كمال عبد اللطيف
يواجه اليسار في العالم، منذ ما يقرب من خمسة عقود، مآزق وإشكالات سياسية وتاريخية متعدِّدة، ترتبط بصور التحول التي تعرفها مختلف المجتمعات والأنظمة السياسية، في زمن التعولم الكاسح والثورة المعلوماتية التي تخترق الأمكنة، وتركِّب أنماطاً جديدة من الصراع في عالم بلا حدود. يدعونا المآل الذي آلت إليه أوضاع تيارات اليسار المختلفة في العالم أجمع إلى ضرورة البحث عن الوسائل التي تسمح باستعادته القوة اللازمة، ليحافظ أولاً على استمراره، ثم تعمل على تقويته ثانياً، ليتمكَّن من القيام بالأدوار المنوطة به، داخل المشهدين السياسيين، العربي والعالمي. وقد ترتَّب عن الانحسار والتراجُع الحاصلين في الثقافة اليسارية وآليات حضورها وعملها بروز مجموعة من الخيارات والمواقف التي أصبحت تكتسح اليوم المجال السياسي وتملأ الفضاءات التي كان الفكر اليساري وتنظيماته السياسية يمارسان فيها حضوراً يتميز بسمات خاصة.
تشابهت اليوم في المشهد السياسي العربي والعالمي أغلب برامج الأحزاب السياسية، الأمر الذي أدَّى إلى بروز نوع جديد من الفاعلين السياسيين الذين لا يقيمون أي اعتبارٍ للخيارات والمبادئ الكبرى في التاريخ، يصطفّون داخل المشهد السياسي من دون مرجعيةٍ نظريةٍ محدَّدة، في وقتٍ بدا فيه أن الأنظمة السياسية وحدها تقود الحياة السياسية، بموافقة الجميع ورضاهم. وهذا الأمر بالذات لا علاقة له بمكاسب الثورة الديمقراطية ومآلاتها، في عصر ثورات الاتصال وتقنياته المتجددة.. وبجوار ذلك، تَصَاعَدَ سَقْفُ نوعٍ من العزوف السياسي الذي يَدفع شباباً كثيرين إلى ترك المجال السياسي، مقابل انخراطهم في بناء مشهد احتجاجي في وسائل التواصل الاجتماعي، موازٍ للواقع الفعلي في جريانه، ولهذا الأمر تَبِعاتُه في المجتمعات الديمقراطية والمجتمعات التي تتطلَّع إليها.
تحوَّل اليسار في العالم أجمع إلى أحزابٍ صغيرة، يحمل بعضها اللون الأخضر، ويحتفظ بعضها الآخر بألوان الورود، ويتغنَّى كثيرٌ منها بالحداثة والتحديث.. أحزاب لم تعد قادرةً على مواكبة تحوّلات المجتمع والقيم، في عالم يتغير بوتائر لا عهد للناس بها. وفي مقابل ذلك، تصاعد مَدُّ اليمين العنصري والفاشي، كما تصاعد مدّ التيارات الشعبوية وهي تحمل اليوم شعاراتٍ بكل الألوان، فهل يتعلق الأمر بتحوُّلاتٍ جارفةٍ، لا أحد يعرف حدودها، أم بمجموعةٍ من التحوّلات المعقَّدة التي أصبح فيها للمجتمعات فضاؤها السياسي المؤسَّسي، بنخبه ومؤسّساته وتنظيماته المدنية، وفضاؤها الافتراضي المستوعب احتجاجات المواقع وسياساتها، أي أصبحنا ضمن عالم بفضاءاتٍ لا أرض ولا سماء تجمعها، ولا مؤسّسة تنطق باسمها؟
عندما نتحدّث اليوم عن اليسار وضرورته ونربطه بالثورة الديمقراطية، فإننا نتحدّث، أساساً، عن خيار سياسي مشدود إلى طموحاتٍ ومكاسب تاريخية كبرى ومتنوعة، طموحات تُعادل وتُكافئ تطلعات المجتمعات البشرية المتواصلة للتغيير والإصلاح، وذلك بعد كل التجارب التي تحققت أو أخفقت في التاريخ. إننا لا نتحدّث عن وصفة سحرية، ولعلنا نتحدّث بالذات عن طريقٍ ساهم اليسار في بلورة مفرداته وأبوابه، طريق مفتوح على ممكنات الإبداع السياسي البشري في التاريخ، حيث تُعَدُّ أسئلة التاريخ وتجاربه العينية الإطار الأنسب لمعاينة طموحات البشر وآمالهم، بل وصراعاتهم المتواصلة، من أجل بناء مجتمعاتٍ أكثر عدلاً وأكثر توازناً، أي من أجل بناء وإعادة بناء قيم اليسار، كما تبلورت وتطورت في التاريخ المعاصر.
صلابة التحدّيات التي يواجهها اليسار في محيط العمل الحزبي في المشهد السياسي العالمي تعادلُها صلابة أخرى ناتجة عن تجربته في العمل السياسي في السلطة وفي المعارضة
ساهمت العولمة والنيوليبرالية عن طريق حرية التنقل وانتقال الخبرات والخدمات والبشر، في دفع اليسار نحو نوع من الليبرالية الاجتماعية بحثاً عن التوازن الصَّعْب داخل المجتمع، وترتَّب عن ذلك ميلاد اليمين المتطرِّف.. تَرَاجَع اليسار في أوروبا بشكل واضح، أما في العالم العربي فإن الصورة أكثر غموضاً، وأحزاب اليسار في المعارضة أو في التحالفات الحكومية، لا تتمتع بالمصداقية المطلوبة لا في الفعل ولا في الخطاب.
صلابة التحدّيات التي يواجهها اليسار في محيط العمل الحزبي في المشهد السياسي العالمي تعادلُها صلابة أخرى ناتجة عن تجربته في العمل السياسي في السلطة وفي المعارضة، سواء في التجربة التاريخية الغربية، أو في تجارب سياسية عربية كثيرة. نحن نشير هنا إلى تركة الخلل التنظيمي التي تحملها اليوم كثير من أجنحته وتياراته، وخصوصا في المجتمعات العربية، كما نشير إلى عدم قدرة كثير من مُكَوِّنَاتِه على تجاوز إرثها التقليدي، في كيفيَّات تعامُلها مع تحوُّلات المجتمع والقيم في مجتمعنا.
نتصوَّر أن مشروع إعادة الاعتبار لِقِيم اليسار في حياتنا السياسية، يدعونا إلى بناء بدائل تاريخية جديدة، مكافئة للتحدّيات التي نواجه اليوم في عالمنا. ولن يتم ذلك إلا بإنجاز مجموعة من التفاعلات والأفعال الضرورية مع مختلف التحوُّلات التي عرفها العالم في نهاية القرن الماضي ومطالع الألفية الثالثة، ذلك أن بناء بديل تاريخي لليسار في عالمنا، يتطلب الانخراط السريع في مواجهة مختلف التراجُعات التي حصلت في المجتمع، وانعكست آثارها في الثقافة والفعل السياسيين. ونفترض أن حصول ما أشير إليه يمكن أن يُساهم في إبداع مسارات وخيارات سياسية جديدة، قادرة على تَمَثُّل ما يجري في العالم أمامنا وتعقله، بهدف تجاوُز حالات الانسداد القائمة، وبناء ما يُمَكِّنُنَا من تركيب بدائلها.
تتمثَّل المهمة الأبرز للذين يعنيهم واقع اليسار اليوم في العالم في الانخراط اليقظ في عملية تركيب فهم محدّد لطبيعة ما يجري في بلادنا وفي العالم. وهذا يضعنا مباشرة أمام التفكير في البنية الجديدة التي اتخذها ويتخذها المشروع الرأسمالي في زمن العولمة، ذلك أن العالم من حولنا تغير وما فتئ يتغير. ولن يكون بإمكاننا أن نتقدّم في مواجهة قضايانا المحلية والخاصة، إلا بالعمل على معرفة ما يجري في بلادنا وفي العالم. وعندما ننخرط في القيام بهذه المهمة، نكتشف أننا بصدد بناء أسئلةٍ جديدةٍ تتيح لنا تجاوز جملة مفاهيم اعتقدنا زمنا طويلا أنها الأنسب والأفضل، وذلك على الرغم من الحركية الاجتماعية والتاريخية والفكرية التي عرفها واقعنا في سياق صيرورته المرتبطة قسراً بمختلف التحولات الجارية في العالم أجمع.
نفترض أن اليسار الجديد الذي نتطلع إليه هنا وهناك مُطَالَب بضرورة الاستفادة من مختلف مكاسب المعرفة والتاريخ ومنجزات الثورة المعلوماتية في مجال التواصل، وقد أصبحت اليوم العنوان الأكبر في العصر المعلوماتي الجديد. ولن يحصل التحوُّل في ثقافة اليسار، من دون ابتكار المنتسبين لقاعدته ونخبه آليات جديدة في العمل الحزبي، آليات تستجيب لمتطلبات مواصلة تطوير الثورة الديمقراطية وتطوير إجراءات عملها، قصد مواجهة صور الاستبداد القائمة والمتجدّدة في عالمنا، أي قصد تطوير الثورة الديمقراطية وإنعاشها.
نشرت في العربي الجديد بتاريخ 20 كانون الثاني / يناير 2022
Leave a Comment