في كل مرّة أكتب فيها “سي.ڤي”.، أتحيّر ماذا أضع فيه.
لم أرَ ولا مرّة الجدوى من ذكر مساراتي في الدراسة أو الانتاج. كانت تبدو تافهة ومضحكة أمام هول الكارثة التي عجزتُ عن تجاهل أنّها المكوّن الأساسيّ والدائم لمساري. فكانت المعادلة إمّا أن أصرّ على أنني، «أنا»، ما أريد أن أكونه وأدرجه في “السي.ڤي”، أو أفلت جسمي ولينجرف مع الكارثة.
طبعاً لا جدوى من الإمعان في شرح بداية التكوين الثقافي والفكري والنفسي لسيرتي من داخل الحرب ونتاجها الخاص والمشترك.
بداية الانجراف والانحراف:
رحلة المراهقة في تحديد الأعداء
وقفت مع أصحابي أمام المدرسة على الرصيف المقابل، نراقب جرافات الرجل الآتي من الصحراء، والذي يتكلّم عنه الجميع، صاحب ثروة لم نسمع بمثلها بعد في لبنان، وهي تدمّر مدرستنا.
كنّا طبعاً نكره المدرسة، ولكن ليس لهذا الحدّ.
أتينا مرة أخرى لتأمُّل ركام المدرسة.
ومرّة أخرى، وقفنا نتفرّج على حركة صفصفة السيارات داخل “الباركينغ ” الذي أصبحتْه مدرستنا.
عرفنا أنّ ركام المدرسة نُقل إلى مكبّ النورماندي.
رحنا لنشوف الركام.
لم يسمحوا لنا بالدخول لتأمّل الأسطورة، والتي لم يحلم بها ولد على كوكب الأرض، هناك من رمى مدرستنا في البحر!
أصبح لرجل ما بعد الحرب – الظاهرة وقع ميثولوجي علينا.
رحنا لنشوف بحشريّة ما هو شكل الماكينة الانتخابيّة التي وضعها فوق المدرسة-الركام- الباركينغ. سيحوّل ابنه لاحقاً المدرسة-الركام-الباركينغ-ماكينة أبيه- إلى مول.
كنّا في الثالثة عشرة، وخلال هذه الفترة تتكوّن، ومن خلال التجربة، البنية السياسية الأولى. حدّدنا العدوّ وحفظنا اسمه.
لم تكن معاداتنا له ضمن نطاق السياسة اللبنانية بمفهومها الضيّق، أي كزعيم، وإنّما معاداة لشيء أكبر بكثير من ذلك، لشيء لم نكن نعرفه، أو لم نجد الكلمات له بعد. له جسم ثروة كبيرة تُحوّل حياتنا من دون أن نعلم، وترسم لنا يوميّاً حدوداً أشدّ ضيقاً مقابل مساحات أكثر ازدهاراً لذلك الرجل القادم إلى عالمنا من بعيد.
كنّا أينما مشينا، نرى الشارع غرفة نومه، أو صالة سفرته، أو “كوريدورات” بيته الكبير.
كنّا نخشى أن يأتينا صوت من خلف ساحة في وسط بيروت يوبّخنا بأنّ أرض الصالون ممسّحة، وما زالت مبلولة وألّا نُنقش الأرض بدعساتنا.
على وقع مهرجان الإعمار، تعمّقت وصمة «الانحراف» في بنيتنا الثقافيّة والسياسيّة.
فهمنا لاحقاً أن للظاهرة اسم: النيوليبراليّة.
تلخّصت تجربتنا في بيروت خلال السنوات التي تلت، بكيفيّة بناء علاقة مع الخسارة كمفهوم وواقع دائم.
كنت شاهداً على الأثر المباشر، كما كنت أثراً بنفسي لتلك الكارثة، في تحديدها خيارات الشابات والشباب المهنيّة انطلاقاً من مصدر واحد: القلق.
حينها هرع الجزء الأكبر نحو مهنة “الأوتيل مانجمنت” التي كان لرنّة اسمها إيحاء بالعصرية والحداثة، إلى جانب المعدن الصلب لمهن “البزنس” والهندسة والطبّ… والتي كان يزداد طلب السوق عليها.
كانت الخيارات المهنيّة الجامعيّة معبّرة لما سنعيشه خلال الثلاثين سنة التي تلت: “ريل إستايت”، قروض ومصارف، أكل ومطاعم، وسياحة. ومع قانون العفو العام كحجر أساس، ازدهرت مهنة المحاماة، وأصبحت مرغوبة أكثر لانحرافها هي أيضاً مع مجرى الكارثة، لتصبح حرفة في التلاعب على القانون، مرتبطة بمهنة البزنس أكثر من العدالة.
أمّا الذين غامروا بدراسة مهنة السينما على سبيل المثال، فلم يجدوا مجالًا إلّا في صناعة الإعلانات و”الفيديوكليبات” لشركات الاعلان ومطربي الثلاثين عاماً، مما قضى بشكل كاسح على حوالي 15 أو 20 دفعة من المتخرّجين، ممن حلموا بصناعة الأفلام، لم ينجُ منهم سوى القليل.
اشتداد مجرى الجرف:
رحلة الشباب في حبّ الوطن
كنت واحداً من عديد السيّئين ضمن جحافل الذكور الهاربة من خدمة العلم إلى خارج لبنان. عملت ودرست خلالها أشياء لم يعد لها لزوم، مضى عليها الزمن وأزهقت روحها التكنولوجيا.
كما كنت شاهداً على تجربة أخي في الانصهار الوطني، قضى بعدها سنة كاملة من التفكك الحراري البطيء، بعد أن تمّ صهره خطأً بموادّ مشعّة.
كان للهروب شروط، فرضتها المؤسسة العسكريّة على علاقتنا مع لبنان من ناحية الزيارة المحصورة بأوراق وإثباتات كثيرة وعدد أيّام ممنوع تجاوزه خلال الزيارة، أو من ناحية العودة المشروطة بأداء سنة الخدمة، أو قضاء سنة عقوبة بالحبس.
خلق هذا الواقع الماديّ اختلافاً حادّاً مع باقي الزملاء في الصفّ، الآتين من واقع آخر للدراسة، تجلّى بعلاقة عدميّة مع الدراسة والجامعة والشهادة والأستاذ والزملاء والمكان والوجود. خالطت في تلك الفترة العديد من الزملاء السيّئين مثلي، الهاربين من الخدمة، وفهمت أنني لست وحيداً في خياراتي الواهية، التي قام بها عدد كبير من المهاجرين المؤقتين الذكور.
لحظة الحسم:
لا هيك ولا هيك، بس مش عارف شو
عند اغتيال الرجل الكبير، كنت أدرس مهنة تظهير الأفلام، وأشبّه الأشياء بالمادة التي أعمل بها. انتابني القلق من بداية التحوّل الكبير وحتميّة وقوعنا في “نيغاتيف” ذلك الرجل.
في شهر حزيران، كنت واقفاً أمام باب الصف، أهمّ بدخول محاضرة حول إحدى نظريّات جاك رانسيار، أتتني رسالة على التليفون، صديقي يخبرني باغتيال سمير قصير.
أدركت حينها أن هناك عالمين، عالم خلف الباب وعالم خلف التليفون وعليّ الاختيار بينهما. جاك رانسيار أم سمير قصير؟ جاك رانسيار أم سمير قصير؟ ومع إغلاق الباب الميكانيكي خلفي مع جاك رانسيار، أكون قد حسمت خياري مدى الحياة.
كان الخيار الثاني ألّا أجازف حتّى بالنظر ناحية الباب، فلديه ذبذبات جاذبة قد تكون أقوى من جاذبية الثقب الأسود ( الثقب الأسود: التسمية مستعارة من الأستاذ نبيه بري). من حيث أتيت، فلا أعود من حيث أنا، وربما أغيّر اسمي. رعب!
ركضت في أروقة الجامعة باتجاه لبنان وأنا أزعق الوطااااان الوطااااان. طلبوا مني ركوب القطار بهدوء، ومنه إلى الطيّارة، ومنها إلى مطار الرجل الكبير الدوليّ وولجت لبنان الـ2005: زمن العد(الة)، زمن متوقف لا يحدث فيه شيء سوى عدّ الأيّام 1، 2، 3، 4، 5…
نهاية مجرى الانحراف والانصهار التام مع الكارثة
في عبثية وهشاشة الأيام في بيروت، جمعتني الظروف وحيداً بأرشيف مفقودي الحرب الأهلية، أواجه حاوية القمامة العامة في شارع مهجور في حي فرّ منه الجميع، على حدود منطقة القصف الجويّ عين الرمانة-الشيّاح. كان من الصعب تهريب الأرشيف الضخم. تحمل الوثيقة على وجه السحّارة العالقة أمام نظري صورةً من اعتصام كتب عليها «أهالي المفقودين في لبنان يحيّون إخوتهم في الشعب العراقي في حرب “الديزيرت ستورم”». وفي أعقاب انفجار خزّق أذنيّ واقتلعني، ألقيت كل شيء في الحاوية.
لم تكن هذه النسخ الأصلية، وإنمّا صوراً عنها.
حملتْ نسمة هواء رملاً علق على خدّي المبلّل بالعَرق، كان «الصيف الساخن»، كما أطلقت قناة «الجزيرة» بغباء الاسم عليه، أدخلت معه الحرب في تمثيلها (أدائها) بشكلٍ آنيّ ومباشر لتتحوّل إلى مشهديّة وحلقات مسلسل.
الرمل على خدّي كان كل ما تبقى من المبنى الذي انهار للتوّ. مسحت بيدي المبنى المخلوط بعرقي عن خدّي، وانحنيت فوق حاوية القمامة ونظرت في العيون داخل صور الفوتوكوبي السوداء والبيضاء لوجوه المفقودين. كانت تحدق في الفراغ، في السماء، في الطيّار، فيّ أنا.
في بطن حاوية النفايات، تمعّنت بالكوارث المكدسة أمامي: الحرب الأهليّة، المفقودون، القضيّة الفلسطينية، “الديزيرت ستورم” وكوارث أخرى، محليّة وإقليمية، رميتها كلها بنفسي داخل حاوية نفايات عليها “لوغو” شركة فاسدة، تعبّر عن كل ما جرى منذ فجر الإعمار، مركونة على خطوط تماس عين الرمانة-الشيّاح، على وقع انفجار صاروخ فراغيّ من قلب الصيف الساخن.
وما من أحد هنا ليشهد.
للحظة سريعة، انفصلت عن نفسي وصرت الشاهد الوحيد على نفسي. لم تدم اللحظة أكثر من ثانية واحدة قبل أن نعود ونلتحم، الشاهد وأنا.
فهمت أن الانفصال مستحيل وأن الانفصام ممكن. ولكنني لست منفصماً حقيقةً، يمكنني أن أدّعي ذلك.
لست شاهداً إذاً، وليس لديّ ما أُخبره للعالم عمّا شهدت. أنا نتاج الكارثة، باسمها أنطق وعلى وقعها أصمت.
هي شرط الوجود، يستحيل تجزئتها أو التعامل مع أجزائها، كلّ على حدة.
وضعت تلك الحقيقة مسافة بنيويّة بيني وبين الدعوة الآنية والمحمومة للإنتاج الفنيّ المرتبطة بظرف حرب الـ2006 .
لا أقول أنّ هناك أخلاقيات محدّدة علينا اتباعها وأنا أعرفها، إلّا أنني عجزت عن تلبية تلك الدعوات الموجهة إلى مزاولي الفن، والتي كانت تحثّهم على العمل عمّا يجري.
كانت العدميّة واقفة على حاوية الزبالة، مبتسمة، تشير إلى نفسها وتحاول إقناعي وتقول لي أنا الطريق أنا الدرب.
دخلت الحاوية وأخرجت الكوارث. عرّبتها وأخذت أصفها بشكل معرّب على الطريق أمام الحاوية:
برج من نسخ “ڤي.أتش.أس”. لفيلم برهان علويّة “إذا الشعب يوماً”،
وبرج آخر لجان شمعون “أحلام معلقة”،
وبرج لبهيج حجيج “مخطوفون”،
وأبراج من صور المفقودين وصور أحداث ومعارض و”بوسترز وبروشورات وستيكرات” لسنين النضالات التي مضى عليها الزمن ودعوس.
تركت المعرض على أرض الشارع أمام الحاوية، (لـ)هارب من القصف من ناحية الضاحية الجنوبيّة، أدعوه إلى التوقف عن جنون الهروب وعبثيّة الدخول إلى معرض، «بياخدله كم بروشور» ونسخة فيلم لم يعد هناك ماكينة لمشاهدته.
*نشر المقال على موقع ميغافون 22 آذار 2022
Leave a Comment