الأرجح أن النقاشات الواسعة والحيوية التي أثارها تقرير “لجنة الحريّات والمساواة” في تونس (حزيران 2018)، تمحوّر جزء كبير منها على المرأة وحقوقها الفردية، بما فيها (وليس حصراً) حقوق جسدها وهويته المتمايزة. ليس ذلك سوى حلقة أخرى في حوار تاريخي متشابك بين الحداثة والإسلامويّة العربيّة المعاصرة، وهو حوار يستعصى على مقال مفرد.
والأرجح أيضاً أنّ مسألة النسويّة تتصل بمشروع الحداثة عموماً، بما فيه تجربة العرب فيها وحيالها. وفي الآونة الأخيرة، برز أكثر من عنصر غير تقليدي في علاقة الحداثة مع المرأة، منها ميل الحركة النسويّة المعاصرة غرباً إلى التشديد على استقلاليّة وتمايز المرأة فرداً وجسداً، ما يعني أن مسألة المساواة مع الرجل لم تعد في صدارة اهتمامها، وصارت وراء ظهرها. وكذلك ظهرت تصدّعات وخلافات كثيرة في الحركة النسويّة غرباً، منذ تجدّد صعود الفكر المحافظ منذ ثمانينات القرن العشرين، مع رئاستي رونالد ريغان ومارغريت تاتشر. إذ برز تيار نسوي محافظ (نقرأ أيضاً ذكوري بالنسبة للحداثة وما بعدها) يشدّد على قيم العائلة، ويعيد التمسّك بالدين، ويعارض الإجهاض، وينفر من الحرية الجنسيّة، ويميل إلى أدوار تقليديّة للمرأة وغيرها.
الإجهاض وما يشبهه
هناك إرباكات اخرى في الحداثة الغربية ظهرت مع حركة “#أنا أيضاً” (# Me_too)، كانتقاد الممثلة كاترين دونوف لتلك الحركة بأنها تُلغي أنوثة المرأة عبر التشدّد في أخلاقيات التعامل مع جسدها. تذكيراً، لعبت دونوف دوراً صلباً في الحركة النسوية في خمسينات القرن العشرين، أثناء الاهتمام بالمساواة، خصوصاً الحق في الإجهاض والحرية الجنسيّة. واعترفت علناً بأنها أجهضت بصورة غير شرعيّة، بعد حمل من علاقات غير زوجية، في بيان عُرِف بإسم “بيان الـ343” نسبة إلى عدد النخبة النسويّة التي وقّعته بأسماء صريحة. ونُشِر البيان إبّان نقاش البرلمان الفرنسي للحق في الإجهاض، الذي اعتبر من المحطات المهمة في الحقوق النسويّة والفردية سويّة. بعد عقود، صار الحق في الاجهاض إشكاليّاً غرباً وشرقاً.
وتعني تلك المتغيّرات أن الحداثة لم يعد لديها نموذج لترويجه، بل بالأحرى أن نموذجها المفترض في المساواة والحريات الشخصية والجسديّة، “اختلطت” مع معطيات عميقة (بعضها يتميّز بقَدامَة تعارض الحداثة) في الثقافة والسياسة والاجتماع، على نحو يذكر بما حدث للنموذج الديني (عن المرأة) في الغرب! عند هذه النقطة، يبرز نقد مابعد الحداثة لمشروع الحداثة، بأنه سار بعيون معصوبة نحو إدعاء كونه بديلاً للميتافيزيقا التي نهض على أساس إسقاطها، وأن ظهور الأيديولوجيات الشمولية (كالنازية والفاشية) لم يكن سوى تطرّف متوحش، لكنه يعبر بكثافة عن ذلك المنحى.
وفي ظل ذلك الإرباك الحداثي غرباً، برز إرباك آخر لم يكن متوقعاً تماماً، في الموقف غرباً من نموذج الإسلام عن الأنثى. وفي أوقات سابقة، سادت ثنائيّة مبسّطة: نسويّة حداثيّة متحرّرة تسير مع الزمن مقابل نسويّة مقموعة وخاضعة لذكوريّة إسلاموية متخلفة ومنغلقة في ماضويّة متحجرة. لكن، حدثت “أشياء” بعضها صغير تماماً، غيّرت تلك الثنائيّة، بمعنى أنها لا تفسر مسار الأمور. يشمل ذلك تحوّل النقاش عن الحجاب (ليس البرقع أو النقاب) إلى حساسيّة أوروبيّة حيال هويّة نسويّة مغايرة، على رغم أن “الآخر” هو موضوع أساسي في الحداثة. وكذلك ظهر تلوين ديني في تلك الحساسيّة، ما هزّ أيضاً موضوع التعدّدية والعلمانية، وإن بصورة غير كبيرة. اشتد الأمر أكثر مع الإسلاموفوبيا مروراً بالمهاجرين، ووصولاً إلى الـ”بوركيني” وغيره. بسرعة، يجدر الاستدراك بأن الحداثة في مجملها [بما فيها أفكار ما بعد الحداثة] أثبتت قوّة لا يستهان بها في أوروبا والغرب، على رغم أن الصعود المقلق للشعبويّة أميركياً وأوروبيّاً يضعها أمام تحدٍّ تاريخي يجدر عدم الاستهانة به.
نسويّة عربيّة متحدّية
بالنسبة للحداثة العربية، لم تكن تلك الأمور موضع تمحيص كافٍ، بل أنها كشفت أن حداثة العرب عرجاء تماماً، ومساحات واسعة منها مبهور بالحداثة الغربيّة بأكثر من كونه متفاعل إنسانيّاً وحضاريّاً معها. ظل معظم كلام الحداثيين العرب عن النسوية وحقوق المرأة أسير ثنائية تبسيطية في “اشتباكاته” فكريّاً مع الإسلامويّة المعاصرة. الأرجح أن تغييراً إيجابيّاً هيّناً ومهمّاً حدث في سياق “الربيع العربي”، سواء عن قصد أو من دونه. في مصر، تصعد أصوات نسويّة متفلتة من الحداثة والإسلامويّة العربيّين، لترفع حقوق المرأة بتنوّعاتها، من دون افتراض “نموذج” معين فيه، بل تتفاعل النسويّة الحداثية فيها مع ما يسمّى بـ”النسويّة الإسلامويّة” (من رموزها مثلاً المفكرة هبة رؤوف عزت)، ويبرز فيها ميلها الصريح لـ”الاشتباك” مع الفقه الإسلامي التقليدي والتحديثي في مسائل كالطلاق (حق الخلع سبق “الربيع العربي” بقليل) والحجاب والتحرّش الجنسي والعنف الأسري وغيرها. ومن يريد التوسّع في تلك النقطة، بإمكانه مطالعة كتاب الباحثة شيرين أبو النجا “نساء في مصر الثوريّة- الجندر والجغرافيّات الجديدة للهـويّة”Women in Revolutionary Egypt الذي صدر بصورة غلاف عن جدرايّة في القاهرة؛ تظهر فيها كلمة “ما تصنفنيش” (= لا تصنّفني) تحت 3 وجوه نسائية بحجاب، وبرقع، وشعر مفرود. (للأسف، غير مترجم حتى الآن).
بقول آخر، الحداثة العربيّة مطالبة بخوض تحدي التجديد الفكري في تعريف النسويّة وحقوق المرأة العربيّة، بالتساوق والتوازي مع ضرورة أن تجدد فكرة الحداثة نفسها، وتربطها بالكينونة الثقافيّة الفعلية في مجتمعاتها، وكمدخل لتفاعل مع الحداثة وما بعدها لا يكون معقده الفعلي هو النموذج والاتّباع.
إذاً، مرّة اخرى، تثبت المرأة أنها في القلب من الحريّة، ويجدر بالحداثة العربيّة أن تنتقد طرق تعاملها مع النسويّة، بما في ذلك الخروج من الثنائية التقليدية السابقة فيها، وكذلك نقد تجربة “دولة الحداثة العربيّة” في ذلك. ولعل إخفاق الحداثة العربيّة في الدولة [تجاربها لم تخضع لنقد كافٍ، وأحياناً لم يجر نقد لها كفشل في صنع دولة لوطن ومواطن، بل تركز النقاش غالباً على السلطة والرئيس]، يصلح أيضاً مدخلاً لحوار مجدٍ مع الإسلامويّة العربيّة المعاصرة. كيف يمكن نقد الإسلامويّة بغياب الدولة الحديثة عنها، من قِبَل فكر حداثي لم ينتقد تجارب فاشلة في صوغ دول حداثيّة في مجتمعاته؟
[author title=”أحمد مغربي” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]