أحمد بزّون*
لا شك في أن رحيل محسن إبراهيم، قبل سنة، كان حدثاً مهمّاً، كونه أتى بمثابة صحوة من مدى الصمت الذي عاشه في سنيّه الأخيرة، وقد انتبه عدد كبير من الذين يعرفونه أن رجلاً عظيماً غادر الدنيا.
يأخذنا رحيل محسن إبراهيم بالذاكرة إلى القمم التي اعتلاها الرجل في مسيرته النضالية، غير أن صمته الذي سبق رحيله بسنين طويلة كان أبلغ من حدث، كونه يختصر، بكل بساطة، حال اليسار اللبناني في ظل طغيان الأحزاب الطائفية القمعية التي سيطرت على لبنان، وقطعت أنفاس كل من يناهض نهجها، وكل من يتمادى في بث أفكار علمانية أو ديموقراطية، وقبل ذلك عندما أخرس السوريون كل من يشكل خطراً على سياستهم. كان صمته صراخاً داخليّاً، احتجاج مغلوب على أمره، صوت مكبوت ومعنّف، صدى التحولات السلبية التي خلفتها الحرب الأهلية في لبنان وما نتج من تمزق وانهيار وتبدل في الخريطة السياسية.
لأننا نعرف أهمية صوت محسن إبراهيم، وأهمية حضوره وكلامه ومعرفته وقدرته على تصويب بوصلة عدد كبير من اليساريين اللبنانيين التائهين، والمثقفين الباحثين عن الحقيقة، حتى لو كانت مُرة… لأننا نعرف ذلك كنا نعترض بتلقائية وعفوية وبديهية على صمته، ونتمنى أن يكون جريئاً كفاية كما نعهده. لكن اعتكاف الكبار قد يكون خياراً مقنعاً لنا أحياناً، لأنهم يفهمون اللعبة، ويقدرون العواقب.
نعرف أن الجرأة ليست تهوراً، ومحسن إبراهيم كان لديه من الجرأة ما يكفي ليحدد خيارات جديدة لو كانت مقنِعة، فهو وإن كان قد اختار منذ البداية أن يكون في مقدمة الناصريين العرب، ومع أنه كان مقرباً من الزعيم العربي عبد الناصر منذ الخمسينيات، فقد اختار أن يغادر القوميين العرب وينخرط في الموجة الماركسية التي اجتاحت العالم، فيشكل فصيلاً شيوعيّاً، ثم تجرأ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بسنين أن يطلّق الماركسية.
من جهة ثانية، فقد كان محسن إبراهيم من المدافعين والمناصرين للوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، وصديقاً مقرباً من ياسر عرفات، لكنه في المراجعة التي قدمها عام 2005، وفي الاحتفال التأبيني الذي أقيم في أربعين جورج حاوي عاد وانتقد ممارسات المقاومة الفلسطينية في لبنان ضمناً في معرض نقده للحركة الوطنية اللبنانية، عندما رأى أن الأخيرة “ذهبت، في معرض دعمها لنضال الشعب الفلسطيني، بعيداً في تحميل لبنان من الأعباء المسلحة للقضية الفلسطينية فوق ما يحتمل، طاقة وعدالة وإنصافاً”، كما انتقد استسهال الحركة الوطنية “ركوب سفينة الحرب الأهلية تحت وهم اختصار الطريق إلى التغيير الديمقراطي”.
نعرف شخصيات سياسية نشأت على أفكار وبقيت عندها، إلا أن محسن إبراهيم كانت لديه جرأة أن يغيّر، فقد لا يجوز اعتبار من يداومون على أفكارهم طوال عمرهم مخلصين أو صامدين، بل يمكن اعتبارهم أحياناً جامدين، متحجرين أو تقليديين، فنحن في عصر تتسارع فيه التغيّرات، فكل من يواكبها ويفتح آفاق عقله على المعرفة، وتكون وجهته المستقبل، يفكر في التغيير. بهذا المعنى كان محسن إبراهيم يقود عملية التغيير نحو الأفضل، مؤسساً لها فكريّاً وسياسيّاً وتنظيميّاً.
أنا من الذين كانوا يتابعون افتتاحيات محسن إبراهيم في مجلتي “الحرية” و”بيروت المساء” التي عملت فيها ثماني سنوات، ثم كنت أتابع أيضاً خطاباته، وأشعر بقدرته على الإقناع، وبلغته المسكوبة بوضوح، النابعة من معرفة وثقة بالنفس، فالمدرك للمشكلة يستطيع أن يبسّطها، ومالك أدوات اللغة كلها يعرف كيف يصل إلى قلب المستمع وعقله. وهو لم يهن أو يرتبك في الارتجال، قلما يخطئ في حركة إعراب، يتدفق بلباقة، وينتقي عباراته ببديهة حاضرة دائماً. بل كانت العبارات التي يبتدعها تسود في الكلام السياسي (الحرب الأهلية اللبنانية عبثية، الوطن باقٍ والاحتلال إلى زوال…).
لم يكن رفاقه في منظمة العمل الشيوعي وحدهم ينتظرون مقالاته وندواته وخطاباته، بل كان جمهور مواقفه وتحاليله السياسية يتخطى حتى أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية ولبنان، ويصل إلى خصومه، لأن كلامه، من دون مبالغة، كان حدثاً بذاته.
قبل سنة، عندما أسلم روحه بسلام للمطلق، صمت محسن إبراهيم صمت السكون الأبدي، من دون أن يعذبه ضمير، أو يكون مقهوراً، أو مضغوطاً على أمره، ومن دون أن يسأله أحد وقد ملّ الاعتذار ممن كانوا يحضّونه على الكلام، وكم هم الصحافيون الذين أرادوا أن يكون لهم سبق الحوار معه، واستنطاقه، وسماع تحليله للحياة السياسية التي نعيشها، ومعرفة موقفه ورؤيته للمستقبل.
أسئلة كثيرة كانت تدور في رؤوس العديد من الصحافيين، بعيداً عن أسباب صمته، لم يجب عنها محسن إبراهيم، وباتت معلقة، ولا ندري إن كان ما تركه من كتابات وتسجيلات غير منشورة يؤمن الإجابات الشافية. من تلك الأسئلة: لماذا انهارت منظمة العمل الشيوعي بهذا الشكل الدراماتيكي، خصوصاً أنها توسعت في السبعينيات حتى غدت في طليعة التنظيمات اليسارية في لبنان؟ لماذا تأخر محسن إبراهيم كل هذه المدة من 1982، تاريخ خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، حتى العام 2005، ليقدم نقداً لهذه المقاومة؟ لماذا لم ينتقد علاقة الحركة الوطنية بالحرب فور انتهاء الأخيرة كمناسبة لتقييم التجربة؟ كنا بعد 17 تشرين الأول 2019، نريد أن نعرف موقفه من الانهيار الذي يعيشه لبنان؟ ثم ماذا كان يمكن أن يقول من كان يميز بين 8 و14 آذار بعدما تساوى كل أركان السلطة في المسؤولية عن الفساد والإفساد وخراب البلد؟ ونسأل اليوم: هل غيّر محسن إبراهيم موقفه من الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بعد كل إخفاقاته، وبعدما سبقته شعوب العالم في الدفاع عن القضية الفلسطينية؟
نفتقد محسن إبراهيم كلما احتجنا إلى مفكر حر مستقل وجريء وقائد. نفتقده مفكراً يتطلع دائماً نحو المستقبل، فلا يتأخر عن الانقلاب بجرأة على نفسه كلما شعر بجمود أو تخلف عن كل جديد.
لقد افتقدناه عندما صمت، وكنا ننتظر على أمل أن يفك صمته يوماً ما، ونفتقده اليوم عندما غاب، وتحول إلى صفحات في تاريخ هذه الأمة، صفحات كتبها ويكتبها عارفوه من بعده. فهو رجل يستحق أن يضاء تاريخه.
يأخذني الكلام على تاريخ محسن إبراهيم إلى تذكر أخي حسن الذي كان واحداً من مفكري المنظمة، وكان يحدثني كثيراً عن علاقته بـ”أبو خالد”، وعن جلساته الخاصة معه، بطبيعة كونه رئيس تحرير “بيروت المساء”. فقد كان حسن شديد الإعجاب بشخصيته وقدراته المعرفية. حسن الذي نفتقده أيضاً ونحن نلامس سيرة وتاريخ أمينه العام، فقد كان يتهيأ، بعد النقاش معه، قبل رحيله عام 1987، لكتابة تاريخ المنظمة، ويولي أهمية كبيرة لهذه المهمة. المنظمة التي باتت اليوم تحيا عزّها في تاريخها لا في حاضرها.
لا أدري إن كان أحد تسلم هذه المهمة بعد حسن، فتاريخ المنظمة هو نفسه تاريخ زعيمها، بالتوازي والتداخل والتفاعل، فمن يضيء تاريخ حقبة لتكون، في نجاحاتها وإخفاقاته، مرتَكزاً لبناء يسار جديد أكثر جرأة على مغادرة الماضي وأفكاره المكرورة، وأكثر انفتاحاً على المستقبل، ويعرف كيف يتعامل مع انقلابات العصر الذي نعيش.
رحل محسن إبراهيم، وبقيت حقائبه، بقي بعضه في عقلنا، وسوف نتحسس ظله في الكثير من منعطفات حياتنا السياسية.
* مؤلف وصحافي وكاتب لبناني
Leave a Comment