سياسة

التعطيل والهروب إلى الامام يسرِّعان الفوضى والخراب

كتب زكـي طـه

   البلد يحتضر وأهل الحكم يغطون محاصصاتهم الرخيصة وفسادهم وانعدام حس المسؤولية الوطنية والانسانية عبر التلاعب والعبث بحياة اللبنانيين. لم يكن مستغرباً أن يلاقي الاتحاد الاوروبي ذكرى انفجار المرفأ، بإقرار آلية فرض عقوبات على المسؤولين اللبنانيين، الذين يعرقلون تشكيل الحكومة وملء فراغ السلطة في لبنان، باعتبار ذلك مدخلاً للانقاذ من الانهيار، والبدء بتنفيذ الاصلاحات شرطاً لتأمين الدعم والمساعدة  للخروج من الأزمة القاتلة. ولم يكن مفاجئاً انعقاد المؤتمر الدولي الذي دعت له ونظمته فرنسا في مناسبة مرور سنة على الانفجار. ضمن إطار تصعيد الضغوط الدولية ضد أركان الطبقة السياسية، للتذكير بشروط الدعم والاصلاحات التي يتهرب منها هؤلاء، لأنها تتعارض مع مصالحهم ومواقعهم، بالإضافة إلى جمع الاموال دعماً للشعب اللبناني بعيداً عن مؤسسات الدولة وأجهزتها.

    لم يكن بلا دلالة أن يواجه رئيس الجمهورية في المؤتمر بمضبطة إتهام تُحمله هو والطبقة السياسية الحاكمة، كامل المسؤولية عن الانفجار والانهيار. جرى  ذلك رداً على إدعاءاته التي لم تعد تقنع أحداً سواء في الداخل أو الخارج، من أنه يعمل على إزالة العراقيل أمام تشكيل الحكومة لملء الفراغ في السلطة التنفيذية. وهو الفراغ القائم منذ سنة والناتج عن نهج التعطيل والابتزاز الفئوي المعتمد من تياره وحليفه الرئيسي المتحكم بالبلد، قبل وبعد وصوله إلى سدة الرئاسة.

    وامام غياب أية مؤشرات جدية لإمكانية تشكيل حكومة، ورغم تسارع عدد زيارات الرئيس المكلف ولقاءاته بصاحب العهد العاجز بسبب قوة ضعفه، وبذريعة الصلاحيات الرئاسية، عن عقد تسويات مع شركائه في السلطة حتى لإنقاذ ما تبقى من أشهر ولايته، وسط اصرار منه على ابتزاز اللبنانيين، ورهن مصيرهم  بطموحات رئيس التيار غير المشروعة، واستغلال المأزق المتعدد الأوجه الذي يحاصر سائر اطراف السلطة.  سواء لناحية عجز كل منها منفرداً على تحقيق مآربه وحماية وجوده، وحاجته الاضطرارية للآخر خلافاً لرغبته، أو لجهة العلاقات المأزومة في ما بينها بسبب طبيعة مشاريعها الفئوية المتعارضة والمتناقضة، وارتباطاتها ورهاناتها الخارجية. ما يدفعهم جميعاً لاعتماد سياسية الهروب إلى الأمام مخرجاً لأزماتهم، والترويج لسياساتهم الفئوية، وما يترتب عليها من طروحات ومواقف وأداء، وإدعاء أنها المخرج الوحيد والممكن للبلد من أزماته وحماية مصالحه، وما عدا ذلك  ليس سوى المشاركة في المؤامرة التي خطط  لها الخارج استهدافاً له باعتبارهم الأمناء على وطنية البلد ووجوده ومصيره.

   وبين فعل ورد، تتجدد الطروحات الاختزالية التضليلية للأزمة والشعارات المرافقة لها لتظلل مشاريع وأداء سائر الأطراف. بدءاً من اختزال الأزمة بسلاح المقاومة أو بالمؤامرة عليها، أو حصر الاسباب بهذا الطرف وتبرئة ذاك، أو في دعوات الحياد وتنظيم المؤتمرات بشأنه مقابل تخوينها وباعتبارها تستهدف جهة محددة. وقد فات الجميع أن مرجعيات تلك الطروحات هم منظومة المحاصصة والتعطيل والنهب والارتهان للخارج، التي تتشارك المسؤولية من مواقعها وقواها وأدائها، عما آلت إليه أحوال البلد الكارثية ومواطنيه.

    وإذ غاب عن اصحاب طروحات الحياد من أحزاب الطوائف ومرجعياتها الدينية والزمنية خاصة التي تدعي الانتساب للانتفاضة كالقوات اللبنانية، استحالة فصل لبنان وعزله عن محيطه العربي. وإن لبنان ليس بمنأى عما يواجهه هذا المحيط من أزمات ومخاطر راهنة.  وأن مصلحته الوطنية تكمن في توافق بنيه على حدود ارتباطه وانفصاله في آن، عن أزمات المحيط وما يحتشد فيه وحوله من انقسامات وحروب أهلية وصراعات دولية واقليمية ومشاريع سيطرة وهيمنة تهدد كيانات المنطقة وبنى مجتمعاتها. كما وأن الرهانات على الخارج لضمان الحياد، ليست سوى أوهام، باعتبارها أقصر الطرق لإدامة الانقسام الأهلي وكل ما يقع في امتداده من نزاعات تهدد مصير لبنان كياناً وطنياً ومجتمعاً أهلياً.

    في المقابل فإن المقاومة في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي، وتحديداً الاسلامية منها، التي أجبرت العدو على الانسحاب بقوة تضحيات مقاتليها وصمود اللبنانيين ودعمهم لها. قد فاتها أيضاً أن الاحتفاظ بالسلاح بعد زوال الاحتلال، والبحث له عن وظائف في الداخل والخارج، وبصرف النظر عن الذرائع والتبريرات، يستحيل أن يكون موضع إجماع بين اللبنانيين أو عامل استقرار لبلدهم. وأن التحصن به بذرائع غير مقنعة للأكثرية منهم. وأن الاستقواء بالسلاح ومصادرة قرار حماية البلد من الخطر الاسرائيلي، ومواجهة الارهاب الاصولي والقتال في الخارج، يجعله مصدر اضطراب وأخطار تكاد توازي مخاطر الاحتلال، بالنظر لتحوله سلاحاً أهلياً في إطار الصراع الدائم على السلطة بين قوى السلطة. وأداة مرتهنة للجهات الإقليمية الداعمة له ووسيلة لإبقاء البلد ساحة في خدمة مصالحها.

   وإذ كان اطلاق بضعة صواريخ عشوائية، باتجاه اراضي فلسطين المحتلة وتجهيل الفاعل، ثم تكرار الأمر للحفاظ على قواعد الاشتباك مع العدو الاسرائيلي، الذي لا مصلحة راهنة له كما حزب الله في الذهاب إلى الحرب، قد تزامن مع التصعيد بين إيران وخصومها حول شروط التفاوض في اعقاب استلام التيار المحافظ  كامل السلطة. إلا أنه  تزامن أيضاً مع التحركات الاحتجاجية في ذكرى انفجار المرفاً، وتصاعد موجة الاتهامات التي تحمّل حزب الله وسلاحه المسؤولية عن الانفجار والانهيار، مروراً بتعطيل تشكيل أي حكومة لا تستجيب لشروطه. ولأن الاتهامات مصدرها خصومه من قوى السلطة وبعض مجموعات الانتفاضة التي تدور في فلكها، فإن الاطلاق الرمزي للصواريخ يقع في اطار محاولات الرد عليها، ولتبرير وجود السلاح باعتباره لحماية البلد من خطر العدوان الاسرائيلي.

   من المؤكد أن ردة فعل بعض أهالي بلدة شويا التي كان لها قسطها من المقاومة، الذين فوجئوا بالقصف من محيط بلدتهم، لم يكن مؤامرة مدبرة كما وصفه البعض. وهم مواطنون اختبروا الدمار والخراب والتهجير الذي اصاب بلدتهم وغيرها جراء الاعتداءات الاسرائيلية. ولذلك اندفعوا لتوقيف مقاتلين مجهولين، قبل أن تتكشف هويتهم، وحجز سلاحهم تعبيراً عن الرفض الاحتجاجي لمثل هذه الممارسات. أما ردة الفعل والتصعيد الذي اعتمده مناصروا الحزب ومؤيدوه ميدانياً في أكثر من منطقة وعبر الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، فقد زاد الطين بلّة، لأنه طال مواطنين لا صلة لهم بما جرى، ما ساهم في تسعير وتعميم التحريض الطائفي وصعَّد الانقسام الأهلي حول أداء حزب الله وسلاحه.

    أما الخطاب التخويني الذي اعتمده أمين عام الحزب توصيفاً لما حدث ولمن قام به وأيده بما فيهم بعض المرجعيات والقوى السياسية واتهامهم بالتآمر ووصفهم بالاعداء،  فهو لا يختلف عن خطاب خصومه وشركائه في السلطة، وهم الذين ينازعهم السلطة ويبادلونه الاتهامات عينها. أما ربط الحادث بما جرى في خلدة قبل اسبوع من اشتباك مع عرب خلدة، عطفاً على تصفية أحد عناصر الحزب في سياق عملية ثأرية، والمطالعة التشكيكية الإتهامية لقاضي التحقيق والمسار القضائي في انفجار المرفاً، فقد كشف عمق وحجم المأزق الكبير الذي يواجهه الحزب داخل البلد، وفي علاقته مع سائر اطراف المنظومة المأزومة بدورها كل من زاويته الخاصة. أما سياسة الارتهان والتعطيل والهروب إلى الامام المعتمدة والتي يصعب تبرئته منها. إن الإمعان في سوق تهم الخيانة والتآمر وتبادلها مع الآخرين، واعتماد لغة التهديد والوعيد والاستقواء بالخارج، يساهم في تعميق الانقسامات وتعميم الفوضى وصولاً إلى توسيع دوائر الاشتباك والاقتتال الأهلي في موازاة الانهيار الشامل، وتسريع وضع البلد امام مصير قاتم محتوم.

Leave a Comment