اقتصاد

أمام وقائع الانهيار: دياب يغسل يديه.. والبلد إلى أين؟!

كتب المحرر الاقتصادي

أحال الرئيس حسان دياب مهمة حماية لبنان واللبنانيين على الله، وعلى دول السفراء الذين التقاهم، و”غسل يديه” وأيدي وزراء حكومة تصريف الأعمال من المسؤولية عن المساهمة في انهيار البلاد. ودعاهم  ودولهم والمنظمات الدولية والرأي العام إلى المساعدة في إنقاذ لبنان قبل فوات الأوان. وقدم دياب “عرض حال ” مزرٍ عما وصلت إليه البلاد على صعد محطات الوقود والدواء وحليب الاطفال والكهرباء والمستشفيات، ما يجعلها تعيش في نفق مظلم على مختلف المستويات الحياتية والمعيشية والاجتماعية والصحية والخدماتية. وذلك يعني اندفاع الوضع نحو الكارثة الكبرى -أو شفير الكارثة- وكلا التعبيرين وردا في النص، والتي تتجاوز تداعياتها أي قدرة على الاحتواء. محذراً من أن الارتطام الكبير ستتردد أصداؤه إلى المدى القريب والبعيد، في البر والبحر. ولن يستطيع أحد عزل نفسه عن خطر انهيار لبنان. بالطبع اضاف  إلى اللبنانيين نحو مليون ونصف المليون نازح سوري ومئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين. وعليه، سيكون من الصعب التكهّن بنتائج انهيار الاستقرار. ودافع عما قامت به حكومته قبل استقالتها من قرارات و”خطة متكاملة” للتعافي تتضمن إصلاحات مالية واقتصادية، وهي جاهزة للتطبيق بعد تحديثها، وتستطيع الحكومة المقبلة المباشرة بتنفيذها فور تشكيلها. تحدث أيضاً عن أن ربط حياة اللبنانيين بتشكيل الحكومة يمثل خطراً على حياتهم وعلى الكيان وسط الضغوط والحصار والعقاب، داعياً إلى كسر الطوق الذي بدأ يخنقهم ويقطع الاوكسيجين عن وطنهم. وناشد عبرهم -السفراء- الملوك والأمراء والرؤساء والقادة في الدول الشقيقة والصديقة، والامم المتحدة وجميع الهيئات الدولية، والمجتمع الدولي والرأي العام في العالم المساعدة في انقاذ اللبنانيين من الموت، ومنع زوال لبنان الذي بات على مسافة أيام قليلة من الانفجار الاجتماعي. واللبنانيون يواجهون وحدهم هذا المصير المظلم، فقد نجحت الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في تأجيل الانفجار وليس منعه..

قبل أن يختم أعلن راحة ضميره على غرار سواه من المسؤولين الذين يخرجون من بين ركام “إنجازاتهم”، معربين عن ثقتهم أن ما فعلوه كان في مصلحة البلد، بينما كانت سياساتهم  تضاعف من عمق الحفرة التي يقذفون بالناس والبلاد إلى جوفها.

بالطبع لو أن المجال يتسع لقراءة كل فقرة من فقرات كلمته لتبين مشابه لنصوص سواه من المسؤولين الذين ينكرون المسؤولية السياسية عن هذا المآل، خصوصاً مع الرئيس دياب الذي أكد لنا لمناسبة مرور 100 على قيام حكومته أنها أنجزت 97% مما جاءت من أجله، فإذا به الآن يتحدث عن الكارثة والارتطام والخطر الذي يهدد لبنان واللبنانيين ومعهم اللاجئون من سوريين وفلسطينيين.

ومع أن حديث دياب يصلح كنموذج عن الخطاب السياسي الذي يلهج به سياسيو لبنان وقادتهم وزعمائهم وولاة أمرهم، الا أن الأكثر فضائحية ما تكشفت عنه التقارير والمسوحات من وقائع الحياة اليومية للناس الذين يلمسون لمس اليد ما يظهر إحصائياً. علما أن الكارثة لا تصيب مقطوعي أو محدودي الدخل والعاطلين عن العمل فقط، بل تصل إلى فئات أعلى في المرتبة الاجتماعية من خلال الإذلال العام على المحطات وأمام الصيدليات وقريباً على أبواب الأفران. ومعها كل أنشطة الاقتصاد الموازي التي حلت محل اقتصاد البلاد كما كان عليه. كل هذا والتهريب قائم على قدم وساق وأجهزة الدولة إلى مزيد من التفكك والانحلال، وكل تاجر يغني على ليلى احتكاراته ودون حسيب أو رقيب.

مرصد الأزمة في الجامعة الاميركية

نبدأ من التقرير الذي وضعه مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية، والذي أشار فيه إلى تضخم في أسعار المواد الغذائية غير مسبوق، إذ سجَّلت أسعار السلع الأساسية التي تحتاج إليها الأسر ارتفاعًا ملحوظًا في الأسبوع الأخير من شهر حزيران 2021، بناءً على جداول أسعار وزارة الاقتصاد والتجارة، والتتبع الأسبوعي لها من قبل باحثي المرصد.

ويقدم المرصد أمثلة عن هذا الارتفاع، فسعر زيت دوار الشمس ارتفع بنسبة تخطَّت 1100 في المئة منذ صيف 2019، أي قبل حدوث الانهيار المالي والاقتصادي، فيما ارتفع سعر لحم البقر 627 في المئة، والأرز العادي 545 في المئة. أما سعر البيض فقد ارتفع 450 في المئة، وتضاعف سعر اللبنة 275 في المئة.

وقال إنّه “وفقًا لمحاكاة أسعار المواد الغذائية في حزيران 2021، فإنّ وجبة غداء أو عشاء عادية مكوَّنة من سلطة وحساء وطبق أساسي (أرز ودجاج)، لأسرة مكونة من خمسة أفراد، باتت كلفتها تُقدَّر بـ71000 ليرة لبنانية يومياً، من دون احتساب أيِّ نوعٍ من أنواع الفاكهة أو كلفة المياه والغاز والكهرباء ومواد التنظيف. وبناء على هذه التقديرات فمن المتوقَّع أن تنفق الأسرة نحو 2,130,000 ل.ل. (مليونين ومئة وثلاثين ألف ل.ل.) على وجبة رئيسية واحدة خلال شهر واحد، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف (3,16) الحد الأدنى للأجور تقريباً. عندها وبأقل تقدير، ستجد أكثرية الأسر في لبنان (72 في المئة) – التي لا تتعدَّى مداخيلها 2,400,000 ل.ل. (مليونين وأربعمئة ألف ل.ل.) شهريًا- صعوبة في تأمين قُوتِها بالحدِّ الأدنى المطلوب، استناداً إلى أرقام دخل الأسر، بحسب تقرير إدارة الإحصاء المركزي لعام 2019”.

 وأضاف: “يرتبط التضخُّم الكبير الحاصل في أسعار المواد الغذائية بتدهور سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، حيث خسرت العملة الوطنية نحو 99 في المئة من قيمتها خلال أقل من عامين. ومن المتوقَّع أن يستمرَّ هذا التضخُّم مع ترقُّب انخفاضٍ أكبر سيطرأ على قيمتها خلال الأشهر المقبلة، علمًا أنَّ لبنان يستورد معظم احتياجاته الغذائية من سلعٍ أو موادَّ أولية من الخارج”.

ويطرح المرصد سؤال ما العمل؟

ويجيب “مع انعدام القرار السياسي وتسارع الانهيار والاصرار على تجاهل الازمات الانسانية والاجتماعية والتأخر غير المبرر في اطلاق برامج تُسعف الفقراء وتخفف من وطأة الازمة عليهم، لا يبقى في المرحلة القادمة إلَّا تضامن الناس بعضهم مع بعض والاعتماد على الروابط الاهلية والعائلية على مستوى البلدات والقرى وأحياء المدن ، حتى يمرَّ عصفُ الأزمة بحد ادنى من مآسي وسوء تغذية واكلاف انسانية متعددة”.

اليونيسيف: 30% من أطفال لبنان جياع

مسح منظمة اليونيسيف التابعة للأمم المتحدة صدر قبل تقرير مرصد الجامعة الاميركية وعرض أرقاماً صادمة  عن أثر الأزمة الاقتصادية على أطفال لبنان. وحسب المسح الذي أجرته عن العائلات في لبنان، تأكدت من نتائجه أن 77 في المئة من الأسر لا تملك ما يكفي من غذاء أو من مال لشرائه. و30 في المئة من أطفال لبنان ينامون ببطون خاوية.

وأشارت المنظمة إلى أن الأطفال في لبنان يعانون من وطأة أحد أسوأ الانهيارات الاقتصادية في العالم في الآونة الأخيرة. ورأت بعيد نشر المسح أن “الأزمات المتتالية التي تضافرت في تكوين الأزمة الكبيرة، بما فيها الانهيار الاقتصادي الكامل، أدت إلى جعل الأسر والأطفال في لبنان في حال يرثى لها، وأثرت تقريباً على كل جانب من جوانب حياتهم. وذلك في ظلِ شح الموارد واستحالة الوصول واقعياً إلى الدعم الاجتماعي”.

وقالت ممثلة اليونيسف في لبنان يوكي موكو عن الموضوع: في ظل عدم وجود تحسن في الأفق، المزيد من الأطفال يذهبون إلى فراشهم ببطون خاوية. ومغه تتأثر صحة الأطفال ومستوى تعليمهم وكل مستقبلهم. فالأسعار تحلق بشكل هائل، ونسبة البطالة تستمر في الارتفاع. ويزداد عدد الأسر في لبنان التي تضطر إلى اتخاذ تدابير التأقلم السلبية لتتمكن من الصمود، كإلغاء بعض وجبات الطعام، توفيراً لثمنها، أو إرسال أطفالهم إلى العمل، وتكون غالباً ظروف عمل خطيرة، أو اللجوء إلى تزويج بناتهم القاصرات، أو بيع ممتلكاتهم.

الكارثة بالأرقام

وأشار المسح إلى أن أكثر من 30 في المئة من الأطفال في لبنان ناموا في فراشهم، في الشهر الماضي، ببطون خاوية، لعدم حصولهم على عدد كاف من وجبات الطعام.

 77%  من الأسر لا تملك ما يكفي من غذاء أو من مال لشرائه، وترتفع هذه النسبة بين الأسر السورية إلى 99 في المئة.

60  % من الأسر تضطر إلى شراء الطعام عبر مراكمة الفواتير غير المدفوعة أو من خلال الإقتراض والإستدانة.

30 % من الأطفال في لبنان لا يتلقون الرعاية الصحية الأولية التي يحتاجون إليها.

-7 % من الأسر أعلنت تأثرها الكبير بالزيادة الهائلة في أسعار الأدوية.

 واحد من كل عشرة أطفال في لبنان أُرسل إلى العمل.

 40 % من الأطفال ينتمون إلى أسر لا يعمل فيها أحد، و77 في المئة من تلك الأسر لا تتلقى مساعدة اجتماعية من أي جهة.

15 % من الأسر في لبنان توقفت عن تعليم أطفالها.

80 % من مقدمي الرعاية يتحدثون عن مواجهة الأطفال صعوبات في التركيز على دراستهم في المنزل، إما بسبب الجوع أو نتيجة الاضطراب النفسي.

 هذا، وجددت اليونيسف دعواتها إلى السلطات المحلية في لبنان، من أجل التوسع السريع في تلبية الحاجات الملحة وتوفير إجراءات الحماية الاجتماعية، من أجل ضمان الحصول على تعليم جيد لكل طفل، وتعزيز خدمات الرعاية الصحية الأولية وحماية الطفل.

والآن إلى اين… ؟

أجاب الرئيس دياب بمرثية “تدمي القلوب” توجه بها إلى الملوك والرؤساء والأمراء ومسؤولي المنظمات الدولية والرأي العام حتى ، مهيباً بالجميع أن يهبوا للوقوف إلى جانب لبنان في الكارثة التي يغرق فيها والمرشحة للتصاعد خلال أيام وليس أشهر. لم يفتح فمه بكلمة واحدة عن الأداء السياسي لطبقة المحاصصة الطائفية المافياوية، وكيف أوصلت البلاد إلى هوة لا قعر محدد لها. صحيح أنه غمز من قناة البعض، لكنه في المقابل حمّل المحاصرين للبنان المسؤولية ودعاهم إلى عدم معاقبة الناس. بالطبع سينقل السفراء ما سمعوه إلى دولهم. ومن منهم سيجود ببعض المساعدات ستذهب في الطرق المعروفة كما حدث مع الشاي السريلانكي وغيره مما وصل إلى لبنان بعد كارثة المرفأ، واستقر في مستودعات التجار والميليشيات التي تستعيد هيمنتها. هذا ناهيك بمليارات الدعم التي وجدت طريقها سالكاً وآمنا نحو خطوط التهريب المعروفة والمجهولة القريبة والبعيدة.

مرصد الاميركية لم يجد حلاً للمعضلة سوى بالتضامن العائلي والبلدي والمحلي ريثما يمر العصف المدمر. وهذه مجرد دعوة اخلاقية جديرة بالمنابر الروحية في الكنائس والمساجد ودور العبادة، ولا تليق بمؤسسة أكاديمية يجب أن تتمتع بوعي شمولي لعناصر الكارثة في مراحل تشكلها وصولاً للحظة إعصارها. أما اليونيسيف فقد توجهت للسلطات المحلية من أجل التوسع في توفير اجراءات الحماية الاجتماعية، وهي سلطات لم تتصرف يوماً على أساس توفير ما تطالب به المؤسسة الدولية ايام البحبوحة والرخاء فكيف الآن؟ يحدث هذا في ما المؤسسات الضامنة تنهار الواحدة تلو الأخرى على الصعيد العملي كما يلمس المضمونون يومياً لدى اضطرارهم إلى الاستشفاء والحصول على الخدمات الأساسية. من هذا يطرح السؤال إلى أين؟

المؤكد أن الأزمة ليست طارئة أو ابنة ساعتها أو قريبة العلاج، فالوقائع السياسية والاقتصادية والمالية تنذر بآتٍ هو أفدح في ظل الأداء المتواصل لهذه الطبقة ومسؤوليها. والأفدح منه هذا الصمت الذي تغرق فيه كل تلك المجموعات التي كانت “تهندس” لاستلام السلطة وتبوؤ المناصب الوزارية والنيابية باعتبار أن النظام سقط وبات مسجى في نعش التغيير… والتبشير بقرب إدارتها للبلاد . ودون طويل كلام يمكن القول إن مهمة الإنقاذ تقع على عاتق مجموعات الانتفاضة التي ما تزال تنبض بروح 17 تشرين الأول عام 2019 ، والتي يمكن وصف المجريات الحالية والمتواصلة بأنها استكمال لاختراق صفوف الانتفاضة وتطييفها وحرفها عن مسارها السلمي الديموقراطي لصالح التوجه نحو فوضى أهلية نجد معالمها الراهنة بوضوح في الكثير من الوقائع اليومية.. سؤال إلى أين؟

على قوى الانتفاضة الحقيقية أن تجيب عنه من أجل النهوض بمهمة الإنقاذ الملحة اليوم كما كانت بالأمس وستكون أعسر غداً. 

Leave a Comment