديا لانزون ” باليرمو أنموذجاً للمدن العربية التنويرية في الغرب”. وفي المحور الثاني : “المدن العربية: بين محو الذاكرة وإحياء التراث” هم: مسعود ضاهر “المدن العربية الكوسموبوليتية .. واقعها ومآلاتها”، وحُسن عبود ” بورسعيد .. مدينة الذاكرة الحيّة والروح القوية “، وزهيرهواري “بيروت بين حدَّي البحر والحرب”، وعبد الرحمن رشيق “عن الواقع الحضري في البلدان العربية”، وحلا نوفل ” الهجرة الداخلية والنمو المديني في المنطقة العربية” . وفي المحور الثالث : “المدينة العربية والمستقبل”، كتب أسامة عبد الله الصايغ ” نحو مدن عربية ذكية ومستدامة”، وأميرة حسن ” نحو مدن عربية خضراء “، وطلال معلا ” المفهوم والواقع والتقاط روح المدينة” . وفي المحور الرابع : “المدن العربية في المخيال الروائي”، كتب فيصل درّاج ” عواصم عربية قي شرق المتوسط : مضى زمن الراحة”، وشريف الجيّار ” تجليات المدينة في الرواية المصرية والسودانية”، وسعيد يقطين ” سردية المدينة في الرواية المغاربية” وأخيراً سعد البازعي “مدن وروايات من الجزيرة العربية والخليج”.

*كاتب وأكاديمي

Leave a Comment