صحف وآراء

تجمّع المهنيين والمبادرة الأممية في السودان

حيّان جابر

رفض تجمّع المهنيين السودانيين مبادرة الأمم المتحدة، إطلاق “مشاورات أولية” لعملية سياسية شاملة بين الأطراف السودانية، إذ أكّد تمسّكه بموقف الشارع السوداني المحتج والرافض أي حوار مع المكون العسكري، المنقلب على الوثيقة الدستورية، والمسؤول عن مقتل عشرات المتظاهرين. وقال التجمّع “الشعب أعلن بوضوح أن الطريق لحل الأزمة السودانية يبدأ بإسقاط المجلس العسكري الانقلابي بشكل تام، وتقديم عضويته للعدالة الناجزة على ما اقترفوه من مذابح ومجازر بحق الشعب المسالم الأعزل في محاكم خاصة”. في حين طلبت قوى إعلان الحرية والتغيير توسيع مبادرة الأمم المتحدة للحوار بين أطراف الأزمة السياسية في البلاد، لتشمل أطرافا دولية وإقليمية، لضمان نجاحها، أي لم ترفض المبادرة من حيث المبدأ، كما لم ترفض إمكانية التفاوض أو الحوار مع المجلس العسكري، وإن شدّدت على أهمية هدف المبادرة كما نص بيانها الأول حول المبادرة “نتعاطى إيجابا مع أي جهد دولي يساعد في تحقيق غايات الشعب السوداني في مناهضة الانقلاب وتأسيس دولة مدنية ديمقراطية”.

مرّة أخرى، يظهر التباين بين موقف تجمّع المهنيين وقوى الحرية والتغيير، فيما يخص التفاوض مع المجلس العسكري، إذ كان للتجمّع موقف غير داعم للاتفاق الموقع بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير في أغسطس/ آب 2019، والذي انتهى إلى توقيع الوثيقة الدستورية وتشكيل مجلس سيادي مشترك وحكومة برئاسة عبد الله حمدوك. حيث رفض التجمّع، في حينه، المشاركة في السلطة في مستوييها، السيادي والتنفيذي، على أن يشارك لاحقا في السلطة التشريعية بوصفها سلطة رقابية. وعليه، نجد أن حذر التجمّع من التفاوض أو التحاور مع المجلس العسكري قديم، ومبني على ممارسات المجلس العسكري الاحتكارية والقمعية والإجرامية، وهو ما أثبتت الأحداث صحته، فمن ناحية أولى انقلب المجلس العسكري على الوثيقة الدستورية، كي لا يُسلم رئاسة مجلس السيادة إلى سلطة مدنية كما نص الاتفاق، وهو ما تلافاه في الاتفاق الموقع بين المجلس العسكري ورئيس مجلس الوزراء المعزول في حينه والمستقيل اليوم، عبدالله حمدوك. ومن ناحية ثانية، لم تتمخض العملية الانتقالية عن محاسبة أي من القادة العسكريين والأمنيين المسؤولين عن قتل المتظاهرين السودانيين منذ اندلاع ثورة ديسمبر في 2018 وحتى مليونيات اليوم المناهضة للانقلاب. أي أن المجلس العسكري لم يحترم الاتفاقات والتعهدات التي وقع عليها، بل على العكس، ما زال يراوغ ويتهرّب من تنفيذ أي منها، بهدف الحفاظ على سلطته وسيطرته على مفاصل الدولة والسيادة الأمنية والاقتصادية من دون أي انتقاص منها، وهو ما يعيه التجمّع جيدا أو على الأقل يبدو أنه يعيه. حيث لا ضمانات سودانية بشأن تنفيذ المجلس العسكري أي معاهدات جديدة، تماما كما لم يكن هناك من ضمان سابقا. وعليه، ما الفائدة من جولة حوار أو تفاوض مع طرفٍ يحتكر القوة ويرفض تسليم السلطة. هنا قد يلوح بعضهم إلى دور الوساطة الأممية وفق المبادرة أو الوساطة المركبة وفق مقترح قوى إعلان الحرية والتغيير، بما يخصّ قدرتها على لعب دور الضامن أي اتفاق محتمل بين العسكر والطرف المدني، سواء شارك التجمع بهذا الاتفاق أم لا. ولكن هل يمكن الوثوق بهذه الضمانة على فرض وجودها؟

نجد من خلال التدقيق في الحيثيات السودانية الراهنة، وفي تجارب عالمية عديدة، عشرات الأمثلة الدالّة على عدم مبدئية المجتمع الدولي والمؤسسات الأممية. وهنا لا داعي للعودة إلى موقفها من الاعتداءات الصهيونية المتكررة في فلسطين والمنطقة العربية، بل يكفي التدقيق في مواقف الترويكا (أميركا وبريطانيا والنرويج)، والمجتمع الدولي والمؤسسات الأممية من الانقلاب العسكري، والأهم مواقفهم من اتفاق إقصاء قوى ثورة ديسمبر بين المجلس العسكري وحمدوك، الذي لم يثر حفيظتهم (أي الاتفاق)، بل نال استحسانهم وقبولهم وكأنه عودة عن الانقلاب، على الرغم مما تضمنه من إقصاء وانقلاب على الوثيقة الدستورية، ومن نكران لثورة ديسمبر وقواها التمثيلية.

إذا لم ولن تلعب المؤسسات الأممية والدولية، بل والإقليمية، دورا ضامنا لأي اتفاق، إن لم يهدّد الانقلاب مصالحهم المباشرة، وهو ما يعيه المجلس العسكري جيدا. لذا نجده واثقا من خطواته، على الرغم من بعض بيانات الإدانة هنا وهناك، فتلك مجرّد بيانات لن تقدّم أو تؤخّر شيئا. وعليه، لم تكن تلك البيانات السبب وراء توقيع الاتفاق الشكلي أخيرا مع حمدوك، بقدر ما فرضه الحراك الشعبي. حيث اعتقد المجلس العسكري أن توقيع اتفاق جديد مع حمدوك قد يقسم الكتلة الاجتماعية المحتجة إلى قسمين، الأول يرفض الاتفاق والثاني يود منح الاتفاق بعض الوقت، على أمل تحسّن الأوضاع سريعا، غير أن وعي الشارع وحسن تنظيم تجمع المهنيين قد أفشل مخطّطات المجلس العسكري، فاستمرّت المليونيات كما هي قبل الاتفاق، بل ربما ازدادت حدّة وتسارعا، كما نجح “التجمع” في توسيع رقعتها الجغرافية، ما جعل اتفاق العسكر- حمدوك مجرّد حبر على ورق، بلا أي فائدة تذكر داخليا وخارجيا.

من هنا، كان لا بد من البحث عن مبادرة جديدة، تستوعب (أو تمتص) غضب الشارع وتخترق وحدة صفه، كما في المبادرة الأممية التي تدعو إلى حوار بين مكونين، عسكري ومدني، فالطرف العسكري جهة واضحة ومحدّدة، في حين أن عبارة الطرف المدني تجعل منه طرفا مبهما وضبابيا وفضفاضا، يمكن له استيعاب عشرات القوى والأحزاب التقليدية ذات المواقف والتوجهات المختلفة، ومنها التي تدعم الانقلاب العسكري وترفض الثورة إجمالا. ويحاول المجلس العسكري الالتفاف على المليونيات الحاشدة على أمل إضعافها بأي وسيلةٍ كانت، فإن نجح في إضعافها ولو مؤقتا؛ شهر مثلا؛ سوف يسارع بالانقضاض عليها من خلال تصعيد العنف والاعتقالات التعسفية أي عبر ضربها بيد من حديد.

يبدو أن تجمّع المهنيين السودانيين يدرك ذلك كله جيدا. لذا هو لا يراهن على أي اتفاق مع المجلس العسكري، كما لا يراهن على دور خارجي ثوري، أو حتى مبدئي، على طول الخط، فرهانه الوحيد على الشارع وحيويته وتماسكه وديمومته. لذا نجده مثابرا في رصّ الصف الشعبي، عبر فضح ممارسات المجلس والمبادرات الملتوية من دون لفّ أو دوران، فوضوح مواقف التجمّع وشفافيته وصراحته مع الشعب السوداني انعكست تناميا في حجم ثقة الكتلة الاجتماعية به وبقراراته وتنظيمه، وهو ما يحافظ على زخم النضال الشعبي، أولا، ويفشل محاولات العسكر الانقلابية ثانيا، ويعزّز من حضور قوى الثورة ثالثا. من ذلك كله، وعلى الرغم من التخوف من عنف المجلس العسكري إلا أن وعي الشارع السوداني وتجمع المهنيين وإصرارهما يعزّزان من حظوظ النجاح في بلوغ التغيير المنشود شعبيا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، ويجعلنا نترقّب هزيمة قوى التخلف والاستبداد والتبعية الأولى في السودان، لا بل الأولى على مستوى المنطقة كاملة.

العربي الجديد في 20 كانون الثاني / يناير 2022

 

Leave a Comment