زكـي طـه
لا تُقرأ قرارات رئيس تيار المستقبل بتعليق مشاركته وتياره في الحياة السياسية والانتخابات النيابية، إلا في امتداد أزمة الكيان هوية وموقعاً. وفي ضوء طبيعة النظام الطائفي وتجدد الانقسام الأهلي الذي يُعاد انتاجه على الدوام عبر الصراع المفتوح بين سائر اطراف السلطة الحاكمة، بحكم تكوينها الفئوي الطائفي والمناطقي. وفي ظل ما انتجته تلك الصراعات من أزمات تتمثل راهناً بالعجز التام لمؤسسات الدولة وأجهزتها، والانهيار الاقتصادي والاجتماعي وسيادة الفوضى على جميع المستويات.
لم تأت قرارات رئيس الحكومة السابق من الفراغ. ومن أجل تبريرها لم يكتفِ باستحضار مشروع والده رئيس الحكومة الأسبق الذي اغتيل عام 2005، في اطار الصراع الدولي الاقليمي والمحلي حول موقع لبنان والهيمنة عليه وولآءات السلطة فيه. بل تعمّد وبحكم وراثته، تعداد التسويات التي “فُرضت عليه” وقبل بها في سبيل البقاء في السلطة بذريعة تحقيق مشروع والده وفق إدعائه. وهي التسويات التي انتجتها محطات التأزم الداخلي الناجمة عن اختلال توازنات القوى الاقليمية وانعكاستها المحلية، واعتماد الاستقواء بالسلاح وسيلة لفرض سياسات الأمر الواقع، وتظليلها بشعارات وأهداف لا مكان فيها لمشروع الدولة الوطنية الموحّدة، مما يتناقض مع المصلحة اللبنانية.
وفي سياق التبرير بين إدعاء النجاح في إبعاد الحرب الأهلية الذي تنقضه وقائع تجدد الانقسامات الطائفية المستعرة على نحو غير مسبوق، جرّاء الصراع على السلطة الذي أبقى شبح الحرب الأهلية مقيماً وترك أبوابها مشرّعة على الدوام. وبين الإقرار بفشله في تأمين حياة كريمة للبنانيين. الأمر الذي لا يعفيه من المسؤولية عن حصته منه، وإلقاؤها على شركائه من الخصوم والحلفاء. وهو الذي تشارك معهم تقاسم الحكم ومنافع السلطة وفق نهج المحاصصة السياسية بكل متفرعاتها، وما نجم عنه من فساد وتجويف وتطييف لجميع مؤسسات الدولة واداراتها وأجهزتها وقطاعاتها الخدماتية. بالاضافة إلى التزامهم معه السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي ارسى والده اسسها القائمة على الاستدانة والزبائنية، والتي يحصد اللبنانيون اليوم نتائجها انهياراً شاملاً ودولة فاشلة بكل المقاييس.
يُسجل لسعد الحريري جرأة إقراره بالفشل والهزيمة، واتخاذه قرار الانسحاب المؤقت وعدم المشاركة وتياره في الحياة السياسية راهناً، وإن يكن من موقع الاحتجاج على أداء شركائه في السلطة، وتحميله إياهم مسؤولية ما آلت إليه أوضاع البلد وأهله. وذلك من خلال اتهام خصومه وتحديداً القوى التي حاصرته وانقلبت عليه واقصته عن السلطة مراراً. وهي التي نجحت في فرض شروط عودته إليها بما يتلاءم مع مصالحها. الأمر الذي حد من نفوذه وعطل مشاريعه وأعاق طموحاته في البقاء شريكاً لها، بسبب إصرارها على جعله ملحقاً لها ومظلة لخياراتها على نحو مُحرج له، إلى الحد الذي لم يعد يستطيع القبول به أو له مصلحة فيه. وهو ما أدى إلى إخراجه من جنة السلطة.
ورغم إقراره ببعض حصته من المسؤولية عن الفشل عبر قبوله بما فرض عليه من تسويات، إلا أن رئيس تيار المستقبل لا يختلف عن أقرانه في منظومة السلطة، سواء في إلقاء مسؤولية فشله على الآخرين، أو في تجاهل مسؤوليته عن خياراته الاقتصادية وانعكاساتها ونتائجها التي أودت بالبلد إلى الانهيار الشامل. إضافة إلى أنه ليس بوارد مراجعة خياراته في الارتهان للخارج والرهان عليه والخضوع لمصالحه، وهي التي شكلت رافعة الحريرية إلى السلطة، وأهم مصادر قوته ووزنه الداخلي والخارجي الموروثين على السواء.
وفي تعداد أسباب قراراته، يؤكد رئيس الحكومة السابق عدم وجود أي فرصة أيجابية للبنان في ظل النفوذ الايراني والتخبط الدولي والانقسام الوطني واستعار الطائفية. وأن الأشهر المقبلة، قبل وبعد الانتخابات ستكون صعبة جداً نظراً للصراع القائم في البلد والمشاريع الإقليمية. وأن الحل اللبناني لا يزال بعيداً ويحتاج إلى ترتيبات مرتبطة بمفاوضات المنطقة. ولذلك هو يُعلّق مشاركته وتياره في الحياة السياسية والانتخابات النيابية، باعتبار الفوز فيها لن يغير شيئاً في المعادلة الداخلية أو الاقليمية. أما الخسارة فيسترتب عليها عواقب كبرى لا يريد تحمّل المسؤولية عنها، لأنها ستضاعف ما اصابه منها في ثروته وصداقاته وعلاقاته الخارجية وتحالفاته الداخلية.
المؤكد أن القرار لم يكن وليد ساعته، بل هو نتاج حسابات ومشاورات طويلة محلية وخارجية. قد جعلته على قناعة حاسمة بأن البقاء في ميدان الحياة السياسية سيبقيه عاجزاً، كما سيزيده وهناً وضعفاً مع اختلال موازين القوى الفادح لغير مصلحته. وعليه كان القرار الصعب بالنسبة له الابتعاد مؤقتاً وهو الحالم بالعودة للسلطة. ما يشكل انقاذاً لتياره المنهك والمفكك من خلال عدم تعريضه للمزيد من الخسائر، في ظل معرفته بطبيعة بنيته وتشكله من باحثين عن ادوار بأي ثمن، ومن الساعين لاحتلال المواقع والافادة من مغانم السلطة. لكنه لم يخفِ رغبته في المحافظة على جمهوره العريض العاجز عن استيعاب الصدمة. وهو الباحث عن هويته ومرجعيته في بازارات حقوق الطوائف، وساحات وميادين نزاعات قياداتها التي لا ترى في جمهورها سوى أداوات صراع واحتراب جاهزة للتضحية من أجل قياداتها التي لا تتورّع عن استغلالها والتضحية بها على محراب مصالحها.
مما لا شك فيه أن خروج سعد الحريري وتياره من الحياة السياسة وعدم مشاركته في استحقاق الانتخابات النيابية في حالة حصولها، ليس أقل من قلب الطاولة بوجه خصومه وحلفائه على السواء. مما سيكون له مضاعفات وتداعيات كبرى وخطيرة على الصعيد العام وفي ما خص توازنات السلطة. يؤكد ذلك واقع التمثيل السياسي للطائفة السنية وتركها عرضة للاستباحة من قوى الطوائف الاخرى وتيارات التطرف، في ظل صعوبة ارتجال قيادات بديلة لمن صادر تمثيلها والنطق باسمها على نحو غالب طوال عقود ثلاثة. ما يعني أن توازنات منظومة السلطة بتشكيلاتها الطائفية المختلة أصلاً لغير مصلحة قوى المسيحية والسنيّة السياسية، هي مرشحة الآن لاختلال مضاعف على نحو لا سابق له. الأمر الذي سيؤدي إلى تكريس هيمنة قوى الشيعية السياسية وتحديداً حزب الله، بما يمثل محلياً وإقليمياً. وذلك من خلال تفرده بقيادة البلاد وإدارة شؤون الحكم وما تبقى من أجهزة الدولة، والانفراد في تحديد السياسات بقوة الأمر الواقع مستنداً إلى فائض قوته، على نحو يستحيل معه تعطيل دوره والحد من مفاعيله أو مواجهته داخلياً. أولاً لأن الذين يدّعون خصومته أو يرفعون راية العداء له من مواقعهم الطائفية، يوفرون له كل الحيثيات والذرائع التي تبرر له سياساته وخياراته وممارساته لخوض معاركه دفاعا عن وجوده ودوره. وثانياً هامشية قوى مشروع الدولة الوطنية الديمقراطية البديلة وافتقادهم للكتلة الاجتماعية التي تجعل مشروعهم قابلاً للتحول واقعاً قادراً على محاصرة دويلات الطوائف ومزارعها ودكاكينها الانتحارية المرتهنة للخارج.
وما يزيد الطين بلّة، أن قرارات الحريري، بقدر ما هي انسحاب من المشاركة في تحمّل أي مسؤولية في السعي لانقاذ البلد ومواجهة الاخطار الزاحفة عليه. أنها تأتي في لحظة احتدام الصراعات في المنطقة وعليها في أكثر من ساحة على نحو متفجر ومتصاعد الخطورة. وفي موازاة عسر المفاوضات الدائرة في فيينا حول الملف النووي الايراني، وحول حدود النفوذ والدور الايراني في دول الجوار الاقليمي والعربي تحديداً. الذي يُصعد من تدخلاته على نحو سافر في تسعير أزمات كياناتها وحروبها الاهلية المنفلتة والمدارة أميركياً والمشرعة على كل التدخلات الدولية والاقليمية بما فيها العدو الاسرائيلي.
وفي هذا السياق يصعب الفصل بين ما انتهى إليه وضع الحريري وتياره السياسي، وما آل إليه النفوذ الخارجي الدولي والعربي وتحديداً الخليجي من تراجع وعجز عن التأثير في مسارات الأزمة اللبنانية، وانعدام القدرة على الحد من تمدد النفوذ الايراني وتضخم دور حزب الله في لبنان وفي الساحات الأخرى سواء في سوريا أو اليمن والعراق أو غيرها. وعليه يمكن الربط بين استئناف العقوبات الاميركية المالية ضد الحزب والتهديد بالمزيد، وتجديد الشروط الخارجية لتقديم الدعم والمساعدة للبنان. وذلك من خلال المبادرة التي حملها وزير الخارجية الكويتي باسم دول الخليج، وهي تحظى بتأييد عربي ودولي، وتتضمن توجهات لا تحتمل الالتباس أو الغموض في مقاصدها لناحية بنودها أو في طلب الرد والاجوبة المحددة والواضحة بشانها خلال أيام قليلة. وإرفاقها بالقول الصريح تحملوا مسؤولية خياراتكم. الأمر الذي يطرح الكثير من الاسئلة المقلقة. هل نحن أمام قرار اقليمي دولي بتصعيد الحصار وإدارة الظهر على نحو كامل ونهائي لأهل السلطة، والابقاء على بعض الدعم للبنانيين خارج أجهزة الدولة. أم أن قراراً بتصعيد المواجهة مع حزب الله قد اتخذ بصرف النظر عن النتائج، بانتظار ما ستسفر عنه مفاوضات فيينا وتبيّن نصيب لبنان من نتائج نجاحها أو من مضاعفات فشلها.
في مسارات الانتظار تكمن الاجوبة حول مصير الانتخابات النيابية والرئاسية، وفيها أيضا تزداد مآسي اللبنانيين وآلامهم. كما تتسع دائرة المخاطر نظراً لإرتفاع وتيرة التهديدات الاسرائيلية التي تصمّ الآذان. كذلك تكبر التحديات التي تواجه اللبنانيين الباحثين عن فسحة أمل في أن يبقى لهم وطن بعيداً عن الاستسهال والتبسيط والتفتيش عن الأجوبة في غير أمكنتها.
Leave a Comment