كتب محسن زين الدين
هدف مصرف لبنان من التعميم رقم ١٥٨ الذي اصدره مؤخراً مسألتين أساسيتين في تعاطيه مع الوضع المالي والنقدي المتأزم “وضمناً وضع المصارف” الذي شارف على التعثر أن لم نقل الإفلاس. المسألة الاولى ولأاساس هو تعويم المصارف جميعاً كبيرهم وصغيرهم، وتقليص التزاماتهم بالعملات الاجنبية تجاه المودعين.
اما المسألة الثانية فهي تسديد ودائع المواطنين وبشكل خاص الودائع الصغيرة وما دون المتوسطة واقفال حساباتهم انهاءاً للخدمة المصرفية التي كان يمكن أن يستفيدوا منها في الظروف القاسية كالتي نمر بها. وإلزام هؤلاء بتسديد ما تبقى عليهم من قروض والتزامات للمصارف كي يستفيدوا من التعميم المذكور .
اشار التعميم إلى أن تسديد هذه الودائع، سيتم تدريجياً ولمدة سنوات خمس، بعد أن يحسم من هذه الحسابات كافة التزامات المودع من قروض بمختلف انواعها. وهكذا لا يبقى للمودع سوى القليل جداً من وديعته، على طريقة المثل “لم يبق للمودع من جمل وديعته غير أذنه”
ورد في التعميم التعويم ما نورده أدناه .
١- على كل مصرف أن يقوم بتسديد تدريجي، للودائع بالعملات الاجنبية المكونة في الحسابات المفتوحة قبل ٣١ / ١٠ /٢٠١٩. وهنا لم يأت التعميم على ذكر أي من الحسابات المفتوحة بعد هذا التاريخ، اي أن الحسابات التي فتحت بعد التاريخ المذكور، وحتى الودائع التي اودعت أيضاً تمَّ استثناؤها من مندرجات التعميم. وبالتالي لا يسري عليها التعميم المذكور، حيث أن التعميم واضح لهذه الناحية، إذ يؤكد أن الحسابات الموقوفة أي الموجودة في ٣١ /١٠ /٢٠٢١ والتي تستفيد من التعميم، يجب الا يتجاوز رصيدها أو ارصدتها المبالغ التي كانت متوافرة في ٣١ / /١٠/ ٢٠١٩، على أن يكون المبلغ أو المبالغ لا زالت متوافرة حتى تاريخ تنفيذ التعميم .
إن ما تقدم يعني بكل بساطة أن ما تم ايداعه في الفترة ما بين ٣١/ ١٠ /٢٠١٩ حتى تاريخ التعميم، لا يمكن الاستفادة منه الا بحدود الرصيد الموقوف في ٣١ / ١٠/ ٢٠١٩ بحيث للاستفادة من التعميم يجب ألا يتجاوز رصيد الحساب أو الحسابات المبالغ التي توفرت في الحساب بتاريخ ٣١ / ١٠/ ٢٠١٩ وما زال قائماً حتى تاريخ تطبيق القرار. إن هذا التدبير ملتبس بحيث إنه إذا ما تم تحريك رصيد الحساب الموقوف في ٣١ / ١٠/ ٢٠١٩، إيداعاً أو سحبا هل يستفيد من التعميم ، أم أنه يحتسب الرصيد الباقي بعد السحب منه دون احتساب الايداعات فيه بعد تاريخ ٣١/ ١٠/ ٢٠١٩.
ثم ورد في التعميم، أنه لاستفادة صاحب الحساب منه، يحتسب مجموع أرصدة حساباته الشخصية بالعملات الاجنبية ” كافة العملات الاجنبية “، مضافاً إليها أرصدة حساباته ذات الصلة، أي المشتركة ” و، أو ” أو تلك التي يدخل فيها طرفاً ، بمعنى حساباته بالاتحاد مع آخرين، إلى جانب ذلك تحسم، أي لا تحتسب كل المبالغ المحولة من الليرة اللبنانية إلى العملات الاجنبية بعد تاريخ ٣١ / ١٠/ ٢٠١٩. كما يؤخذ في اعتبار التنزيل أرصدة حساباته المدينة بالعملات الاجنبية.
إن ما تقدم من إجراء، يعني بكل بساطة، أولاً ، ضمان المصرف، أي مصرف في سداد قرضه بالعملات الاجنبية، بحيث تمَّ حسم وحجز قيمة القرض من رصيد الحساب تأميناً لسداد القرض. وثانياً، بات صاحب الحساب مجبراً على عدم تحريك هذا الجزء من الحساب، وهكذا تقلص رصيد الحساب إلى الحد الادنى الذي يمكن أن يستفيد منه حسب التعميم .
واستتبع هذا الإجراء بآخر، وهو أن من يستفيد من التعميم رقم ١٥٨ تتوقف استفادة أرصدته الباقية من التعميم رقم ١٥١ الذي يجيز له سحب مبالغ محددة شهرياً بالعملة الاجنبية على سعر ٣٩٠٠ ل ل للدولار الواحد، وذلك طوال فترة استفادته من التعميم رقم ١٥٨، والتي يمكن أن تمتد إلى خمس سنوات .
بناءاً على ما تقدم يكمل تعميم التعويم، بأن على المصارف أن تحدد العملاء الذين يستوفون الشروط للاستفادة من التعميم. إذن ترك مصرف لبنان للمصارف تحديد عدد المودعين الذين “يرتأي” أنهم مستوفو شروط التي تخولهم الاستفادة من تعميم مصرف لبنان، اي إن المصرف سوف يقوم بدراسة حساب العميل والتدقيق في كل حركة حسابه منذ ٣١ / ١٠ حتى تاريخه. وفي حال قرر المصرف أن هذا العميل او ذاك تنطبق عليه شروط الاستفادة يصار إلى دعوته وابلاغه بذلك لأخذ موافقته، وذلك بالتوقيع على عقد فتح حساب فرعي جديد، يحول إلى هذا الحساب مبلغ يوازي خمسين ألف دولار اميركي وذلك من حسابات العميل المختلفة، بالعملات الاجنبية، اذا توفرت أو اي مبلغ يمكن أن يتوفر ضمن الشروط المنصوص عليها في التعميم المذكور.
إن الحساب الجديد وبغض النظر عن قيمة الرصيد المحول إليه، وحده لا يمكن أن يتجاوز خمسين الف دولار. وهو لا يستفيد من أية فائدة طوال المدة المنصوص عليها والتي قد تمتد إلى خمس سنوات، ولهذا فإن هذا الحساب يعفى من المصاريف أو العمولات .
كما أن على العميل أن يوقع كتابا برفع السرية المصرفية عن حساباته ذات الصلة في المصرف المعني، وهذه مسألة قد لا تكون ذات اهمية لأصحاب الحسابات الصغيرة، لكنها هي مهمة بالتأكيد لأصحاب الودائع المتوسطة أو للمغتربين أو غير المقيمين، والذين ساهموا بطريقة أو بأخرى في رفد المصارف بودائع من الخارج، وهؤلا شملهم التعميم بمبلغ لا يزيد عن الخمسين الف دولار اميركي، وأن كانت حساباتهم ودائعها ذات أرقام عالية .
وقد حدَّد التعميم قيمة السحب التدريجي شهريا، بمبلغ اجمالي قدره ثمانمائة دولار اميركي، على أن يدفع نصفها أي ٤٠٠ دولار نقداً بالدولار، أو يحولها المستفيد إلى الداخل او الخارج كما يشاء، ويدفع النصف الآخر بما يعادله بالليرة اللبنانية على سعر منصة صيرفة التي استحدثها مصرف لبنان. اذا يبلغ سعر صرف الدولار بـ ١٢٠٠٠ ل ل للدولار الواحد مبدئياً، على أن يدفع نصف المبلغ الموازي نقداً، والنصف الاخر يودع في بطاقة مصرفية لإنفاقها مقابل مشتريات أو خلافه، على ألا يتجاوز المبلغ الاجمالي المسحوب سنويا مبلغ ٤٨٠٠ دولار.
وإذ أكد التعميم أن لصاحب الحساب الحق في سحب المبلغ المسموح به شهرياً كلياً أو “جزئياً “، لكنه في نفس الوقت اضاف، أنه في حال عدم السحب “لأي سبب قد يكون منها عدم توفر المبالغ نقداً ” لهذا تتراكم المبالغ إلى الأشهر التالية وتبقى في حسابه وتكون حقاً ثابتاً له.
إن هذا يعني أن المستفيد لم يعد لديه خيارات اخرى، فهو ارتضى أن يستوفي جزءاً من وديعته بالتقسيط “المريح للمصارف” على شروط السحب التي حددها التعميم. لكن هذا التعميم حين سمح بتراكم المبالغ شهرياً، لعدم التمكن من ذلك لسبب ما، وقد تكون من ضمن هذه الأسباب عدم توفر المبالغ نقداً لدى المصارف، فإنه في هذه الحال ما على المستفيد سوى انتظار الفرج من المصرف. وبذلك نكون قد عدنا إلى بداية الاجراءات المصرفية للأزمة المالية، وبات المستفيد أمام خيار واحد هو الاستمرار في سحب جزءِ من المبلغ بالليرة اللبنانية، ومراكمة الجزء الآخر في حسابه إلى أجل غير مسمى.
ثم ينهي التعميم “اجراءاته” بالاشتراكات أنه لا يجوز للمصارف الامتناع عن دفع المبالغ المستحقة لصاحب الحساب إلا في حال طلب مصرف لبنان ذلك. متى، كيف ولماذا، هذا ما أبقاه التعميم مبهماً .
ثم إن التعميم قد استثنى اصحاب الحساب الاعتباريين والجمعيات والمؤسسات الخ من الاستفادة من التعميم، دون ذكر الأسباب الفعلية لذلك.
على كل ما تقدم، نرى أن التعميم فعلياً هو تعويم للمصارف من ناحية حيث اجاز لها تقسيط التزاماتها تجاه عملائها بما يسمح بتخفيفها وتقليصها خاصة بالعملات الاجنبية، وشرعنة الهير كات hair cut على الودائع من قبل مصرف دون الحاجة إلى قانون أو مرسوم من ناحية ثانية، وذلك حين يجبر المودع على استيفاء جزءِ من وديعته تدريجياً وعلى مدى خمس سنوات وعلى سعر صرف يوازي نصف سعر السوق الموازي، ثم أجبر المودع للرضوخ وقبول استيفاء جزء من وديعته بالتقسيط . ليس هذا فحسب انما منعه من تحريك بقية ودائعه التي لا يطالها التعميم لمدة تتراوح بين سنة وخمس سنوات، وهذا أيضاً يعني اراحة المصارف من مطالبات عديد المودعين لمدة طويلة
لقد سَهَل التعميم للمصارف إمكانية تراكم المبالغ المتوجب دفعها نقداً بالعملة الاجنبية شهراً فشهراً اذا لم يتم سحبها لعدم توافرها نقداً . كما أتاح للمصارف التأكيد على استيفاء قروضها بمختلف أنواعها على العملاء وذلك باقتطاع قيمها من مجمل ودائعهم وبالعملة الاجنبية.
وعليه شرعن مصرف لبنان ما يسمى قانون “الكابيتال كونترول ” capital control” وذلك قبل إقراره من مجلس النواب، اذ منع المودعين من تحريك بقية ودائعهم التي تفوق الـ ٥٠٠٠٠ دولار، فباتوا لا يستطيعون التصرف بها طيلة فترة استفادتهم من التعميم رقم ١٥٨.
لم يرفق مصرف لبنان نموذجاً موحداً للمصارف لعقد فتح الحساب الجديد المذكور في التعميم، وترك بالتالي الحرية لكل مصرف لتوليفة العقد الذي يراه مناسباً له. والذي بناءاً عليه سوف يعفيه من أية مطالبات من عملائه لمدة قد تصل الى سنوات خمس.
لذلك لم نشهد اعتراضاً لجمعية المصارف مجتمعة ولا للمصارف فرادى على التعميم التعويم، جلَّ ما طالبت به الجمعية والمصارف، هو بيان استفسار واستيضاح لآلية وإجراءات تطبيق التعميم، وهو ما سارع مصرف لبنان إلى الإستجابة له واصدار بيان توضيحي بالإجراءات الواجب اتباعها لتنفيذ التعميم. وكان الجزء الأكثر وضوحاً هو الشروط المتوجبة على العميل للإستفادة من التعميم وهي خطوات فعلية لتعويم المصارف.
لكل ما ذكر وما لم يذكر نرى، أن عنوان ما صدر عن مصرف لبنان، هو “تعميم التعويم رقم ” ١٥٨”.
Leave a Comment