كتبت ليلى مروة*
يبدو أن منطقة بعلبك الهرمل لا تعد ضمن نطاق الدولة اللبنانية، ولا أي دولة بالمفهوم المتعارف عليه عالمياً باستثناء اللبنانية “الفريدة” بين الدول، بعدما استبيحت المنطقة بأمنها واستقرارها واقتصادها ومعيشتها وأمن أبنائها. وتحولت بالتالي إلى منطقة معزولة عن مداها الوطني نتيجة صيتها الذي أصبح مضربا للمثل في الفلتان الامني، وارتفاع منسوب التعديات ومستوى الجريمة كماً ونوعاً، وضمنها السرقات والتزوير والتشبيح والغش، فضلاً عن أنها تحولت مرتعاً للفارين من وجه العدالة واصحاب السوابق وتجار الممنوعات…
كل ما يدور في هذه المنطقة لا يحكمه منطق أو قانون، باستثناء تسخير مؤسسات الدولة لحشوها بأزلام المنتمين والمناصرين للأحزاب صاحبة الكلمة الفصل في كل شاردة وواردة، حتى أن مفهوم العشائر ضُرِبَ في العمق بعدما عبثت بها الأحزاب وشوهت تقاليدها.
تعود النزاعات في منطقة بعلبك الهرمل إلى حقبات تاريخية متفاوتة وأسباب متعددة منها: سياسية، اقتصادية، اجتماعية، عشائرية وعائلية، ناهيك عن دور السلطة السياسية والسلطات المحلية قبل و بعد الاستقلال.
شهدت المنطقة نزاعات سياسية وأمنية وعسكرية خلال عهود ما قبل الاستقلال وإلى يومنا هذا. تجلت هذه الصراعات خلال أحداث عام ١٩٥٨ في عهد الرئيس كميل شمعون الذي انحاز إلى حلف بغداد لمواجهة المشروع العربي الوحدوي الذي قاده جمال عبد الناصر، حيث كان الثوار يواجهون السلطة السياسية و أجهزتها الأمنية والعسكرية وحلفائها من أحزاب لبنانية لها فروع في المنطقة وبعض قراها والبلدات..
جاءت الحرب الأهلية الطائفية عام ١٩٧٥ التي استمرت خمس عشرة عاما حيث شهدت المنطقة أعمالاً عسكرية، وبانتهاء الحرب استعادت هذه بلدات وقرى الجوار علاقتها الطبيعية. مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري شعر قسم من أهالي المنطقة بحجم الخسارة التي أصابتهم على الصعيدين اللبناني والمحلي. ومما زاد الأمر تعقيدا أحداث ٧ أيار 2008 التي أخذت طابعا مذهبيا في بيروت و المناطق، مما زاد من حدة الصراع والخلافات بين المكونات اللبنانية، وانعكس ذلك على منطقة بعلبك الهرمل. أخذ الصراع المذهبي مناحٍ خطيرة هددت وحدة المجتمع المحلي.
وقد عزز الشعور المذهبي لاحقاً اندلاع الثورة السورية وانخراط أطراف لبنانية في هذا الصراع الدامي إلى جانب النظام السوري، ما زاد في تعقيدات الأوضاع الاجتماعية والأمنية والمذهبية، خاصة بعد أن أصبحت المعارك العسكرية على الحدود اللبنانية، وأدت إلى تهجير أهالي بلدة الطفيل، وإلى حصول مواجهات في محيط عرسال ومع مخيمات النازحين السوريين، واحتكاكات مع المناطق والقرى الواقعة على الطريق العام مثل: اللبوة، البزالية، مقنة وغيرها. إضافة إلى حادثة سوق بعلبك التي أدت إلى استشهاد عدد من الشباب “شيعة وسنة”، وما تزال مفاعيل هذه الحادثة قائمة حتى الآن دون حل.
ويضاف إلى الأسباب سالفة الذكر أسباب تتعلق بدور السلطة السياسية ونظرتها إلى منطقة بعلبك الهرمل من حيث رعايتها للتناقضات والصراع والعمل على تغذيتها في أوساط العشائر والعائلات، وإدارة الصراع بين مكونات المجتمع المحلي وإغراق الفعاليات والزعامات المحلية برخص السلاح، لا سيما المناطق الحدودية واستخدامها لجذب الناخبين إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات النيابية.
اما النزاعات التقليدية فيأتي في مقدمها، الخلاف على الأراضي سواء تعلق الأمر بالإرث، أو بالحدود، أو الخلافات العشائرية حيث العادات الثأرية مستمرة، وكامنة كالجمر تحت الرماد. تطفو على السطح بين حين وآخر وتدخل المنطقة في مسلسلها الدموي الذي لا ينتهي. و يعود ذلك إلى غياب دور الدولة والسلطات السياسية والأمنية والقضائية.
وإلى اليوم لا يزال الفلتان يزداد مع ارتفاع مستوى الجرائم والتعديات وفرض الرعب على الأهالي، سواء في مدينتي بعلبك – الهرمل أو البلدات والقرى المحيطة، بفعل أصوات القذائف الصاروخية التي تنقجر في سماء المنطقة مصحوباً بالرصاص الذي يلعلع في الأجواء من مختلف أنواع الأسلحة.
إن السؤال الأهم الذي يطرحه الأهالي الذين يعانون في أمنهم ودمار أرزاقهم وتهديد حياتهم وعائلاتهم وشل حركتهم يكمن في أسباب رعاية و تفرج الدولة بأجهزتها الأمنية والعسكرية على استمرار استباحة حياتهم بكل ما في الكلمة من معنى، دون أن يتحرك أحد لوقف هذه المهزلة المرعبة يومياً..
فإين دور المؤسسة العسكرية و قوى الأمن الداخلي وسائر الأجهزة الأمنية في حماية المواطنين العزّل؟ ولماذا هذه الاستنسابية في التعاطي بين المناطق حيث تحضر الدولة بكل أجهزتها اذا ما وقع أشكال بسيط أو تم إطلاق رصاص من مسدس في الافراح والأتراح في سائر المناطق اللبنانية، فيما تغض الطرف عن معارك بكل ما في الكلمة من معنى تستخدم فيها جميع انواع الأسلحة الرشاشة والقذائف الصاروخية باهظة الثمن مكتفية ببيان..
إن الوضع المأساوي الذي وصلت إليه منطقة بعلبك -الهرمل وحالة الفوضى نضعه ضمن خانة التقصير من قبل الدولة بكافة أجهزتها الأمنية والعسكرية وحتى الإعلامية، وحتى العشائر والفعاليات أيضا عليها أن تتحمل مسؤولياتها في عودة الأمن والأمان لهذه المحافظة.
إن المنطقة بحاجة لسيادة هيبة الدولة بديلاً عن لغة الدم والرصاص والفلتان. فالتردد في إعادة الاستقرار لهذه المنطقة يشجع المخلين بالأمن على المضي في الحاق الأذى الجسدي والمادي والمعنوي بالمنطقة وأهلها.
ومن المستغرب أن نواب المنطقة هم صمٌ بكمٌ كأنهم في عالم آخر. لا مواقف لديهم ضد هذه الظواهر الخطيرة، كما أن هيئات المجتمع المدني وبعض الفعاليات السياسية والاجتماعية التربوية والتجار راجعوا المسؤولين الأمنيين والعسكريين ونبهوا إلي خطورة الفلتان الأمني، كما قام أكثر من وفد منهم بزيارة الرؤساء الثلاثة، ووضع الامور بتفاصيلها أمامهم ولم يسمعوا منهم الا الوعود…
وما تزال حالة الفلتان الأمني نحو مزيد من التصاعد، وما يزال المواطن معرضاً للقتل والسلب والخطف على الطرقات العامة، حتى باتت الطرقات العامة الرئيسية في المنطقة مسرحاً للجرائم اليومية.
نعم، إنه العهد القوي وحلفائه هم الذين أمنوا الغطاء السياسي لهذه العصابات المسعورة، وحرموا المواطن من ابسط حقوقه في الأمن والحياة…
*رئيسة التجمع النسائي الديمقراطي
Leave a Comment