أزعُمُ أنّ ما شهدتْهُ طرابلُس وتَشْهَدُهُ من احتِجاجٍ موسومٍ بالعُنْفِ لا يُفْهَمُ عنفُه بالعَداءِ لأهلِ السلطةِ وحدَهُم. بل هو يُفْهَمُ، قَبْلَ ذلك، برَفْضِ الجُمودِ والمُراوحةِ اللذَيْنِ جنَحَتْ إليهما الحركةُ الشعبيّةُ، وقد مضى على انطِلاقِها عامٌ وبضعةُ أشهرٍ. لا يرجو العُنْفُ الطرابلسيُّ شيئاً من جهةِ أهلِ السلطةِ، على الأرجَحِ، ولن يحصُلَ منهم على شيء. فلقد أثبتَ هؤلاءِ، بما عادَ لا يحتملُ الشكَّ، أنّهم باتوا عاجزينَ، تكويناً وعَلاقاتٍ ومَصْلحةً، عن المعالجةِ الكبرى لأزمةِ البلادِ، وعن المعالجاتِ الفرعيّةِ لهذا أو ذاكَ من وجوهِها أيضاً. فهؤلاء يشعُرونَ، كلّما هَمّوا بوضعِ قدَمٍ على سكّةٍ للمعالجةِ، أنّهم ذاهبون إلى المصيرِ الذي أعَدَّتْهُم له مسؤوليّتُهم عن الدمارِ الشاملِ الذي ألحَقُوه بالبلادِ وبحياةِ أهْلِها. لذا يُحْجِمون أو يَحْتَمون بالخلافاتِ بينَهُم من الإقدام.
ولكنَّ عُنْفَ طرابلس لا يفسَّرُ بكسبٍ مأمولٍ لمعتَمِديهِ: هؤلاءِ يائسون من الكَسْبِ ولكنّهم باتوا (قَبْلَ سِواهم بقليلٍ أو كَثيرٍ) عاجزينَ عن تدَبُّرِ قوتِهِم اليوميِّ، وقد سقط منهم قتيلانِ ومئاتٌ من الجرحى في ليلتين. وهُم لن يحصُلوا على ما يَخْرُجون به من يأسِهِم بإحراقِهِم مبنى البلديّةِ بما فيه أو بجُهْدِهِم لاحتلال السراي، بل سيَرْتَدُّ عليهِم ذلك عَزْلاً ومَزيداً من اليأس. ففي حصونِ السلطةِ، وهي بعيدةٌ عن متناولهم، لا يوجَدُ من يرغبُ في التلبيةِ أو يقوى عليها…
لذا لا يجِدُ العُنْفُ تفسيرَه في فاعِليّتِه. وإنّما يفسّرُه، قَبْلَ ذلك، أنّ الحركةَ الشعبيّةَ التي زلزَلت البلادَ أشْهُراً تخَلَّفَت، حتّى الآنِ، عن رسمِ طريقٍ مرئيّةٍ تسلُكُها ويسلُكُها، في صفوفِها، جمهورُ الطرابلسيّين الذين كانوا صَدارةً لها من اليومِ الأوّل. عليهِ يصِحُّ أن نرى في هذا العُنْفِ الذي تشهدُهُ طرابلُس إعْلاناً لشُعورِ أهْلِها بأنَّهُم متروكون من جانبِ الحركةِ الشعبيّةِ الجامعةِ تلكَ، وتعويضاً، من جانِبِهم، بالقوّةِ المادّيّة (أي بالنارِ والدَمارِ) لقوّةٍ معنويّةٍ أو سياسيّةٍ فَقَدوها بحُكْمِ العزلة. بهذا المعنى، يواجِهُ عنفُ الطرابلسيّين تَخَلّي الحركةِ الشعبيّة قَبْلَ مواجهتِهِ سلطةً باتت تَجْمَعُ، على نحوٍ عَجَبٍ، ما بينَ التشبُّثِ المستَميتِ والاستقالةِ النَذْلة.
وعليهِ يسَعُنا القولُ أنّهُ لو تحَصّلَ اقتناعٌ بأنَّ الحركةَ الشعبيّةَ عارفةٌ طريقَها وماضيةٌ في إنشاءِ بُناها وتثبيتِ خطاها وتعزيزِ وسائلِها لَما احتَرَقَت بلديّةُ طرابلُس…
(*) مدونة نشرها الباحث احمد بيضون في صفحته الفايسبوكية
Leave a Comment