كتبت منى سكرية
في كتابه “أكبر سجن على الأرض ـ سردية جديدة لتاريخ الأراضي المحتلة”، يقدم المؤرّخ الإسرائيليّ إيلان بابيه سردية تاريخية تنسف السردية الإسرائيلية القائلة بأن إسرائيل خاضت في العام 1967 حرباً دفاعية لاستباق هجوم عربي شامل. وهو ما لم يقرأه بابيه في الوثائق التي سُمح بنشرها في تل أبيب مؤخراً. إيلان بابيه (67 سنة)، كما تقدمه “موسوعة المعرفة”، هو مؤرخ إسرائيلي ينتمي إلى تيار المؤرخين الجدد الذين أعادوا كتابة التاريخ الإسرائيلي وتاريخ الصهيونية. درس في جامعة حيفا، وهو يُدرّس حاليا بجامعة إكستر البريطانية. يعتبر بابيه من أبرز دُعاة حل الدولة الواحدة للقضية الفلسطينية، كما أنه من مؤيدي مقاطعة المؤسسات التعليمية الإسرائيلية. نتيجة كتاباته ومواقفه تعرض بابيه للكثير من النقد في إسرائيل بسبب تأييده للحقوق الفلسطينية في عودة اللاجئين وفي مقاومة الاحتلال. في سياق عمله الحثيث لتفكيك “الخرافات الإسرائيلية”، يغوص إيلان بابيه في الأرشيف الإسرائيلي. كانت الرواية الأكثر تداولاً أن إغلاق الرئيس المصري جمال عبد الناصر لمضيق تيران، ودخول القوات المصرية الى سيناء، والخطاب العدائي في العالم العربي، كلها براهين تؤكد ان العالم العربي كان موشكاً على خوض حرب، ما يجعل هجوم إسرائيل مجرد وسيلة للدفاع عن النفس. بيد ان هذا التصوير لحرب 1967 هو سرد مغلوط للأحداث التاريخية، ذلك أن سرعة حسم المعركة، وآليّة الحكم التي وُضعت قيد التنفيذ مباشرةً بعد القتال، تثيران تساؤلات مشروعة حول حقيقة ما كان مخطّطًا له. ففي كتاب “المثلث المشؤوم” لنعوم شومسكي يورد المؤلف عدداً من الإقتباسات التي تظهر أن الجنرالات والسياسيين الإسرائيليين أقروا لاحقاً بأنهم كانوا الطرف المعتدي في حرب 1967 ، وكان من بين هؤلاء رئيس الوزراء الراحل اسحاق رابين (ص 73). ولم يشكّل النجاح الإسرائيلي مفاجأة للإدارة الأميركية حيث كان البعض يعمل عن كثب مع الحكومة الإسرائيلية لمنحها مزيداً من الوقت كي تستكمل احتلال الضفة الغربية قبل أن تتمكن الأمم المتحدة من التدخل (ص 90). فقبل بضع سنوات، أي في العام 1964، لم يكن واضحاً أبداً بأن إسرائيل هي طفلة اميركا المدللة في المنطقة، لكن الوضع تبدل غداة اغتيال الرئيس كينيدي وتسلم الرئيس جونسون سدّة الحكم في الولايات المتحدة. وهكذا بدأت حقبة جديدة لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، تُعامل فيها إسرائيل على انها عضو في مجموعة مميزة من الدول التي لا تتدخل الولايات المتحدة في سياساتها (ص 115). في صيف العام 1963 ـ يضيف بابيه – التحقت مجموعة طلاب إسرائيليين غير عاديين بدورة دراسية مدتها شهر واحد في الحرم الجامعي (جفعات رام)، وكانوا كلهم تقريباً من ذوي الخلفية الحقوقية.. تولى قسم العلوم السياسية في الجامعة العبرية دعوة هذه المجموعة. تضمنت الدورة الدراسية محاضرات عن الحكم العسكري عموماً والوضع السياسي في الضفة الغربية وقطاع غزة. وشمل المنهج الدراسي أيضا مقدمة قصيرة عن الإسلام. كان وجود تلك المجموعة من الطلاب في “جفعات رام” في العام 1963 جزءاً من الإستراتيجية العسكرية الشاملة التي أطلقها رئيس الأركان الإسرائيلي، وقد طرحها على الجيش في الأول من أيار/ مايو 1963 وهي تهدف إلى الإعداد للسيطرة العسكرية لتصبح منطقة عسكرية محتلة.
واللافت للإنتباه أن الجيش الإسرائيلي كان قد أعدّ قبل أربع سنوات من احتلاله الضفة لإقامة بنية تحتية قضائية وإدارية للتحكم بحياة مليون فلسطيني.. هكذا يتبين أن النخبة العسكرية والسياسية الإسرائيلية ومنذ سنة 1948. وبشكل حثيث إثر 1956 كانت تبحث عن اللحظة التاريخية المناسبة لاحتلال الضفة الغربية. سُميت الخطة “شاكهام” والتي تم دمجها لاحقاً مع الخطة “غرانيت”، وكانت أكثر المخططات تنظيماً وتفصيلاً بين كل الاستعدادات الإسرائيلية التي سبقت حرب 1967 الخاصة بكيفية احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة (ص 11-12- 13-14). في إعادة قراءة سردية الأحداث ـ الإحتلال، يقول بابيه في مقدمة كتابه “أنشىء السجن الضخم 1967 لا للإبقاء على الإحتلال بل كاستجابة عملية للشروط الايديولوجية المسبقة للصهيونية” (ص 39). ومن منظار هذا السجن الضخم تبدو النقاشات الداخلية الإسرائيلية حول الأراضي الفلسطينية حافلة بالأوهام والنفاق (ص41).. فالكتاب هو تأريخ لـ”المشروع” اكثر منه تأريخ للشعب الخاضع للإحتلال (ص 42). هذا الكتاب بمثابة سجل للمشروع الصهيوني والإسرائيلي حتى يومنا هذا، مع تركيز خاص على المرحلة التي بدأت مع الإجتماعات الحكومية في العام 1967. في الفصل الأول، يقول بابيه: في مطلق الأحوال كان ديفيد بن غوريون المسؤول الرئيسي عن صنع السياسات في الخمسينيات. وعندما عاد إلى السلطة ترجم أفكاره العدائية الى أفعال فتواطأ مع بريطانيا وفرنسا وقاد اسرائيل في تشرين الأول/ اكتوبر 1956 الى حرب في مصر هي حملة السويس.. خلال حملة السويس لاحت في الأفق مجدداً ولوقت قصير فرصة احتلال الضفة الغربية (ص 55).. وهكذا وبأكثر من طريقة شكّل نجاح إسرائيل في تمتين تحالفها العسكري مع الولايات المتحدة الذي لم يتحقق إلا في العام 1966 و1967 شرطاً مسبقاً ضرورياً لتحقيق حلم توسيع دولة إسرائيل (ص59). يتحدث إيلان بابيه عن دعم الصحافة الإسرائيلية القومية المتطرفة والعدوانية والتي كانت تدعم هؤلاء الجنرالات والسياسيين، فيقول: ناقش الصحافيون وكبار المسؤولين الحكوميين علناً وبحماسة إمكانية تأسيس دولة إسرائيل الكبرى في 1958 وقد ارتأت الصحافة أن السبب الرئيسي للخوض في هذا الخيار هو الرأي العالمي الذي كان سيتقبل توسعاً من هذا النوع بعيداً عن اي تبرير آخر لاستعادة قلب الوطن اليهودي. كانت فكرة الإستعادة هذه راسخة بعمق في المناهج والنصوص التعليمية المدرسية في النظام التربوي الإسرائيلي. وكما أشار توم سيغيف، كانت في ألعاب الأطفال التي تضمنت خرائط لإسرائيل ممتدة على كامل مساحة الضفة الغربية وتفترض وقوعها في قبضة الإحتلال (ص 63). هذا عن العوامل الداخلية لكن ماذا عن العامل الخارجي الأكثر حسماً؟ يذكر إيلان بابيه أن الإدارة الأميركية برئاسة ليندون جونسون أثبتت أنها أخلص حليف تمنت إسرائيل أن تحصل عليه يوماً.. وتُعزى الإنجازات الإسرائيلية في حرب 1967 جزئياً إلى تفوق الأسلحة الأميركية بما في ذلك تكنولوجيا المقاتلات المتقدمة التي أدت دوراً محورياً عندما شنّت إسرائيل هجومها المفاجىء على الجيوش العربية في الساعات الأولى من أول يوم قتال. (ص 68-69) “ما يعيدنا إلى التذكير بما قاله تشومسكي”.
وفي الفصل الثالث بعنوان القدس الكبرى، يدعو بابيه القارىء إلى أن يتمعن في دراسة هذا الواقع، لأنه يصف الإعداد الدقيق والتنفيذ العاجل لهذه الخطة في السنة الأولى التي تلت نهاية حرب 1967. فقبل فترة طويلة من محاولة إسرائيل تبرير استيطانها للضفة الغربية وقطاع غزة، معتبرة انه رد ضروري على أعمال إرهابية أو خطوة آحادية الجانب لمواجهة مأزق دبلوماسي طال أمده، كُتب على الضفة الغربية تحديداً أن تخضع للتقسيم والإستيطان والتهويل مما أجهض أي احتمال بإنشاء دولة مستقلة فيها قبل نشوئها حتى.. وهكذا اتفق السياسيون والأكاديميون والجنرالات والموظفون الحكوميون في العام 1967 على تحويل الضفة الغربية وقطاع غزة إلى سجن ضخم هو السجن الأكبر إطلاقاً على وجه الأرض (ص 139-140)، متوقفاً عند دور المستوطنين، مؤكداً أن جوهر هذا الحافز الإستيطاني قد أبصر النور سنة 1882 وليس سنة 1967 (ص 246). وتحت عنوان التطهير العرقي في حزيران/ يونيو 1967 يتوقف بابيه عند استبعاد خيار التطهير العرقي الواسع النطاق بسبب الظروف الخاصة التي برزت غداة الحرب (ص185)، مع الإشارة إلى أن مئة الف لاجىء جديد وصلوا من الضفة الغربية ومعظمهم لاجئون للمرة الثانية (ص 188) وقد تمت عمليات طرد السكان تحت تسمية رسمية إسرائيلية مخادعة عنوانها (بنك الأهداف). يُبدي بابيه استغرابه قائلاً إن النقاشات الحكومية التي جرت في 25 حزيران/ يونيو (1967) تحديداً تكشف الكثير في هذا الشأن. المثير للسخرية أن هذا التاريخ هو عينه تاريخ قرار الحكومة إبقاء لاجئي الضفة الغربية في مخيماتهم. لا يوجد سوى مصادر أخرى قليلة جداً تروي موجة الأعمال الوحشية التي تصاعدت في تلك الأيام الأولى، في الضفة الغربية وقطاع غزة على حد سواء. فمنظمات حقوق الإنسان التي تبذل عادة جهوداً حثيثة وصادقة لتوثيق الأدلة في مثل هذه الحالات لم تظهر على الساحة إلا بعد فترة طويلة، كما لم يكتب الفلسطينيون آنذاك كتباً ومقالات عن الأيام الأولى للاحتلال، وبالتالي فإن المحاضر الحكومية تشكّل مصدراً مهما يكاد يكون حصرياً، بالإضافة إلى تقرير الأمم المتحدة سنة 1971 لتوثيق هذه السياسات الإجرامية (ص 190-191). ذات يوم وصف رئيس وزراء إسرائيل ليفي اشكول قطاع غزة بأنه وكر للأفاعي (ص 109).. والسجن الكبير والمتوحش التي فكرت إسرائيل في إنشائه سنة 1963 وأنجز بناؤه سنة 1967 يبلغ عمره مع نهاية هذا الكتاب خمسين سنة. لا قرارات الأمم المتّحدة سنة 1948 التي انتزعت 78٪ من أرض فلسطين، ولا كلّ تواطؤ العالم معها، كانت عوامل كافية لإشباع طمع الصهاينة بالسيطرة على ما يعتبرونه جزءاً من وطنهم التاريخيّ، أي الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. “فعقدوا في الغرف السوداء اجتماعات عدّة، ووضعوا الخطط القانونيّة والتنظيميّة لاحتلالهما وطرد الفلسطينيّين منهما، ولبثوا ينتظرون فرصة التنفيذ التي أتت بعد نحو عقدين. فما إن انقشع غبار المعركة حتّى بدأ الإسرائيليّون بتحويل الضفّة والقطاع إلى أكبر سجن على الأرض”.
(*) «أكبر سجن على الأرض: سردية جديدة لتاريخ الأراضي المحتلة»، كتاب إيلان بابيه المنشور باللغة الإنجليزية عام 2017، وبالعربية عن دار “هاشيت أنطوان” 2020، بيروت، ترجمة أدونيس سالم. ، وبابيه يعمل حالياً كأستاذ بكلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية بجامعة إكسيتر بالمملكة المتحدة منذ أن أرغم على مغادرة اسرائيل في العام 2008 ، ويشغل كذلك مدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية بالجامعة، والمدير المشارك لمركز إكسيتر للدراسات العرقية والسياسية. له عشرات الكتب منفرداً ومع آخرين والعديد من المقالات. وجميع أعماله تدور حول قضية الصراع والتخطيط الاسرائيلي لتهجير الفلسطينيين وغيرها.
نشرت في 26/06/2021 على موقع الزميلة “180”
Leave a Comment