سياسة

جريمة اغتيال جمال خاشقجي ومصير المغيَّبين المجهولين؟

اغتيال المعارضين والمنتقدين كان وما يزال أحد أقانيم سياسة الاستبداد التي تمارسها السلطات العربية. إن كنت من المعارضين لهذا وذاك من الحكام فأنت معرض للاغتيال أو الإخفاء القسري مهما بلغ وزنك السياسي والاجتماعي والثقافي.

بدا المسرح الدولي لأسابيع معنياً بقضية اختفاء جمال خاشقجي إثر فقده بعد دخوله قنصلية بلاده. المعطيات التي كانت تنشر حول ما لاقاه داخل المبنى كانت أكثرغرابة وعنفاً من أفلام  هيتشكوك. بالطبع تجاوزت الشائعات حدود الوقائع رغم تعدد الروايات التركية و السعودية والأميركية. مع ذلك يمكن القول إننا أمام جريمة موصوفة. اللائمة التي ألقيت على الأجهزة الأمنية السعودية ومحاسبة 18 من المسؤولين الأمنيين عنها، لا تعني أن القضية قد وجدت تشخيصاً فعلياً ومعالجة حقيقية لها. ومثل هذا القول يتعدى الجريمة المروعة والمنفذة بعد مرور 66 عاماً على شرعة حقوق الإنسان الصادرة عام 1948 والتي أكدت على حق كل انسان في توفير المحاكمة العادلة والمحامين له، لأن الأصل هو قرينة البراءة وحق الدفاع. تأتي جريمة اغتيال الخاشقجي اليوم لتضرب عرضاً بكل التشريعات الوضعية والدينية، وتدفع بنا إلى القول إننا نعيش في عالم القرون الوسطى، حيث رغبة الحاكم المستبد هي المحدّدة لنوعية العقوبة. لا دساتير ولا قضاء ولا حتى اعتراف بحرمة الدم الإنساني، فضلاً عن الأعراف الاجتماعية.

لكن يجب أن ننطلق من الواقعة بصرف النظر عن بشاعتها لرؤية ما هو أبعد من مجرد دخول مواطن إلى قنصلية بلاده، المفترض أن تتولى مساعدته وحمايته عندما يلجأ إليها، فيخرج منها أشلاء مبعثرة. قبل البداية نؤشر إلى أن جمال خاشقجي لم يكن المعارض الصلب للسياسة السعودية، على العكس كان سابقاً من الناطقين باسمها، وكان يظهر على أجهزة الإعلام باعتباره من المقربين والناصحين لها. مع ذلك لاقى المصير الذي لاقاه. وهنا ندخل في الموضوع الفعلي وهو حرية التعبير عن الرأي والموقف في الدول العربية. نذكر أولاً أن الخاشقجي ليس هو الرجل/ أو المرأة الاولى الذي يتم تغييبه وأخفاؤه في هذه الدولة العربية أو تلك . اغتيال المعارضين والمنتقدين كان وما يزال أحد أقانيم سياسة الاستبداد التي تمارسها السلطات العربية. إن كنت من المعارضين لهذا وذاك من الحكام فأنت معرض للاغتيال أو الإخفاء القسري مهما بلغ وزنك السياسي والاجتماعي والثقافي. لننظر إلى القائمة الطويلة المعروفة من الشخصيات التي طالها القتل سواء أكان معلناً أو غير معلن، هذا دون أن ننسى عشرات ومئات الألوف من المغيبين قسراً في سوريا والعراق واليمن وليبيا.. من المواطنين الذين قبعوا سنوات في أقبية السجون قبل أن تتم عملية تصفيتهم بدم بارد. أينما إتجهت بناظريك نحو واحدة من دول التسلط العربي والجوار ترى أمامك قوائم من الضحايا الذين يتساقطون على الأعم بأيدي زبانية النظام العربي والإقليمي الواحد. والملفت أن بعض الذين تتم تصفيتهم ليسوا من المعارضين في قليل أو كثير، إذ أن بعضهم جرى التخلص منهم ، إما لأنهم يعرفون أكثر مما يجب، أو لأن المهام القذرة التي كُلفوا بها قد أُنجرت، ولم يعد هناك من ضرورة لبقائهم على قيد الحياة. القوى التكفيرية هي الأخرى لها حصتها من الجرائم المرتكبة بحق المعترضين على أحكامها “الشرعية” من مثقفين وأناس عاديين.

تستحق رواية ما يحدث من جرائم قتل وتغييب موصوفة، إلى سردية ملحمية لما يعانيه الإنسان العربي سواء أكان مثقفاً معارضاً أو مواطناً معترضاً على ما يتعرض له من مهانة في يوميات حياته وسعيه إلى تأمين معيشة مقبولة له ولأسرته. لكن ما لا يمكن إغماض العين عنه هنا هو سلوك الدول التي تعاطت مع واقعة مقتل الخاشقجي، ونكتفي بذكر الولايات المتحدة وتركيا باعتبارهما على رأس القائمة من الدول التي تفاعلت مع هذه القضية التي شغلت الرأي العام منذ حدث الإخفاء.

بعيداً عن مواقف جريدة “الواشنطن بوست” وقد كان الخاشقجي أحد كتابها، والصحافة، يمكن القول إن الإدارة الأميركية اعتبرت الموضوع سقطة سعودية يتوجب الحصول منها على ثمن فعلي مقابل إنجادها في ما يشبه المزاد. تصريحات الرئيس ترامب هي نموذج عن سياسة السمسار العقاري الذي ينتهز فرصة ضائقة زبونه لإنقاذه من حسابه الخاص وبالتالي لزيادة أرباحه. وهذا لا علاقة له بحقوق الإنسان والحريات وغيرها. منذ البداية أعلن ترامب إجازة التشهير بالمملكة، شرط ألا يمس ذلك الحديث عن صفقات وعقود الأسلحة. هذا في البداية، ثم كرت السبحة ودخل على الخط موضوع النفط وأسعاره والكمية المتوافرة في الأسواق راهناً، وتلك المتوقعة بعد فرض الحظر النفطي على إيران أوائل تشرين الثاني الحالي. وهنا أيضاً قدمت المملكة التطمينات اللازمة والضمانات المطلوبة لتوفير كمياته وعدم زيادة أسعاره. الولايات المتحدة كانت تطمح إلى خفض أسعار النفط والمملكة والدول المصدرة كانت تنوي رفعها حال تطبيق الإجراءات العقابية ضد إيران. وسط توقعات بوصول سعر البرميل إلى المائة دولار،  كما أعلنت المملكة أنها خارج التفكير بالعودة إلى الحظر النفطي كما حدث سابقاً في أعقاب حرب العام 1967، وأن البترول سيظل متدفقاً على الأسواق وبالأسعار العادية، يقيناً أن هذا الثمن مع تحميل المسؤولية إلى الجهاز الأمني كافٍ لعودة الأمور إلى مجاريها وكأن شيئاً لم يكن.

تركيا، وهي التي بينها وبين السعودية ما صنع الحداد لجهة المرجعية الأيديولوجية الإسلاموية وموضوع قطر والقاعدة التركية فيها، وكانت علاقاتهما دوماً مقرونة بسيول من الإتهامات المتبادلة حول المسؤولية عن توليد منظمات وترويج أفكارها (حركات الأخوان المسلمين و داعش والقاعدة بمسمياتها وماشابه)، لذلك رأت الفرصة مؤاتية لقبض الثمن والانتقام، وبالتالي تكريس موقعها في زعامة العالم الإسلامي، لذلك كانت المواقف والتسريبات يومية حول مستويات التورط السعودي الرسمي. والحصيلة أنها بدورها تريد أن تحصل على مقابل، طالما أن الجريمة وقعت على أرضها. وعليه، يمكن القول إن السعودية دفعت من رصيدها للدول التي تكالبت لاستغلال دماء الخاشقجي ومأساته.

 أما المواطن العربي المجهول الإسم والعنوان فهو وحده من يدفع ثمن جريمة السلطات المستدامة التي تطاله يومياً دون أن يرافق مصير إخفائه أو اغتياله مجرد سؤال في البازار الإعلامي المفتوح!. 

[author title=”محرر الشؤون العربية” image=”http://”]محرر الشؤون العربية[/author]